لفتت الأرقام التي كشفها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بشأن ارتفاع قيمة الإنتاج الفلاحي اهتمام كثير من المتابعين، حيث تُشير إلى نموٍّ متواصل لهذا القطاع، رغم الجفاف الذي ضرب البلاد في السنوات الأخيرة، وهو ما طرح تساؤلات حول وجود استثمار حقيقي في الإمكانات الزراعية للبلاد بعدما كانت مهمشة لعدة أعوام، وإن كانت هذه المعطيات ستحافظ على منحى تصاعدي في أداء القطاع الفلاحي في قادم السنوات.
عرفت بعض المواد الأساسية مثل الطماطم والبطاطا غلاءً غير مسبوق استمرّ لعدّة أسابيع رغم الإجراءات والتدابير المتخذة من طرف الحكومة
رغم الاضطرابات التي تعرفها السوق الجزائرية أحيانًا بشأن أسعار بعض المنتجات الفلاحية، إلا أن الأداء الكلي لها يبقى يحمل "مؤشرات خضراء"، بما أن القيمة المالية تتزايد عامًا بعد آخر، مما يفرض على السلطات والجزائريين ككل الاهتمام أكثر بهذا القطاع الذي قد يكون داعمًا للنفط في توفير مداخيل إضافية للبلاد.
ارتفاع جديد
إلى هنا، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الثلاثاء الماضي، خلال إشرافه على مراسم الاحتفال بالذكرى الـ50 لتأسيس الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين أن قيمة الإنتاج الفلاحي في الجزائر قد وصلت في 2024 إلى 37 مليار دولار.
وعكس هذا الرقم ارتفاعًا متواصلًا في آداء القطاع الفلاحي الذي كان قد وصل في 2020 إلى 25 مليار دولار بعدما كان عند 23 مليار دولار في 2019.
وارتفعت مساهمة الفلاحة من 12 % في الناتج المحلي الخام في 2019 إلى 15 %، وهي المساهمة التي يتوقع أن تستمر في المواسم الفلاحية المقبلة، كون قانون المالية لسنة 2025 يتوقع تحقيق نمو بـ4.4 % خلال السنة الجديدة.
وتعكس هذه الأرقام الاستثمار المتواصل في قطاع الفلاحة، فبيان السياسة العام للحكومة لسنة 2023 يشير على سبيل المثال إلى رفع التجميد عن 74 مشروعًا استثماريًا كان مجمدًا بمبلغ يقارب 91 مليار دينار، وذلك بدون احتساب الاستثمارات الجديدة التي استطاعت أن تنجو من سيف التجميد الذي كانت تمارسه الآلة البيروقراطية في السنوات الماضية.
هذه الأرقام المطروحة من طرف الجهات الرسمية، لا يقابلها واقع ملموس في أسواق الجزائريين، وفق القراءات الإعلامية التي تشير إلى وجود غلاء في الأسواق شهدته الفترة الماضية، فقد عرفت بعض المواد الأساسية مثل الطماطم والبطاطا غلاءً غير مسبوق، لم يشهده المواطنون في سنوات سابقة، واستمرت موجة الغلاء لعدّة أسابيع قبل أن تنخفض أسعارها.
ويربط متابعون بين واقعية الأرقام المقدمة، وبين الأسعار المتداولة في الأسواق، وإن كانت بعض المنتجات لم تعرف ندرة في الأسواق، إلا أنها حافظت على أسعارٍ مرتفعة، رغم التدابير والإجراءات ومحاولة توزيع مخزون غرف التبريد لتدارك النقص الموجود.
إلى هنا، يمكن الإشارة إلى أن سعر البطاطا في الأسواق حافظ على سعر يتجاوز 100 دينار طيلة الأسابيع الماضية على الأقل، بينما سجلت الطماطم أرقامًا قياسية بمحافظتها على سعر يتجاوز 200 دينار في الأسواق، أما سعر الفواكه، فقد خرجت من قائمة القدرة الشرائية للمواطنين منذ عدة أشهر، حيث يتجاوز سعر الموز في الجزائر (3.4 دولار) بينما لا يتجاوز في الأسواق العالمية (1.05 دولار)، وهو ما يطرح عدّة أسئلة حول موضوع احتكار سوق الاستيراد وتأثيره على الأسعار المحلية.
إلى هنا، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة الجزائر جمال الدين نوفل شريف لـ"الترا جزائر" إن "رقم 37 مليار دولار الذي صرح به ريس الجمهورية هو مؤشر جيد للجزائر التي يمكنها مواصلة هذا النمو في قطاع خارج المحروقات، كونه رقم مشجع لخلق الصروة بعيدًا عن برميل النفط".
وبالنسبة لنوفل شريف، فإن هذه المؤشرات الاقتصادية تعني أن الحكومة الجزائرية تسعى حقيقة إلى بناء اقتصاد قوي مستقل عن تقلبات سوق البترول، بما أن قطاع الفلاحة استطاع أن يحقق هذه الأرقام في قيمة إنتاجه للعام الحالي، في نمو واضح عما كان خلال السنوات الماضية.
عدة عوامل
عند النظر إلى الإجراءات التي اتخذتها في السنوات الماضية لتنمية القطاع الفلاحي، يتضح أن النتيجة المحققة هذا العام لم تأت من فراغ، إضافة إلى أنها تؤكّد التصنيفات الدولية التي وضعت الجزائر في مراتب متقدمة أفريقيًا وعربيًا في مجال الأمن الغذائي، حيث تحتل الصدارة أو مراتب متقدمة في إنتاج عدة محاصيل حتى وإن كانت ليست من المصدرين الأوائل لهذه المنتجات.
وتأتي الجزائر على سبيل المثال في المرتبة الثالثة أفريقيًا والثانية عربيًا من حيث إنتاج الطماطم بـ1.64 مليون طن، لكنها ليست ضمن المصدرين الأوائل في المنطقة، والأمر ذاته بالنسبة للبصل إذ تحتل المرتبة الثانية أفريقيا بـ1.76 مليون طن سنويًا، وكذا بالنسبة للبطيخ الأحمر (الدلاع) حيث تأتي الجزائر في المرتبة الخامسة عالميًا والأولى عربيًا وأفريقيًا بإنتاج 2.3 مليون طن من الدلاع سنويًا، وفق إحصاءات لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو".
وأقرت الحكومة عدة إجراءات في هذا الشأن منها ما أعلن عنه في مجلس الوزراء المنعقد في أيلول/سبتمبر 2022، والخاص بـ"السماح باستيراد المعدات الفلاحية بكل أنواعها، وقطع غيارها، سواءً بالنسبة للخواص بشكل فردي، أو من قبل الشركات، واستيراد الجرّارات الفلاحية، الأقل من خمس سنوات، إلى غاية إحداث التوازن بين الإنتاج الوطني من الجرّارات، وتلك المستوردة".
وأمر الرئيس تبون حينها بـ"ضرورة إخراج الفلاحة من الطابع الاجتماعي، إلى الطابع العلمي، وفق نظرة عصرية، تشمل تكوين وتأهيل المورد البشري، واعتماد تقنيات جديدة في بناء مخازن المحاصيل الزراعية، من أجل تسريع عملية التشييد، خاصّة في الولايات المعروفة، بإنتاجها الغزير، وتغيير الإدارة التقليدية لتسيير الفلاحة، واستحداث شُعب جديدة في كل الولايات، على غرار الشُعب الموجودة وطنيًا، وإنشاء الشركات الناشئة والمؤسّسات المصغرة، لمَعصرات الزيت والحبوب الزيتية، حتى ولو كانت لتلبية حاجيات السوق المحلية".
وأجرت الحكومة إصلاحات هيكلية في قطاع الفلاحة، بتشجيع الاستثمار الداخلي والأجنبي وتوفير العقار الفلاحي ورفع العراقيل في مجال التمويل، ما انعكس إيجابا على عديد المؤشرات، والتي جعلته يساهم اليوم بـ15 % في الناتج المحلي الخام، ويمثل أكثر من ربع اليد العاملة الناشطة، ما يعادل 3 ملايين عامل.
رهان اقتصادي
وقبل عام، ذكرت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية أنه "لم يسبق أن شكلت رهانات توفير شروط الأمن الغذائي والمائي المستدام أولوية ملحة لدى السلطات الجزائرية مثلما تشكله منذ نحو ثلاث سنوات، وهذا ضمن الرؤية الشاملة والاستشرافية التي يطبقها رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، وقوامها خطط وبرامج تضع المواطن الجزائري في قلب اهتماماتها لتحقيق انطلاقة جديدة نحو جزائر مزدهرة".
وحسب وكالة الأنباء الرسمية، فقد وضع الرئيس تبون " خطّة لتحديث الفلاحة وتطوير الإنتاج الحيواني والصيد البحري لضمان الأمن الغذائي"، مبينة إن "هذا المسعى تفرضه حتمية بناء اقتصاد وطني قوي، متنوع، مدر للثروة ويحصن الأمة من التبعية للخارج وللمحروقات ".
وصنف المؤشر العالمي للأمن الغذائي الصادر في 2022 الجزائر في صدارة البلدان الإفريقية وفي المرتبة 54 من بين 113 بلدًا عبر العالم في سنة 2021، كما احتلت الجزائر الصدارة عربيًا من حيث عدم تسجيل معدلات كبيرة بشأن نقص التغذية، إذ لم تتجاوز النسبة 2.5 %.
وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة الجزائر جمال الدين نوفل شريف لـ"الترا جزائر" أن السعي لتحقيق الأمن الغذائي جعل "الحكومة تولي اهتمامًا بالغًا بقطاع الفلاحة عن طريق دعم استصلاح الأراضي وسن إعفاءات جبائية للفلاحين، وتقديم إعانات لهم عند حدوث الكوارث كالحرائق والجفاف، وهو ما جعل المستثمرين والفلاحين يندمجون آليًا في سياسة الدولة لتحقيق الأمن الغذائي".
ويظهر هذا الاهتمام من خلال ما قاله تبون في احتفالية الثلاثاء الماضي، حينما اعتبر ما تحقق مؤشر "يبشر بالخير وصواب الأسلوب الذي تنتهجه الجزائر للتحرر من التبعية للمحروقات".
وقال " قد جعلت بلادنا من الأمن الغذائي رهانًا استراتيجيًا، يتوجب علينا كسبه، في عالم أصبح فيه سلاح الغذاء أقوى الأسلحة وأشدها تأثيرًا".
وأضاف "علينا الوصول إلى تصدير منتجاتنا الزراعية. وانقطاع تموين السوق بالمنتج الزراعي من علامات التخلف التنموي. ولذلك آمر البنوك بفتح القروض لفائدة الفلاحين، لتشييد غرف التبريد، ولتخزين المنتج الزراعي بهدف ضمان استقرار السوق ومحاربة المضاربة".
جمال الدين نوفل لـ "الترا جزائر": السعي لتحقيق الأمن الغذائي جعل الحكومة تولي اهتمامًا بالغًا بقطاع الفلاحة عن طريق دعم استصلاح الأراضي وسن إعفاءات جبائية للفلاحين
ولعل أهم اختبار في امتحان تحقيق الأمن الغذائي هو النجاح في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مادة القمح الصلب، بعد أن أمر الرئيس تبون بعدم استيراد أي قنطار منها العام المقبل، وهو ما سيوفر آليا مليارات الدولارات للخزينة العمومية، ويفتح الباب لتصبح الفلاحة منافسا حقيقيا للنفط في دعم الناتج المجلي الخام للبلاد.