الإصلاحات الاقتصادية بالجزائر في 15 شهراً .. هل تتجاوز الحكومة اختبار الزمن؟

تُواجه الحكومة عدة تحديات مع اقتراب المُهلة الزمنية المحددة بـ 15 شهراً لتنفيذ إصلاحات شاملة تهدف إلى تحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد الوطني. 

الرهان على تحقيق تحول اقتصادي شامل في الجزائر خلال 15 شهراً يتطلب إرادة سياسية واضحة، وتسريع الإصلاحات الهيكلية، مكافحة الفساد، تحديث النظام البنكي، وتنويع الاقتصاد لضمان بناء نموذج اقتصادي مستدام وقادر على المنافسة دولياً

هذا السباق مع الساعة يضع مختلف الهيئات العمومية أمام اختبار حقيقي، بين الحاجة إلى اتخاذ قرارات جريئة وسريعة، وبين التعقيدات المتراكمة لسنوات من التحديات الاقتصادية والاجتماعية. 

هل ستتمكن الحكومة من تحويل هذه الرؤية الطموحة إلى واقع ملموس، أم أنّ الوقت سيشكل عائقًا يصعب تجاوزه؟ أو هناك عدة ملفات تحتاج للزمن للتنفيذ؟

تطمح الحكومة بحلول سنة 2027 إلى بلوغ ناتج محلي خام بقيمة 400 مليار دولار، فيما لم يتبق من المهلة الزمنية المعلنة لتحقيق هذا الهدف سوى 15 شهرا، وسط تساؤلات الخبراء حول ما إذا كانت الفترة كافية لتجاوز العقبات الاقتصادية الراهنة. 

وتشمل هذه العقبات ملفات ثقيلة، من بينها تأثير الفساد السابق على بيئة الأعمال، الحاجة إلى توسيع قاعدة الاقتصاد خارج المحروقات، وتعزيز مشاريع الرقمنة، الصناعة، والطاقة المتجددة، بما يضمن استدامة الموارد وخلق فرص شغل ذات قيمة مضافة.

ويأتي هذا الطموح استكمالًا للتعهد الذي أطلقه الرئيس عبد المجيد تبون قبل عامين، والرامي إلى دفع الاقتصاد الوطني نحو مسار أكثر ديناميكية، عبر تركيز الجهود على تنويع مصادر النمو، وتحديث المنظومة البنكية، وتفعيل إصلاحات هيكلية تعيد الثقة إلى بيئة الأعمال، وتُهيئ الظروف لإنجاز مشاريع كبرى خلال ما تبقى من المهلة الزمنية.

ملفات ثقيلة تنتظر حكومة سيفي غريب

يرى عدد من المتابعين أن المرحلة المقبلة "مفصلية" في المسار الاقتصادي للبلاد، تفرِض تسريع وتيرة الإصلاحات وتجاوز التردد في اتخاذ القرارات. ذلك بعدما ارتبطت الآمال بتحقيق انتقال فعلي نحو نموذج اقتصادي ناشئ في ظرف لا يتعدى 15 شهراً، وفق السقف الزمني الذي حدّده رئيس الجمهورية.

في هذا السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي عبد الرحمن هادف في تصريح لـ"الترا جزائر" أن المسألة لا تتعلق بمجرد سباق مع الزمن، بقدر ما ترتبط بمدى وضوح الرؤية السياسية، وقدرة الجهاز التنفيذي على ترجمة الأولويات إلى قرارات عملية سريعة وفعالة.

الخبير الاقتصادي عبد الرحمن هادف لـ"الترا جزائر":  حكومة سيفي غريب الجديدة ورثت ملفات ثقيلة ومعقدة، من أبرزها عملية تحرير الاقتصاد من تبعيته المطلقة للمحروقات، وتنويع مصادر النمو 

ويشرح هادف أنّ حكومة سيفي غريب الجديدة ورثت ملفات ثقيلة ومعقدة، من أبرزها عملية تحرير الاقتصاد من تبعيته المطلقة للمحروقات، وتنويع مصادر النمو بشكل يضمن استدامة الموارد ويخلق فرص شغل ذات قيمة مضافة.

وأضاف قائلاً:" الجزائر، تملك أوراقا رابحة لم تستغل بعد كما ينبغي، مثل موقعها الجغرافي كبوابة لأفريقيا، ثرواتها الطبيعية الهائلة، طاقاتها البشرية الشابة، وأسواقها الداخلية الواسعة"، موضحا:" تحويل هذه الإمكانات إلى محركات حقيقية للنمو يقتضي جرأة سياسية وإصلاحات هيكلية عميقة".

من 18 بالمائة إلى أقل من 5 بالمائة .. تراجع الصناعة التحويلية

يُشير الخبير الاقتصادي عبد الرحمن هادف إلى أنّ التصنيع يبقى التحدي الأبرز، بعد أن تراجعت مساهمة الصناعة التحويلية من 18 بالمائة في الثمانينيات إلى أقل من 5 بالمائة اليوم، كما يضيف أنّ إعادة الاعتبار للصناعة ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو شرط أساسي للانتقال إلى اقتصاد ناشئ، لأن الدول الصاعدة لم تبلغ مكانتها إلا عبر رهانها على التصنيع كقاطرة رئيسية للتنمية.

عبد الرحمن هادف: تراجع الصناعة التحويلية، عقبة صامتة في طريق الجزائر نحو التنمية...هل يُبنى اقتصاد المستقبل بلا تصنيع؟

يرى هادف أنّ الأولويات في هذا المجال متعددة، بدءا من الصناعات الغذائية والصيدلانية، مرورا بالصناعات الرقمية والكهربائية، وصولا إلى الطاقات المتجددة، هذه القطاعات، إذا ما حظيت بالدعم المناسب، يمكن أن تضع الجزائر على سكة جديدة وتفتح لها أسواقا إقليمية ودولية واسعة.

بالنسبة لمحدث " الترا جزائر"؛ فإنّ "لرقمنة والثورة التكنولوجية لا تقلّ أهمية عما سبق ذكره، حيث يشهد العالم اليوم قفزة نوعية مع الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيات الجيلين الخامس والسادس، وهي مجالات تحدد اليوم موقع الدول في سلاسل القيمة العالمية.

واقترح الاستثمار الجاد في هذه التكنولوجيات، وربطها بالابتكار المحلي وتشجيع التصدير، يمثّل – حسبه- مدخلاً أساسيا لتأهيل المؤسسات الجزائرية وجعلها قادرة على المنافسة إقليميا ودوليا.

صناديق استثمار بدل القروض التقليدية

من دون إصلاح بنكي جذري.. هل يمكن للجزائر تمويل اقتصاد المستقبل؟ يقول الخبير الاقتصادي عبد الرحمن هادف إنّ "التحول الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق دون معالجة جذرية للعقبات البنكية والمالية، فالنظام المصرفي في الجزائر مازال بعيدا عن المعايير الدولية، وهو ما يعيق تمويل المشاريع المبتكرة والاستثمارات الكبرى، ومن هنا تأتي ضرورة تحديث القطاع البنكي، تفعيل أدوات السوق المالية، ومنح بورصة الجزائر دورا محوريا في تعبئة التمويلات البديلة.

كما يقترح هادف إنشاء صناديق استثمارية متخصصة في قطاعات المستقبل مثل الطاقات المتجددة والدواء والرقمنة، باعتبارها آلية لتأمين تمويلات مستدامة تقلل من الاعتماد على القروض البنكية التقليدية.

ويولي الخبير أيضا أهمية خاصة لملف العقار الصناعي والمناطق الاقتصادية الخاصة، مذكرا بنجاحات تجارب عالمية مثل شينزن في الصين، أولسان في كوريا الجنوبية، وكاتوفيتسه في بولندا، فهذه المناطق، وفق رأيه، أثبتت فعاليتها في جذب الاستثمارات ونقل التكنولوجيا، وتمكين الدول من الاندماج في سلاسل الإنتاج العالمية، والجزائر، إذا ما أعادت هيكلة منظومة العقار الصناعي واعتمدت مناطق اقتصادية متكاملة، يمكنها أن تستفيد من هذه النماذج وتكيفها بما يتناسب مع خصوصياتها الوطنية.

هل تكفي 15 شهراً لتأهيل بيئة الأعمال في الجزائر؟

في تصريح لـ"الترا جزائر"، أكد الخبير الاقتصادي هواري تيغريسي أن هدف إدماج الجزائر ضمن نادي الدول الناشئة خلال 15 شهراً هو هدف طموح يحمل في طياته بعدين أساسيين: أولاً، التعبير عن إرادة سياسية واضحة على أعلى المستويات، وثانياً، تحفيز الحكومة على تسريع وتيرة الإصلاحات الهيكلية.

الخبير الاقتصادي هواري تيغريسي لـ"الترا جزائر":   التحدي الزمني، رغم ضيقه، يمكن أن يشكل دافعاً قوياً لإطلاق ديناميكية اقتصادية جديدة، شريطة أن تترافق الوعود مع قرارات ملموسة على أرض الواقع

ويشير تيغريسي إلى أن هذا التحدي الزمني، رغم ضيقه، يمكن أن يشكل دافعاً قوياً لإطلاق ديناميكية اقتصادية جديدة، شريطة أن تترافق الوعود مع قرارات ملموسة على أرض الواقع.

ويضيف الخبير أن التحديات كثيرة، من أبرزها الفساد الذي كان على مدى سنوات حاجزاً أمام استقرار بيئة الأعمال. ويرى أن مكافحة هذه الظاهرة، التي أدرجها الرئيس تبون ضمن أولويات المرحلة، تمثل المدخل الطبيعي لجذب الاستثمارات وإعادة بناء الثقة مع الفاعلين الاقتصاديين.

كما أشار إلى أن الخطوات المعلنة في مجال الرقمنة وتبسيط الإجراءات تمثل رسالة إيجابية للمستثمرين، خاصة مع التوجه لاعتماد منصات رقمية تقلل من الزمن والتكاليف وتقطع مع البيروقراطية التي أعاقت لسنوات مسار الإصلاح.

هواري تيغريسي: الوقت يضغط والإصلاحات مطلوبة وأبرز التحديات تكمن في مكافحة الفساد الذي يعرقل بيئة الأعمال

أما فيما يتعلق بتنويع الاقتصاد، فقد نوه تيغريسي بالتوجهات الكبرى التي أعلن عنها رئيس الجمهورية، وفي مقدمتها تطوير الصناعة التحويلية، عصرنة الفلاحة، وتوسيع الاستثمار في الطاقات المتجددة، ويرى أن هذه الاختيارات ليست مجرد شعارات، بل هي مسارات عملية قادرة على تقليص الاعتماد على المحروقات وفتح مجالات جديدة للنمو، خاصة مع انطلاق مشاريع كبرى في مجالات السكن والبنى التحتية، التي ستوفر بدورها آلاف مناصب الشغل وتعزز الطلب الداخلي.

وأشار الخبير إلى أنّ الجزائر تمتلك أوراقا مهمة يمكن استثمارها في هذا الظرف، أبرزها موقعها الاستراتيجي كبوابة لأفريقيا، وطاقاتها البشرية الشابة، إضافة إلى شبكة من المشاريع الوطنية الكبرى التي يجري تنفيذها في مختلف القطاعات، واعتبر أن انخراط الجزائر في مسار الثورة الصناعية الخامسة، من خلال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس، سيكون عاملا حاسما في تحديد موقعها في سلاسل القيمة العالمية.

وختم تيغريسي بالتأكيد على أن 15 شهرا قد لا تكفي لإنهاء كل الملفات، لكنها كفيلة بوضع الأسس الصلبة لانطلاقة جديدة، فإذا "استمرت الإرادة السياسية التي عبر عنها الرئيس تبون، ورافقتها خطوات عملية متدرجة في الميدان، فإن الجزائر ستقترب أكثر من تحقيق حلم الدولة الناشئة، ليس كشعار ظرفي بل كمسار استراتيجي دائم".

إصلاحات اقتصادية هيكلية

الرهان على تحقيق تحول اقتصادي شامل في الجزائر خلال 15 شهراً يتطلب إرادة سياسية واضحة، وتسريع الإصلاحات الهيكلية، مكافحة الفساد، تحديث النظام البنكي، وتنويع الاقتصاد لضمان بناء نموذج اقتصادي مستدام وقادر على المنافسة دولياً.

يتطلع الخبراء إلى ضرورة بناء نموذج اقتصادي مستدام، يُوازن بين النمو والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة، ويوفر للأجيال القادمة اقتصاداً متحرراً من الريع وأكثر اندماجاً في النظام الاقتصادي العالمي.