مجتمع

الخُبز الجزائري.. حكاية كرامة وهوية بين التقديس والتبذير

19 سبتمبر 2025
الخبز الجزائري
مهدي براشد
مهدي براشدكاتب من الجزائر

علاقة الجزائريين بالخُبز علاقة عجيبة، متميزة، ليس فقط لأنهم من أكثر الشعوب استهلاكا له، ولأنه احتل مكانة خاصة في موائدهم. تلك شيمة النظام الغذائي لدى شعوب البحر الأبيض المتوسط، ولو بدرجات متفاوتة. بل لأنهم تعاملوا مع الخبز بقدر كبير من التقديس، شكل جزء مُهما من رؤيتهم للحياة ثقافة واجتماعا واقتصادا، قبل أن يفقد في العشريات الأخيرة قدسيته.

الخبز من رمزية الكرامة في زمن الجوع، إلى صورة للتبذير في زمن الوفرة… ذاكرة لا تزال تقاوم النسيان

في مطاعم الجزائر، شعبية كانت أو راقية، لن تجد مائدة يغيب عنها طبق الخبز، طبق لا يكاد ينفذ حتى يلحق النادل فيملأه أو يصيح الزبون طالبا مزيدا فيلبى طلبه دون تذمر. في مطاعم الجزائر لا تهم كمية الخبز الذي يتناوله الزبون ولا تحسب مع سعر الوجبة، مثلما لا يهم الطبق الذي تتناوله، حساء كان أو لحما أو حتى طبقا من المعجنات. فكل الأطباق في الجزائر، بالاستثناء الكسكسي، تؤكل بالخبز، كثير من الخبز.

قليلون هم الأشخاص الذين يخرجون من المخبزة ويصلون البيت والخبزة التي اشتروها سالمة، لا محالة يقضم منها صاحبها ما تيسر له أن يقضم في الطريق، كأنها "تسلية للفم" كما المكسرات. 

والخبز كان قوت الفقراء، كان المتسولون إذا سألوا الناس سألوهم خبزا أو ما يشترون به خبزا، بل كان بعض الذين يمنعهم الحياء من التسول يذهبون إلى الخباز ويطلبون خبزا دون ملح، فالخبز دون ملح في مخابز الجزائر لا يباع بل يقدم مجانا.

والخبز غذاء البسطاء في ورشات البناء مرفوقا ببعض الحليب، ولمن تيسر له مرفوقا بزجاجة "لمونادا".

"يصور خبزته.. الخبزة المحانة"

منذ زمن بعيد استعمل الجزائريون "الخبز" دليلا على الرزق، فقالوا لمن يخرج للاسترزاق "رَاحْ يْصَوَّرْ خٌبْزْتُهْ". هي عبارة يستعملها الجزائريون حتى اليوم ويفهمون معناها دون أن يفقهوا أصل دلالتها. ما العلاقة بين الاسترزاق وتصوير الخبز؟ والأصل فيها "رَاحْ يْصَوْرَدْ" أي يبحث عن "الصُّورْدِي" (عملة عرفها الجزائريون واستعملوا لفظها بمعنى المال على الإطلاق)، ثم سقطت الدال وتحولت إلى "يْصَوَّرْ".

في جوان 1970، عرض مسرح وهران الجهوي غرب البلاد مسرحية بعنوان "الخبزة" اقتبسها المخرج الجزائري الراحل عبد القادر علولة (1939-1994) عن مسرحية "الطعام لكل فم" لتوفيق الحكيم

ولأنّ الاسترزاق مربوط بالكد، وقبل ذلك بإيجاد مصدر الرزق، كانت "الخبزة" دائما مقرونة بـ "المحنة"، ومازالت العجائز إلى اليوم تقول: "الْخُبْزَهْ الْمَحَّانَهْ".

في حزيران / يونيو 1970، عرض مسرح وهران الجهوي بغرب الجزائر مسرحية بعنوان "الخبزة" اقتبسها المخرج الجزائري الراحل عبد القادر علولة (1939-1994) عن مسرحية "الطعام لكل فم" لتوفيق الحكيم. 

تروي "الخبزة" معاناة "السي علي" (أدى الدور الممثل محمد عدار) مثقف كهل يقترب من الستين لم يجد عملا يناسبه، فاحترف الكتابة العمومية، يكتب الرسائل للأميين ويملأ استماراتهم الإدارية، ولأن مداخيله لا تكفي لسد حاجيات أسرته يرهن ذهب زوجته ويتفرغ لتأليف كتاب بعنوان "الخبزة"، وترى وزارة الثقافة الكتاب، فتقرر تكريمه ومنحه جائزة مالية كبيرة تخرجه من بؤسه. 

في هذه المسرحية التي اعتمد فيها عبد القادر علولة، كعادته، على الثقافة الشعبية الشفاهية، سنسمع "القوال" وهو يعزف على آلة البانجو، يغني:

الْحَمْدُ الله كِي السِّي عْلِي صَابْ الخَدْمَهْ

يَجْعَلْهَا خَدْمَهْ مَا تْكُونْشْ مْشُومَهْ

يْصَوَّرْ بِهَا شْوِيَهْ خُبْزْ وَشْوِيَهْ مَا

وَالْبَاقِي كْرَاء يَعْطِيهْ لَلْحُكُومَهْ

قْبَلْ مَا يْخَرْجُوهْ قُدَّامْ النَّاسْ حْشُومَهْ

أدرك عبد القادر علولة جيدا رمزية "الخبزة" بالنسبة إلى الجزائري الذي خرج من 132 سنة من فقر وحرمان وجوع فرضه عليه الاحتلال الفرنسي، ليواجه، بعد الاستقلال، متاعب "الخبزة المحانة"، "الْخُبْزَهْ الحْلَالِيَهْ" (الحلال) التي كانت تدعو كل أم أن يرزق ابنها بها.


"نعمة ربي".. الخبزة المقدسة 

من علامات تقديس الجزائريين للخبز أن الجزائري، وإلى وقت قريب جدا، كان إذا وجد قطعة خبز مرمية، رفعها عن الطريق ليضعها في مكان بعيد عن أقدام المارة، لكنه قبل أن يضعها لابد من أن يقبلها ويمس بها جبينه. هي شكل من الاحترام والتقدير لما يطلق عليه بالتحديد، أكثر من أي طعام آخر، "نَعْمَةْ رَبِّي"، فتقبيل الخبز دليل على الحب، ولمس الجبين موضع السجود به دليل على التقديس. يستوي في هذا السلوك الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المتمدن وابن الريف.

وثقت السينما هذا السلوك في مشهد جميل في فيلم "الأفيون والعصا" (1971) للمخرج أحمد راشدي الذي يصور معاناة الجزائريين في منطقة القبائل خلال الثورة التحريرية.

في ذلك المشهد يظهر "الطيب" الحركي المتعاون مع جيش الاحتلال (أدى الدور محمد عياد المعروف بـ رويشد) في وسط القرية وبيده خبز، يعطي بعضه لأحد الأطفال قائلا: "هَذَا خُبْزْ ابْيَضْ، بَعْثًه لَكْ رَبَّ الرُّومِي، تَاكُلْ؟ رَاكْ جِيعَانْ؟"، ثم يرميه على الأرض.

ويصرخ في وجه الطفل الصغير: "أَيَّا اقْفَزْ رُوحْ جِيبُه، اقْفَزْ". فينهض الطفل ببطء حذرا متلفتا، ويتجه نحو الخبزة، فيصرخ فيه ثانية: "أًرْفَدْ، مَا تْخَافْشْ مَاهُوشْ مَرْهُوجْ"، فيرفع الطفل الخبز عن الأرض يقبله ثم يلمس به جبينه، ويضعه فوق مصطبة حجرية، ويجري هاربا دون أن يأكله. مشهد رائع يجمع بين جوع الطفل وحاجته للأكل وبين رفضه لخبز المحتل الفرنسي، وبين تقديسه للخبز.

"خبز الدار ياكله البراني"

هناك مثل لدى الجزائريين يقول: "خبز الدار ياكله البراني" يضرب للقريب إذا حرم من شيء وذهب للغريب. وتلك هي حال الجزائريين مع خبزهم طيلة 132 سنة.

عرف الجزائريون، منذ الاحتلال الفرنسي وحتى الاستقلال، محطات صعبة بل كارثية من المجاعات، تسببت فيها إلى جانب السياسة الاستعمارية الفرنسية القائمة على مصادرة الأراضي وتصدير الحبوب وهدم البنى التقليدية في الزراعة، الظروف المناخية والحربين في أوروبا. 

وقد تركت هذه المجاعات أثرها في المجتمع الجزائري آنذاك، وفي الضمير الجمعي للجزائريين مازالت ندوبه في ذاكرة الروح الجزائرية إلى اليوم.

كانت أولى المجاعات الحادة تلك التي حدثت بين 1844 و1847، وكان سببها الأول جرائم جيوش الاحتلال الفرنسي التي أحرقت المحاصيل وصادرت المال ورحلت السكان قسرا.

لكن أكثر هذه المحطات فضاعة كانت المجاعة الكبرى الذي طالت الجزائريين بين سنتي 1866 و1868، تظافر فيها على الشعب الجزائري الجراد حتى سمى الجزائريون تلك الفترة بـ "عام الجراد"، وشح الأمطار والأوبئة (التيفوس والكوليرا). وقد خلفت هذه المجاعة وما رافقها من أوبئة هلاك ما بين 500 ألف و800 ألف نسمة، أي ما يقارب ثلث الجزائريين.

هناك مثل لدى الجزائريين يقول: "خبز الدار ياكله البراني" يضرب للقريب إذا حرم من شيء وذهب للغريب. وتلك هي حال الجزائريين مع خبزهم طيلة 132 سنة.

وتشير الصحف الاستعمارية، آنذاك، إلى أن مدينة الجزائر تأثرت بشكل كبير من هذه المجاعة، فقد توافد عليها الكثير من المتيجة ومنطقة القبائل ومن التيطري. والمطلع على أرشيف هذه الصحف سيقرأ عن مظاهر الموت اليومي في شوارع المدينة وعن مشاهد البؤس والتسول.

وتلت "عام الجراد" أو "عام الشر" مجاعات أخرى، لم تكن بحدة تلك المجاعة، لكنها لم تكن هينة، بين 1887و1888، حين ارتفعت أسعار الحبوب والخبز بشكل فاحش، تلتها أخرى خلال السنوات العشرة الأولى من القرن العشرين، واستمرت المجاعات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبعدها فيما عرف لدى الجزائريين "عام البو" (نسبة إلى "le bon" وصل التمويل الذي كان يقدم للجزائريين بشق الأنفس).

 

 

كوشات الحبوس وكوشات البايلك

كان توفير الخبز في الجزائر دائما هما بالنسبة إلى السلطة، حتى أيام إيالة الجزائر، فنظمته ونظمت أسعاره، وكان هناك خبز خاص بالأثرياء وخبز بالفقراء.

خبز الفقراء فكان من خليط القمح والشعير، يعجن في البيوت ويطهى في الأفران العمومية، على عكس "الكسرة" التي كانت تطهى في البيوت على "الطاجين" أو أفران صغيرة عند بعض الأثرياء في المدينة

كان هناك خبز "البوزاي"، وهو خبز أبيض قليل النضج، الخبزة منه تزن 10 أوقيات (حوالي 280 غراما)، وتباع بـ 1 صوردي. وكان هذا الخبز مخصصا للمسؤولين السامين في البايلك. كما كانت العائلات الغنية تأكل "الكسرة" من القمح الخالص، لكنها تستهلك حالا لعدم صمودها للوقت. 

أما جند الانكشارية فكان لهم خبز التموين أو ما يسمى "خبز الرضوم"، لكن بعضهم كان ببيع خبز التموين لاقتناء خبز "البوزاي"، 10 خبزات من "الرضوم" لخبزة واحدة من "البوزاي".

أما خبز الفقراء فكان من خليط القمح والشعير، يعجن في البيوت ويطهى في الأفران العمومية، على عكس "الكسرة" التي كانت تطهى في البيوت على "الطاجين" أو أفران صغيرة عند بعض الأثرياء في المدينة، أو في الريف. في حين كان البدو يطبخون خبزهم بدفنه في الرماد، يسمونه "خبز المله"، أو يدفن في الرمل أو يلصق داخل جرة حامية فوق النار.

ظهرت ألوان من الخبز اعتبرت في حد ذاتها وجبة كاملة مثل "الرخسيس"، وهي كسرة مطلية بـ "الغرس" (عجين التمر)، و"الشحمية"، وهي خبز يطهى يالزيت ويضاف إليه الشحم داخله، تطور فيما بعد إلى ما يسمى اليوم "المحاجب" بأن أضيف له البصل والفلفل

يسجل القس الإنجليزي "توماس شو" (Thomas Shaw) الذي زار الجزائر بين سنتي 1732 و1735، في كتابه "رحلة إلى إيالة الجزائر" (Voyage dans la régence d’Alger) أن "الفقراء يقتصرون على خبز الشعير، وهو خشن وثقيل، أما الميسورون فيأكلون خبز القمح الأبيض، ويخبزونه في أفران عامة يديرها خبازون محترفون".

أما قنصل فرنسا بالجزائر في سنة 1788 "فونتور دي بارادي" (Venture de Paradis) فيكتب في كتابه "الجزائر في القرن 18: مذكرات قنصل وملاحظاته" (Alger au XVIIIe siècle : mémoires et observations d’un consul) واصفا الموائد الجزائرية قائلا: "الخبز متنوع: في المدن يصنع من دقيق القمح، كبير ومستدير، يخبز في أفران، ويباع يوميًا للناس. أما عامة الريف فيكتفون بخبز الشعير أو الذرة، وهو مسطح يطهى على صفيحة من الفخار فوق النار" (يقصد الطاجين).

وورد في تقرير لضابط فرنسي في الحملة الاستعمارية على الجزائر سنة 1830 يدعى "كاريت" (Carette)، وهو يتحدث عن منطقة القبائل: "غذاؤهم الأساسي خبز يسمونه كسرة، يصنعونه من دقيق الشعير أو القمح، يمدّدونه ويطبخونه على طاجين من الفخار. يأكل مع الزيت أو اللبن أو الزيتون".

أما الإداري "ديڤولكس" (Devoulx) فيذكر في دراساته عن المنشآت الدينية في مدينة الجزائر أن أهل القصبة كانوا "يعتمدون على خبز القمح في الأفران (الكوشة)، بينما الأكثرية الفقيرة تكتفي بالكسرة على الطاجين، المصنوعة غالبًا من خليط القمح والشعير".

وتفرعت عن طهي الخبز ألوان أخرى، فكان "الملاوي"، وهو خبز يعجن بالسمن، ونجده اليوم في بعض المناطق في المغرب أخذته معها العائلات الجزائرية الثرية التي هاجرت إلى تطوان، و"الرقاق" الذي يسميه أهل مدينة الجزائر وضواحيها "المعارك" أو "المسمن". 

كما ظهرت ألوان من الخبز اعتبرت في حد ذاتها وجبة كاملة مثل "الرخسيس"، وهي كسرة مطلية بـ "الغرس" (عجين التمر)، و"الشحمية"، وهي خبز يطهى يالزيت ويضاف إليه الشحم داخله، تطور فيما بعد إلى ما يسمى اليوم "المحاجب" بأن أضيف له البصل والفلفل.

تذهب بعض الروايات الشفهية إلى أن عددا من الأفران التي كان "يشوط" فيها "البوزلوف" (رأس الخروف) في "حوانت سيدي عبد الله" بالقصبة العليا إنما كانت في وقت سابق أفران خبز

بل وابدعت الجزائريات من الخبز أطباقا كانت للفقراء، تحولت مع الوقت إلى أطباق تقليدية، مثل "السفيرية" (من السفرة) وهي خبز قديم لم يتعفن بعد مغطوس في الماء، تضاف إليه بعض التوابل ويطهى في الزيت ثم يسقى بمرق إيدام. طبقت تفننت فيه النسوة وأضفن له الجبن وسقى في مرق دجاج أو لحم ظأن. 

في مدينة الجزائر "القصبة" أيام الإيالة كانت هناك مخابز لعامة الناس ومخابز للبايلك. ويشير الإداري الفرنسي "ديڤولكس" في كتابه "المنشآت الدينية في مدينة الجزائر القديمة" إلى أن عددا من الأفران كانت ملحقة بالأوقاف. وعلى سبيل المثال كانت أوقاف الجامع الكبير ، على ما يذكر المؤرخ أبو القاسم سعد الله في "تاريخ الجزائر الثقافي"، تشمل ثلاثة مخابز.

وسميت بعض أزقة حي القصبة بأسماء أفرانها فكان من بين أزفتها وشوارعها "كوشة الوقيد" (Rue du Condor)، و"كوشة الجيجلية" (Rue Damfreville)، و"كوشة علي" (Rue Bleue)، و"كوشة بن السمان" (Rue Duquesne)، و"كوشة الخندق" بمحاذاة سيدي بوقدور (Rue du Lion)، و"كوشة النصارى" بالقرب من حمام الفويطة (rue du Chêne)، و"كوشة عنق القلل" غير بعيد عن "بير جباح" (Rue du Palmier)، و"كوشة بن عدادة" (Rue Ben-Addada)، و"كوشة البطحا" (Rue Brueys)، و"كوشة بولعبة" (Rue Bou-Laba)، و"كوشة الكعك" (Rue du Commerce).

وتذهب بعض الروايات الشفهية إلى أن عددا من الأفران التي كان "يشوط" فيها "البوزلوف" (رأس الخروف) في "حوانت سيدي عبد الله" بالقصبة العليا إنما كانت في وقت سابق أفران خبز.

يقول الباحث في تاريخ مدينة الجزائر "فوزي سعد الله" إلى أن مهنة الأفران كانت حكرا على "المزابيين" (بنو ميزاب الإباضية)، وأن أمين جماعة الفرانين في 1681 و1982 كان "الحاج عيسى المزابي"، وكان هو نفسه مستأجرا فرنين، واحد في سوق السمن الذي هدمه الاحتلال (Rue de lezard) بوزرينة حاليا، والثاني "في سويقة عمور"، وأن "فرن بونة" القريب من مسجد "كتشاوة" كان مستأجرا من مزابي اسمه "بونوة".

أما أفران البايلك التي كانت تعد خبز الجيش الانكشاري في القشلات فكانت بيد "الجواجلة". ولعل هذا ما يفسر وجود كثير من المخابز بعد استقلال الجزائر لعائلات جيجلية مثل "بولحبال" و"بوقادوم".

مع الاستقلال تطورت صناعة الخبز، وتحولت من أفران الحطب والفحم إلى أفران الغاز وانتشر الخبز الأوروبي في المدن، لكن الخبز التقليدي لم يختف، واستمر الجزائريون في أكل الكسرة والمطلوع، خاصة في رمضان شهر الصيام وشهر الأكل أيضا عند الجزائريين بامتياز، حيث يجتمع الخبز الأوروبي بكل أشكاله بالخبز التقليدي بكل أشكاله، جزء كبير منه ينتهي به المسار إلى القمامة.

في رمضان 2025 المنصرم كشف رئيس منظمة حماية المستهلك مصطفى زبدي أن تبذير الخبز زاد بنسبة 90 في المائة مقارنة برمضان الذي قبله، مشيرا إلى أن النصف الأول منه ألقيت 6،5 ملايين خبزة في المزابل.

قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت

انتربولوجيا كان الطعام ومازال عنوان هوية فردية وجماعية، كما يشرحه كلود ليفي شتراوس، "فرغم أن الأنظمة الغذائية تختلف باختلاف الثقافات والجماعات، إلا أنه داخل الجماعة الواحدة هناك فروق تعكس الفروق الاجتماعية".

يقول صاحب كتاب "فيسولوجيا الذوق" الكاتب "جان آنتلام بريا-سافاران (Jean Anthelme Brillat-Savarin) (1755- 1826) وهو أحد أهم من جمع تاريخ فن الطبخ وثقافة الأكل والفلسفة: "قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت"، وإن "الطعام بدون خبز ليس طعاما كاملا".

للأسف كان البحث الأنتربولوجي في الجزائر المستفلة متأخرا جدا، لكنه في مجال المطبخ والمائدة وثقافتهما فهو يكاد يكون منعدما، إلا من بعض الدراسات القليلة المتناثرة هنا وهناك، لا ينتبه إليها إلا قليلا، مثل كتاب الراحل رشيد سيدي بومدين "الطبخ التقليدي في الجزائر: فن حياة" (Cuisines traditionnelles en Algérie : un art de vivre) سنة 2015، وهو دراسة غنية عن المطبخ الجزائري التقليدي، يتجاوز فيها سيدي بومدين مجرد تقديم الوصفات ليغوص في أبعادها الاجتماعية والثقافية العميقة، بدءا من الطقوس والممارسات المرتبطة بالمائدة ورمزيتها، مرورا بتاريخ المأكولات الجزائرية وتنوعها، وتأثير الثقافات الأخرى فيها، وصولا إلى كيف يعكس الطعام هوية المجتمع الجزائري، وكيف تأثرت المأكولات بالعوامل الاجتماعية والسياسية.

وداخل هذا الكم الهائل من المعلومات والتحاليل يشير سيدي بومدين إلى الحضور البارز للخبز في مائدة الجزائريين وكعنصر مركزي في الطقوس والممارسات المرتبطة بالمائدة، إذ يقدم مع الأطباق الرئيسية ويُستخدم في مراسم الضيافة والاحتفالات، بكل رمزيته للكرم والضيافة والبركة والنعمة. كما يتعرض إلى طرق تحضيره المتنوعة التي تعكس التنوع الثقافي والاجتماعي للبلاد.

لعلها ندوب الحرمان التي تركتها فترة الاحتلال وتلك الرغبة الجامحة في الانتقام من الجوع تدفع الجزائري إلى هذه العلاقة مع الخبز

علاوة على ذلك، يُناقش رشيد سيدي بومدين تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية على استهلاك الخبز وأنماطه، مثل الهجرة والتحضر، وكيفية تكيّف المجتمعات مع التغيرات في الإنتاج والاستهلاك.

البحث في تاريخ الخبز في الجزائر هو بحث في تاريخ ثقافتها واجتماعها، وفي اقتصادها وسياستها. وأسئلة عن السبب الذي يحفز الجزائريين على هذا الهوس وهذه اللهفة على الخبز، وما الذي يجعلهم يستهلكون هذا الكم الهائل منه ولكن تبذير كم هائل منه. كلها أسئلة الإجابة عنها تضيء لنا جوانب هامة عن الذات الجزائرية.

لعلها ندوب الحرمان التي تركتها فترة الاحتلال وتلك الرغبة الجامحة في الانتقام من الجوع تدفع الجزائري إلى هذه العلاقة مع الخبز. ولكن كيفما كان أمر الإجابة، فالحقيقة المؤكدة أن الجزائر تستورد بين 6.5 مليون طن و7 أطنان من القمح اللين الذي يدخل في صناعة الخبز المدعم، بتكلفة تفوق 1.5 مليار دولار.

الكلمات المفتاحية

سجائر إلكترونية

السجائر الإلكترونية في الجزائر.. خطر صامت يهدد المراهقين

تشهد الجزائر في السنوات الأخيرة انتشارًا متزايدًا للسجائر الإلكترونية، خاصة بين فئة الشباب والمراهقين، في ظل غياب إطار تنظيمي واضح يضبط تداولها واستعمالها.


قادة بن شميسة.. حكواتي العرائس وصانع الضوء في قبو بالجزائر

قادة بن شميسة.. حكواتي العرائس وصانع الضوء في قبو بالجزائر

بين أروقة قبو مهجور كان يعج بالجرذان والنفايات، وُلِد عالمٌ صغير لكنه استثنائي، يضمّ مئات الدمى والعرائس من كل أنحاء العالم، كل واحدة منها تحكي حكاية، وكل ركن فيه ينبض بالذكريات والخيال.


من الزاوية العلاوية بمستغانم إلى الأمم المتحدة التصوف الجزائري يمنح العالم يوما للعيش في سلام

من مستغانم غرب الجزائر...قصة الزاوية العلاوية ويوم السلام العالمي

في حيّ "تيجديت" العريق بمدينة مستغانم غربي الجزائر، حيث الأزقّة الضيّقة تتكئ على ذاكرة البحر، وتنبض قصبة المدينة برائحة التاريخ، تقوم الزاوية العلاوية شامخة كمنارةٍ روحيةٍ تنير الدروب منذ أكثر من قرن.


ضعف البصر في المدرسة الجزائرية.. "ظاهرة" تؤثر على التحصيل العلمي؟

ضعف البصر في المدرسة الجزائرية.. "ظاهرة" تؤثر على التحصيل العلمي؟



تتزايد في السنوات الأخيرة حالات ضعف البصر لدى الأطفال بشكل لافت، وبالخصوص المتمدرسين منهم، مقارنة بما كان خلال الألفية الماضية، وهو ما قد يؤثر سلبا على مستوى التحصيل الدراسي للمصابين بهذا المرض، وفق ما يؤكده تربويون وأطباء متخصصون.

ب
أخبار

قرابة 6 ملايين زائر لصالون الكتاب ونحو تمديد أيامه في الطبعة القادمة

أُسدل الستار مساء اليوم على فعاليات الطبعة الثامنة والعشرين من صالون الجزائر الدولي للكتاب بحضور وزيرة الثقافة والفنون مليكة بن دودة ومحافظ الصالون محمد أقرب، إلى جانب شخصيات أدبية وفكرية وإعلامية بارزة.

بوقرة_1.jpg
رياضة

بوقرة يُعيد سليماني وبودبوز إلى "الخضر" وغياب بلايلي يُثير التساؤلات

أعلن مدرب المنتخب الوطني الجزائري المحلي (أ’) مجيد بوقرة، عن قائمة تضم 27 لاعبًا، تحسبًا للمواجهتين الوديتين المقررتين أمام المنتخب المصري في شهر نوفمبر الجاري بالقاهرة، ضمن برنامج التحضيرات لكأس العرب "فيفا 2025" التي ستحتضنها قطر من 1 إلى 18 ديسمبر المقبل.


العيدي عوداش
أخبار

المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للقضاة يقبل استقالة النقيب العيدي عوداش

أعلن المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للقضاة، اليوم السبت، عن انعقاد دورة استثنائية خُصصت لدراسة استقالة رئيس النقابة العيدي عوداش، التي أودعها رسميًا، ليُقرر المكتب قبولها وفقًا لأحكام القانون الأساسي، على أن تُعرض لاحقًا على الجمعية العامة الاستثنائية للمصادقة النهائية.

أمن الشلف
أخبار

توقيف تيكتوكر شهير في الشلف بشبهة تبييض الأموال وبث محتويات مخلة  

أعلنت فرقة مكافحة الجرائم السيبرانية بأمن ولاية الشلف عن توقيف مؤثر معروف بنشاطه عبر منصة "تيك توك" وتقديمه محتويات تثير جدلا بين رواد هذه المنصات.

الأكثر قراءة

1
أخبار

الجزائر تتصدر مورّدي الغاز لإيطاليا بإمدادات تفوق 14.3 مليار متر مكعب


2
أخبار

لهذا السبب..  أزمة جديدة في البرلمان الفرنسي حول العلاقات مع الجزائر


3
اقتصاد

البحث عن الأدوية في الجزائر.. إلى متى؟


4
أخبار

مُتابعة النفقات العمومية.. نائب يتحدث عن الرقابة المالية داخل البرلمان


5
أخبار

1800 طن من سمك البلطي الأحمر في الجزائر.. منصة رقمية جديدة لتسهيل التسويق