غرامات قضائية دون تحصيل، وهشاشة كبيرة في آليات التنفيذ، وثغرات قانونية واسعة للتهرّب من دفع المستحقّات المالية المفروضة على المخالفين، مما يجعلهم يستغلونها لصالح عدم دفعها نهائيًا، يضاف إلى كل هذا إجراءات بيروقراطية تتسبب في تأخير تنفيذ الأحكام القضائية المتعلقة بالغرامات المالية، مما يقلل من فعاليتها.
هذه الأرقام تكشف عن ضعف كبير في آليات تنفيذ الأحكام وتحقيق العدالة المالية
تقرير مجلس المحاسبة الأخير، تحدّث عن عدم التزام بعض اللجان بتنفيذ إجراءات تحويل مستخرجات الأحكام القضائية، وفتح نقاشًا حول مبالغ مالية ضخمة تيقارب مبلغ 50 ألف مليار سنتيم، ومسألة القوانين التي لا تتسم بالصرامة الكافية لإجبار المخالفين على دفع المستحقات المالية المفروضة عليهم، إضافة إلى منح مزيد من الامتيازات للمحضرين القضائيين الذين بإمكانهم تسريع تحصيل الغرامات.
في مقابل ذلك، يمكن طرح مشكلة أخرى تخص هذه الغرامات، خاصة وأن هناك غرامات تبدو تعجيزية بالنسبة إلى مواطنين ارتكبوا مخالفات عن نشاطات ممنوعة مثل المضاربة، حيث تصل هذه المخالفات مليوني دينار جزائري، ولذلك وجب مراجعة هذه القوانين المشدّدة في صالح تحصيل الغرامات، أو تسهيل عمليات الدفع عن طريق جدولة الديون بطريقة أكثر سهولة لتمكين المخالفين من التواصل مع الإدارة لحل هذه المشكلة، أو الوصول إلى حل جذري من خلال الإعفاء من دفعها نهائيًا.
وفي الوقت الذي يواجه فيه المواطن الجزائري تحدّيات الحياة اليومية والمتطلبات الاقتصادية المتزايدة، يتجسد واقع آخر في أرقام الغرامات القضائية التي تظلّ غير محصلة رغم كونها تشكلّ مصدرًا ماليًا هامًا يمكن أن يساهم في تحفيز الاقتصاد الوطني وتحسين مستوى الخدمات العامة.
بدلًا من ذلك، تهدر مليارات الدنانير، مما يترك فراغًا كبيرًا في ميزانية الدولة ويؤثر سلبًا على هيبة القانون، الأرقام الرسمية تشير إلى أن هناك خللًا في آليات التحصيل، ما يكرّس ثقافة التهرب من المسؤولية ويمنع تطبيق العدالة بشكل صحيح.
الأرقام تتحدث
بحسب تقرير مشروع قانون تسوية الميزانية لعام 2022، الذي اطلع عليه موقع "الترا جزائر"، بلغ إجمالي الغرامات القضائية والعقوبات المالية المفروضة حتى نهاية عام 2022 نحو 474.6 مليار دينار. ورغم هذه المبالغ الضخمة، لم يتم تحصيل سوى 7.9 مليار دينار، ما يمثل نسبة ضئيلة جدًا تُقدر بحوالي 1.66 بالمائة فقط.
هذه الأرقام تنم عن ضعف كبير في آليات التنفيذ وتحقيق العدالة المالية، حيث كانت هذه المبالغ يمكن أن تُستثمر في مشاريع تنموية لتحسين الخدمات العامة وتطوير البنية التحتية، وتساعد في تقليص عجز الموازنة الوطنية.
ورغم أن الدولة تبذل جهدًا لتنفيذ استراتيجيات لتحصيل الغرامات القضائية، إلا أن تقارير مجلس المحاسبة تكشف عن ضعف غير مسبوق في نسبة التحصيل، مما يعكس خللا هيكليًا في المنظومة الإدارية، فوفقًا لتقرير مجلس المحاسبة لعام 2022، تم تحصيل 7.893 مليار دينار فقط من أصل 474.593 مليار دينار مستحقة، ما يعكس نسبة تحصيل لا تتجاوز 1.66 بالمائة.
الأرقام تكشف أيضًا عن فوضى إدارية نتيجة تكرار إجراءات التحصيل من قبل الجهات القضائية، مما يجعل عملية التحصيل أقل فعالية ويزيد من الفجوة بين المبالغ المفروضة والمبالغ المحصلة.
ومن بين التحديات التي أشار إليها تقرير مجلس المحاسبة، عدم التزام بعض اللجان بتنفيذ إجراءات تحويل مستخرجات الأحكام القضائية، ما يخلق حالة من الفوضى وتضارب الإجراءات بين مختلف الجهات المعنية، كما سجل المجلس تباينًا في تطبيق مسألة التقادم بين المحاكم المختلفة، حيث اعتبرت بعض الجهات أن القاضي هو من يقرر ما إذا كان الحكم قد شمل بالتقادم أو لا، في حين اكتفت جهات أخرى بتحويل المستخرجات غير المشمولة بالتقادم فقط.
بيروقراطية وقلة رقمنة
وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي الهواري تيغريسي أن ضعف تحصيل الغرامات القضائية في الجزائر ليس مجرد مسألة إدارية فحسب، بل هو نتاج مشكلة هيكلية تتعلق بنقص الفعالية في النظام القضائي والإداري، ويشير تيغريسي إلى أن الثغرات القانونية تلعب دورًا كبيرًا في تسهيل عملية التهرب من دفع الغرامات.
حيث أن القوانين المنظمة لهذا القطاع لا تتسم بالصرامة الكافية، ما يجعل المخالفين يجدون ثغرات واسعة للتهرب من دفع المستحقات المالية المفروضة عليهم، إضافة إلى ذلك، فإن بعض القوانين لم تُحدث بما يتناسب مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يجعلها عاجزة عن ضمان تنفيذ الأحكام القضائية بشكل فعال.
ويضيف تيغريسي أن الإجراءات الإدارية الطويلة والمعقدة تساهم أيضًا في ضعف التحصيل، حيث تتسبب البيروقراطية في تأخير تنفيذ الأحكام القضائية المتعلقة بالغرامات المالية، مما يقلل من فعاليتها، هذه الإجراءات المعقدة تؤدي إلى تشتيت الجهود وتزيد من فرص التهرب، كما أشار إلى أن غياب الرقمنة في القطاع القضائي يساهم في بطء عملية المتابعة والتحصيل، حيث أن الملفات لا تُعالج بشكل سريع وفعال في ظل غياب أنظمة رقمية حديثة.
وبالإضافة إلى العوامل القانونية والإدارية، يلفت تيغريسي إلى أن ضعف التنسيق بين الجهات المعنية بتحصيل الغرامات القضائية يُعد أحد العوائق الرئيسية في هذا المجال. إذ يُلاحظ غياب التنسيق الفعال بين القضاء ووزارة المالية والهيئات التنفيذية الأخرى المسؤولة عن متابعة هذه الغرامات.
ويؤكد تيغريسي أن الحل يكمن في تحسين التنسيق بين هذه الجهات، بحيث تتعاون جميع الأطراف لضمان تنفيذ الأحكام القضائية بشكل سريع وفعال، مما يساهم في زيادة تحصيل الغرامات وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كما أشار إلى ضرورة تفعيل دور بعض المصالح، مثل المحضرين القضائيين،والذين يمكن أن يلعبوا دورًا محوريًا في تسريع تحصيل الغرامات، من خلال منحهم المزيد من التحفيزات والإمكانيات لمتابعة هذه الملفات وتحقيق نتائج ملموسة.
الحلول الممكنة
لحل هذه المشكلة، يقترح الخبير الاقتصادي أحمد الحيدوسي عدة حلول استراتيجية، أبرزها تحديث القوانين المنظمة لتحصيل الغرامات القضائية لتصبح أكثر صرامة وشمولية، مما يحد من التهرب ويزيد من فعالية التنفيذ، كما يرى أن تعزيز الرقمنة في القطاع القضائي هو خطوة ضرورية لتحسين سرعة وكفاءة التحصيل، إذ يمكن أن تساهم الأنظمة الرقمية الحديثة في متابعة تنفيذ الأحكام وتوفير شفافية أكبر في هذا المجال.
كما يرى الحيدوسي أن التنسيق بين الجهات المعنية يجب أن يكون أكثر فاعلية من خلال تشكيل لجان مشتركة تتعاون بين القضاء ووزارة المالية ودوائر الضرائب. هذه اللجان يجب أن تكون مسؤولة عن متابعة ملفات الغرامات وتنفيذ الأحكام القضائية بشكل فعال، دون تكرار الإجراءات أو حدوث تضارب في تنفيذها.
وفي نهاية المطاف، يشدد الخبير على أن تحصيل الغرامات القضائية ليس مجرد مسألة إدارية بحتة، بل هو أيضًا مسألة ثقافية. فغالبًا ما يظهر المواطنون تجاهلًا للقوانين بسبب نقص الوعي بضرورة احترامها، لذلك، يرى الحيدوسي أن جزءًا من الحل يكمن في إطلاق حملات توعية مجتمعية تهدف إلى نشر ثقافة احترام القوانين وأهمية تنفيذ الأحكام القضائية، هذه الحملات يجب أن تستهدف جميع شرائح المجتمع، بهدف تعزيز الوعي لدى المواطنين حول أهمية دفع الغرامات القضائية والمساهمة في دعم الاقتصاد الوطني.
الهواري تيغريسي : الهواري القوانين المنظمة لهذا القطاع لا تتسم بالصرامة الكافية، ما يجعل المخالفين يجدون ثغرات واسعة للتهرب من دفع المستحقات المالية المفروضة
في الختام، يعد تحسين تحصيل الغرامات القضائية خطوة أساسية نحو تعزيز هيبة الدولة وضمان استدامة مواردها المالية، عبر تحديث القوانين، وتعزيز الرقمنة، وتحسين التنسيق بين الجهات المعنية، وتنفيذ حملات توعية فعالة، يمكن للجزائر أن تواجه هذه الأزمة بجدية وتحول الغرامات القضائية غير المحصلة إلى مصدر مالي يمكن أن يسهم في تحسين الخدمات العامة ودعم الاقتصاد الوطني.