اقتصاد

المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الجزائر.. رافعة التنمية أم ضحية العراقيل؟

2 أكتوبر 2025
الصناعة في الجزائر صورة أرشيف.jpg
عمار لشموت
عمار لشموتكاتب من الجزائر

تَشهد الجزائر مرحلة مفصلية في مسارها الاقتصادي، حيث تسعى الحكومة إلى بناء نموذج تنموي جديد يقوم على تنويع مصادر الدخل الوطني وتقليل الاعتماد على المحروقات.

هنا، يبرز خياران استراتيجيان متكاملان لم يتم الفصل في أيهما يتعين الاعتماد عليهما: دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها محركًا أساسيًا لخلق فرص العمل والابتكار، من جهة، أو تطوير الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب وصناعة السيارات والبتروكيمياء، من جهة أخرى، لبناء قاعدة صناعية قوية ومستدامة.

ويرى خبراء اقتصاديون ضرورة إدراك الحكومة لأهمية الجمع بين مرونة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وسرعة تكيفها مع الأسواق، وبين قوة الصناعات الثقيلة التي تُعد ركيزة استراتيجية لضمان استقلالية اقتصادية طويلة الأمد، ما يتيح للجزائر فرصًا أكبر لتحقيق تنمية اقتصادية متوازنة.

خيار استراتيجي

قال الأستاذ عثمان عثمانية، أستاذ الاقتصاد بجامعة تبسة، في اتصال مع "التر جزائر"، إنّ السلطات الجزائرية ومنذ الإصلاحات الاقتصادية أواخر ثمانينيات القرن الماضي سعت إلى بناء أرضية صلبة لاقتصاد فعّال ومتنوع، خاصة بعد فشل تجربة التنمية السابقة القائمة على الصناعة الثقيلة.

يرى خبراء اقتصاديون ضرورة إدراك الحكومة لأهمية الجمع بين مرونة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وسرعة تكيفها مع الأسواق، وبين قوة الصناعات الثقيلة التي تُعد ركيزة استراتيجية لضمان استقلالية اقتصادية طويلة الأمد

وأكد أنّ الانفتاح على القطاع الخاص والرهان على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة جاء كخيار استراتيجي لدفع النمو الاقتصادي إلى الأمام وخلق مناصب شغل جديدة، مشيرًا إلى أنّ تجارب عالمية رائدة مثل إيطاليا والصين أثبتت فعالية هذا النموذج.

وأشار عثمانية إلى أنّ الجزائر تعد اليوم موطنًا لأكثر من 1.3 مليون مؤسسة صغيرة ومتوسطة تشغل ما يزيد عن 3 ملايين شخص.
واستطرد قائلاً: "غير أنّ هذه المؤسسات تواجه تحديات كبيرة، أهمها ضعف التمويل والتسويق، والتوزيع الجغرافي غير المتوازن، بالإضافة إلى غياب تكوين كافٍ في مجالات الإدارة والمالية والتسويق".

عثمان عثمانية، أستاذ الاقتصاد بجامعة تبسة: الطابع العائلي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الذي يحرمها من إدراج أسهمها في البورصة والاستفادة من مصادر تمويلية إضافية

ومن أبرز السلبيات، يضيف عثمانية، الطابع العائلي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الذي يحرمها من إدراج أسهمها في البورصة والاستفادة من مصادر تمويلية إضافية، فيما تبقى المؤسسات الكبرى المملوكة للدولة تعاني من أعباء اجتماعية وحوكمة ضعيفة تجعلها خارج الفعالية الاقتصادية.

وأكد أنّه رغم ذلك، لا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو دون وجود مؤسسات كبرى قادرة على قيادة النمو والاستثمار في البحث والتطوير، كما أثبتت التجارب الناجحة في الصين وكوريا الجنوبية.

ضرورة التكامل

وفيما يتعلّق بالنموذج الاقتصادي المنشود، شدّد عثمانية على ضرورة أن تقوم العلاقة بين المؤسسات الكبرى ونظيراتها الصغيرة والمتوسطة على التكامل، حيث تتكفّل الأولى بدور الريادة في مجالات الابتكار والاستثمار، بينما تساهم الثانية في تعزيز النسيج الصناعي من خلال المناولة وبناء قاعدة اقتصادية صلبة تخدم مسار التنمية الشاملة.

ويقول عبد الرحمان هادف، مستشار دولي في التنمية الاقتصادية، إن الجزائر تعيش مرحلة مهمة من التحول الاقتصادي تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط والغاز، والسعي نحو تنويع مصادر الدخل الوطني.

وأضاف أنّ هذا التوجه يعكس رغبة الدولة في تطوير قطاعات إنتاجية غير نفطية، مثل الصناعات التحويلية والزراعة والسياحة والاقتصاد الرقمي، مع التركيز على تحسين مناخ الأعمال عبر تبسيط الإجراءات الإدارية وتعزيز الشفافية وحماية المستثمرين.

عبد الرحمان هادف، مستشار دولي في التنمية الاقتصادية:  الجزائر تعيش مرحلة مهمة من التحول الاقتصادي تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط والغاز، والسعي نحو تنويع مصادر الدخل الوطني

وأكد هادف أن الابتكار وإدماج التكنولوجيات الحديثة، بما في ذلك تقنيات الثورة الصناعية الرابعة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطباعة الثلاثية الأبعاد وإنترنت الأشياء، أصبحا عنصرين أساسيين لرفع القدرة التنافسية للمؤسسات الجزائرية محليًا ودوليًا، وتمكينها من إنتاج سلع وخدمات ذات جودة عالية وفق المعايير العالمية.

محرك رئيسي للتنمية

أوضح هادف أنّ المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تلعب دورًا محوريًا في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، إذ توفر فرص عمل وتساهم في تنويع الإنتاج وزيادة القيمة المضافة، كما تتميز بالمرونة والقدرة على الابتكار والاستجابة لمتطلبات السوق.

ومع ذلك، تسجل بعض الملاحظات أبرزها ضعف الحوكمة والإدارة، وصعوبة الحصول على التمويل الكافي، إضافة إلى ضعف إدماج التكنولوجيات الحديثة نتيجة محدودية البنية التحتية الرقمية والخبرات التقنية، فضلاً عن تعقيدات الإطار القانوني والتنظيمي.

وبخصوص المعايير العالمية في هذا المجال، أشار هادف إلى أنّ المعدل العالمي لعدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يبلغ حوالي 50 مؤسسة لكل ألف نسمة، بينما لا يتجاوز المعدل في الجزائر 25 مؤسسة لكل ألف نسمة، ما يكشف فجوة كبيرة في النسيج الاقتصادي الوطني. وأضاف أنّ الجزائر بحاجة إلى خلق أكثر من مليون ونصف مؤسسة صغيرة ومتوسطة لتعزيز القدرة التنافسية وخلق فرص العمل، مع ضرورة إعطاء المؤسسات الناشئة دورًا أكبر لتصبح محركًا رئيسيًا للابتكار والنمو.

وأوضح أنّ مفهوم سلاسل القيمة والمناولة يمثل أداة استراتيجية تسمح بربط المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالصناعات الثقيلة والموردين المحليين والدوليين، بما يعزز التكامل بين مراحل الإنتاج المختلفة ويزيد من القيمة المضافة المحلية، ويمكّن المؤسسات الجزائرية من دخول الأسواق العالمية وتطوير قدراتها التقنية والإدارية.

الصناعات الثقيلة: رهان استراتيجي

وبشأن أهمية الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب وصناعة السيارات والكيمياء، أكد الخبير الاقتصادي أنها تظل ركائز استراتيجية للاقتصاد الوطني، لكنها تحتاج إلى استثمارات ضخمة وطويلة الأجل، وتعتمد على الموارد المحلية وإدماج التكنولوجيا الحديثة لضمان الابتكار المستمر. وذكر أنّ هذه الصناعات رغم أهميتها، إلا أنّ أثرها في خلق فرص عمل سريعة يبقى محدودًا مقارنة بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

عبد الرحمان هادف:  الجزائر قادرة على تبني نموذج اقتصادي هجين يجمع بين الصناعات الثقيلة الاستراتيجية، وتمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال التمويل والتدريب والرقمنة،

وختم هادف تصريحاته بالتأكيد على أنّ الجزائر قادرة على تبني نموذج اقتصادي هجين يجمع بين الصناعات الثقيلة الاستراتيجية، وتمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال التمويل والتدريب والرقمنة، مع التركيز على دمج الثورة الصناعية الرابعة. وأفاد أنّ هذا التوجه، إلى جانب تشجيع الابتكار والشراكات الدولية، سيساعد على خلق أكثر من مليون فرصة عمل جديدة، ويعزز قدرة الجزائر على المنافسة في الأسواق العالمية، ما يمكّنها من تحقيق تنمية مستدامة وتنويع اقتصادي حقيقي، ويضمن صلابة الاقتصاد الوطني واستقراره على المدى الطويل.

المؤسسات الصغيرة بحاجة إلى ديناميكية

قال الخبير الاقتصادي سليمان ناصر إن المؤسسات الصغيرة تشكّل رافعة أساسية وقاطرة حقيقية للاقتصاديات الحديثة. وأوضح أنّ معظم هذه المؤسسات في الجزائر تنتمي إلى القطاع الخاص، في حين أنّ الصناعات الثقيلة الكبرى ما تزال تحت إشراف القطاع العمومي الذي يتكفل بتنفيذ المشاريع الاستراتيجية للدولة.

وأضاف أنّ الاقتصاد العالمي اليوم يقوم في معظمه على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، مستشهدًا بتجربة إيطاليا التي تضم ما يزيد عن 5 ملايين مؤسسة من هذا النوع، بينما لا يتجاوز عددها في الجزائر نحو 900 ألف إلى مليون مؤسسة، وهو مستوى ما يزال بعيدًا عن المعايير الاقتصادية الدولية.

الخبير الاقتصادي سليمان ناصر: القطاع الخاص هو الأكثر تضررًا من هذه الاختلالات، بينما المؤسسات العمومية الكبرى قادرة نسبيًا على تجاوز بعض العراقيل الإدارية

وأشار إلى أنّ هذه المؤسسات تعاني من عدة صعوبات، أبرزها القيود المفروضة على الاستيراد، مثل اشتراط وزارة التجارة الخارجية تقديم برامج تقديرية للاستيراد، والتي كانت في السابق سنوية ثم أصبحت نصف سنوية، ما نتج عنه تجميد عمليات التوطين البنكي. ويرى أنّ هذه الإجراءات تؤدي إلى تعطيل الآلة الإنتاجية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، كما أنّ غياب إطار مستقر لتنظيم التجارة الخارجية يتسبب في أزمات متكررة في التزوّد بالمواد الأولية، ما قد يقود إلى إضعاف قطاع اقتصادي محوري في مسار التنمية.

وبيّن أنّ القطاع الخاص هو الأكثر تضررًا من هذه الاختلالات، بينما المؤسسات العمومية الكبرى قادرة نسبيًا على تجاوز بعض العراقيل الإدارية بفعل تدخل الدولة. وختم بالتأكيد على أنّ المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الجزائر تحتاج إلى ديناميكية وحركية أكبر في مجال الإنتاج والتوزيع، لكن بلوغ هذا الهدف يبقى صعبًا في ظل استمرار العراقيل الإدارية، البيروقراطية، وتجميد استيراد بعض المواد الأولية بحجة الحفاظ على احتياطي الصرف.

الكلمات المفتاحية

أدوية

البحث عن الأدوية في الجزائر.. إلى متى؟

يُصادف المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي من حين لآخر نداءات للبحث عن أدوية مفقودة في الصيدليات بالجزائر، وذلك بالرغم من تأكيد وزارة الصحة في أكثر مرة اتخاذها التدابير اللازمة لاحتواء أي ندرة بتوفيرها الكميات اللازمة، خاصة وأن تأمين علاج كثير من الأمراض بات يتم محليا دون الحاجة إلى الاستيراد.


وزارة المالية (صورة: أرشيف)

في مواجهة العجز المالي.. الحكومة تلجأ إلى أموال المؤسسات العمومية وسط مخاوف من العواقب

تتضمّن أحكام مشروع قانون المالية 2026 تدابير تمنح الحكومة هامشًا أوسع في استغلال أموال المؤسسات العمومية المملوكة للدولة، إلى جانب تسهيل حصولها على تمويل من البنك المركزي، ما أثار تحفظات عدد من النواب والخبراء الاقتصاديين.


تهرّب ضريبي بأكثر من 61 مليار دولار.. هل تنجح الإصلاحات بالجزائر؟

خسائر الضرائب في الجزائر بلغت أكثر من 61 مليار دولار .. هل تُنقذ "المصالحة الجبائية" الخزينة؟

مع اقتراب نهاية كل سنة، يعود السؤال القديم نفسه ليشغل بال الجزائريين: لماذا تبقى مليارات الدينارات ضائعة خارج الخزينة العامة رغم الجهود الحكومية؟.


النفط الجزائري.jpg

صفقات أكتوبر 2025.. الجزائر في صدارة الاستثمارات النفطية العالمية

تصدّرت الجزائر قائمة أكبر الصفقات والاستثمارات النفطية خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2025 مع كل من العراق والسعودية، وسط النشاط المكثف الذي شهده القطاع.

ب
أخبار

قرابة 6 ملايين زائر لصالون الكتاب ونحو تمديد أيامه في الطبعة القادمة

أُسدل الستار مساء اليوم على فعاليات الطبعة الثامنة والعشرين من صالون الجزائر الدولي للكتاب بحضور وزيرة الثقافة والفنون مليكة بن دودة ومحافظ الصالون محمد أقرب، إلى جانب شخصيات أدبية وفكرية وإعلامية بارزة.

بوقرة_1.jpg
رياضة

بوقرة يُعيد سليماني وبودبوز إلى "الخضر" وغياب بلايلي يُثير التساؤلات

أعلن مدرب المنتخب الوطني الجزائري المحلي (أ’) مجيد بوقرة، عن قائمة تضم 27 لاعبًا، تحسبًا للمواجهتين الوديتين المقررتين أمام المنتخب المصري في شهر نوفمبر الجاري بالقاهرة، ضمن برنامج التحضيرات لكأس العرب "فيفا 2025" التي ستحتضنها قطر من 1 إلى 18 ديسمبر المقبل.


العيدي عوداش
أخبار

المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للقضاة يقبل استقالة النقيب العيدي عوداش

أعلن المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للقضاة، اليوم السبت، عن انعقاد دورة استثنائية خُصصت لدراسة استقالة رئيس النقابة العيدي عوداش، التي أودعها رسميًا، ليُقرر المكتب قبولها وفقًا لأحكام القانون الأساسي، على أن تُعرض لاحقًا على الجمعية العامة الاستثنائية للمصادقة النهائية.

أمن الشلف
أخبار

توقيف تيكتوكر شهير في الشلف بشبهة تبييض الأموال وبث محتويات مخلة  

أعلنت فرقة مكافحة الجرائم السيبرانية بأمن ولاية الشلف عن توقيف مؤثر معروف بنشاطه عبر منصة "تيك توك" وتقديمه محتويات تثير جدلا بين رواد هذه المنصات.

الأكثر قراءة

1
أخبار

الجزائر تتصدر مورّدي الغاز لإيطاليا بإمدادات تفوق 14.3 مليار متر مكعب


2
أخبار

لهذا السبب..  أزمة جديدة في البرلمان الفرنسي حول العلاقات مع الجزائر


3
اقتصاد

البحث عن الأدوية في الجزائر.. إلى متى؟


4
أخبار

مُتابعة النفقات العمومية.. نائب يتحدث عن الرقابة المالية داخل البرلمان


5
أخبار

1800 طن من سمك البلطي الأحمر في الجزائر.. منصة رقمية جديدة لتسهيل التسويق