تُظهر قصبة الجزائر كبرياءها المِعماري، بجدرانها العالية وقصورها الراسية، في وجه تغوّل المدينة وقساوة الإسمنت، رغم مرور الزمن وانهيار بعض بناياتها أو تآكلها.
أصبحت هذه القُصور مكانًا يتوقّف أمامه الزوار للتأمّل في زخارفها المعمارية التي تحمل بين طياتها تاريخًا طويلًا، ونقطة التقاء بين الماضي والحاضر
شيئًا فشيئًا تعود الحياة إلى القُصور القديمة في المدينة العتيقة وسط العاصمة، منها ستة تخضع لعمليات ترميم وإعادة تهيئة وصيانة للمحافظة على قيمتها التاريخية والجمالية.
كأبرز المعالِم المعمارية، أصبحت هذه القُصور مكانًا يتوقّف أمامه الزوار للتأمّل في زخارفها المعمارية التي تحمل بين طياتها تاريخًا طويلًا، ونقطة التقاء بين الماضي والحاضر، وباتت وجهةً يقصدها الكثيرون لحضور فعاليات ثقافية وفنية ودمج التراث بالتطور العصري.
تتميّز القصبة العتيقة بموقعها الاستراتيجي إذ تقعُ على تلّة تطلّ على البحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها نقطة جذب سياحية ومركزًا حيويًا للمواطنين والزوار على حد سواء.
"قصر خداوج".. الأسطورة
قصر "خداوج العمياء" أو "خداوج الكفيفة" في القصبة هو أحد المعالم السياحية البارزة، ارتبط بالعديد من الأساطير.
ووفقًا لأشهر الروايات، فقدت "خداوج" ابنة حسان الخزناجي، الذي شغل منصبًا رفيعًا في عصره ويوازي مكانة الوزير في العصر الحالي، بصرها بعد أن تلقّت مرآة كهدية، وتقول الرواية إنّها عندما نظرت إلى تلك المرآة، انعكست أشعة الشمس داخلها ممّا أفقدها القدرة على الرؤية، ورسخ اسمها بالقصر وعُرف بها.
هناك أيضًا رواية أخرى تقول إنّ أعداء والدها دفعوا العطار لخلط السم في الكحل الذي استخدمته، مما أدى إلى فقدان بصرها.
وبعيدًا عن الأسطورة، يعدّ القصر من بين البنايات المهمة في المدينة العتيقة ويحتاج للتأهيل والعناية ليصبح قبلة السياح.
قصر الداي حسين .. قلعة الجزائر
يُسمّى أيضًا "دار السلطانّ"؛ فهو أحد معالم القصبة المميزة، إذ يبرز بشكل خاص بابه الحديدي الذي يتدلّى منه سلاسل ضخمة.
تمّ بناء القصر في القرن الـ 16، ويتألّف من "مجمع سكني" يضم قصرين ومسجدين، وديوانًا للحكم، بالإضافة إلى غُرف ومطابخ وحمامات.
شهد القصر "حادثة المِروحة" في عام 1827، عندما رفض القنصل الفرنسي "بيير دوفال"، دفع ديون بلاده المستحقة على فرنسا، غضِب الداي حسين وأشار بمروحة إلى القنصل في حركة اعتُبرت إهانة، واعتبرتها فرنسا سببًا كافيًا لشن حملة عسكرية واحتلال الجزائر.
في عام 1992 تمّ إدراج القصر أو كما يسمى بـ" قلعة الجزائر" من قِبَل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) كتراث عالمي محمي، وفي عام 2017، تمّ ترميمه للحفاظ على قيمته التاريخية والمعمارية.
الحب وقصة القصرين
كان بناء القُصور وتقديمها كهدية وسيلة للتعبير عن الحبّ، وهو ما تُوثّقه بعض الكتابات عن قصة "قصر عزيزة" ابنة حسن باشا الذي يُقال إنّه بنى قصرًا لابنته حتّى ترافقه طوال حياته وتظلّ قريبة منه، فيما تروي بعض الحكايات أنّ حسن باشا شيّد القصر لفتاة اسمها عزيزة حتى يكسب ودها.
وبالقُرب منه تمّ تحويل قصر "مصطفى باشا" الذي تقع في القصبة السفلى، إلى مقر لـ "المتحف العمومي الوطني للزخرفة والمنمنمات وفنّ الخط".
وليس بعيدًا عن هذا المكان تتواجد أيضا "دار القاضي"، إذ نختلف الروايات حول زمن تشييدها كمقر ملحق لقصر أحمد باشا.
الدار الحمراء .. قصر "الأشباح"
في عام 1800 أمر الداي حسين بتشييد "الدار الحمراء"، وهي أيضًا في شكل قصر له طابع فريد يقع في القصبة السّفلى بالجزائر العاصمة.
يتميّز بتصميمه المعماري وزخرفته الداخلية التي تعكس الطراز العثماني الأصيل، وقد كان قصرًا ثانيًا للداي حسين بعد "قصر الداي"
مع احتلال فرنسا للجزائر، تعرّض القصر للتدمير وحُطمت قُبته الضخمة، فتغيّر شكله ليتناسب مع الطراز الأوروبي، مما أثّر على جماله الأصلي.
وخلال الفترة الاستعمارية، تمّ استغلال القصر كمركز لتعذيب المجاهدين، فترك أثرًا عميقًا في الذاكرة الشعبية وأصبح يُعرف بـ"قصر الأشباح" الذي يرفض الكثيرون الاقتراب منه.
"رياس البحر"
لم يتبقّ من قصور "ريّاس البحر"، سوى قصر "حصن 23" الذي يطلّ ليومنا هذا على الواجهة البحرية للجزائر العاصمة، إذ شُيّد على حافة البحر بمنطقة "قاع السّور" في مدينة القصبة، ويتميّز بموقعه الاستراتيجي.
على مدى أكثر من خمسة قرون كانت هذه القصور قواعد حربية تحتوي على مدافع لحماية مدينة الجزائر من الغزوات، وتؤدي دورًا رئيسيًا في صدّ هجمات الغزاة الإسبان والبرتغاليين، مما جعل الجزائر مدينة منيعة تصد حملات الغزو بكفاءة.
ما يُقال عن قُصور القصبة ظلّ شحيحًا وحبيس بعض الدراسات التي تجتهد لتوثيق التّراث الشّفهي، مثلما تقول الباحثة في التاريخ ثريا سفاوي (جامعة الجزائر) لـ" الترا جزائر"، لأنّ الأرشيف ومختلف الوثائق المتعلّقة بالقصبة وغيرها من المدن الجزائرية القديمة تم الاستيلاء عليه من قِبل المستعمر، أو تعرّض للحرق والنّهب بهدف طمس التاريخ خاصة وأنّ بعض مبانيها تعرض للتهديم وتحويل بعضها إلى ثكنات عسكرية.
وأضافت بأنّ القصبة إجمالًا لازالت لم تبُح بعد بكامل أسرارها وتحتاج للاهتمام والدراسة والبحث أيضًا.
الأزقة .. ماذا تحكي؟
تحمِل "القصبة" قيمة تاريخية ومعمارية، حيث صنّفتها منظمة "يونيسكو" عام 1992 ضِمن التّراث الإنساني العالمي، إذ اعتُبرت من أجمل المواقع المطلة على البحر المتوسط، تمتزِج فيها الذاكرة مع الجماليات المعمارية.
الهندسة المعمارية للمدينة القديمة تٌمثّل عنوان التميز حيث تلتقي جماليات الفنّ المعماري مع عبق التاريخ
ففي السياقات التاريخية، تُعتبر منطقة مُحصّنة تقع عادة على تل مرتفع أو نقطة استراتيجية في المدينة منذُ تشييدها في القرن الـ 16 وفق الطراز العثماني، كانت تُستخدم كقلعة للدفاع، كما تُشير أيضًا إلى المنازل الواسعة أو القصور التي كان يسكنها النبلاء أو الشخصيات الكبرى في البلاد، مما يعكس مكانتها الاجتماعية.
تعدّدت ألقاب القصبة فقد سُمِّيت بـ"لؤلؤة الجزائر"، "عرُوس المتوسّط"، و"الجزائر البيضاء"، إذ أزقّة القصبة المُتداخلة جعلتها تُشبه "المتاهة"، ممّا يصعُب على الغرباء الدخول إليها من دون دليل.
تُمثّل الهندسة المعمارية للمدينة القديمة عنوان التميز حيث تلتقي جماليات الفنّ المعماري مع عبق التاريخ، إذ كانت القصبة شاهدة على العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية عبر العصور.
اليوم، تُولي السلطات اهتمامًا خاصًا بترميم بعض القصور بهدف إحياء قلب القصبة والحفاظ على روح العاصمة، وجعلها وجهة سياحية مستدامة.