12-يناير-2024
أسقاز أمقاس

(الصورة: فيسبوك)

يكتسي الثلج والمطر والشتاء طابعًا خاصًا لدى شاوية الأوراس منذ القدم، فبعض العائلات كانت تحتفي فيما مضى بما يسمى "أذفل أمزوارو"، وتعني باكورة الثلج الأولى. يجتمع أفراد الأسرة حول "الكانون" أو المدخنة لسماع حكايا وأساطير قديمة متوارثة، مثل لونجة و ثامزا " الغولة"، و قصص حرتليس و برتليس و شومانة، تلك العجوز التي أكلت ابنتها.

الكاتب والباحث في التراث الشاوي سليم سوهالي لـ "الترا جزائر":  ينار بتوصيفه تراثًا شعبيًا شاويًا و ترابطه و حادثة غرق فرعون نابع من بقايا الديانة اليهودية التي اعتنقها بعض الأمازيغ

وفيما تتناول العائلة كل ما لذّ وطاب، في ليلة الثلج الأولى، يفرض الغد الموالي إعداد طبق "المرثوخ" بالزبدة الحارة التي تُخبأ على مدار العام في الغرفة المركزية للبيت. و"الدْهَانْ" الحار ليس مجرد غذاء، بل دواء لمعالجة نوازل البرد والزكام الناجم عن الصقيع والبرد.

كانت هذه العادة اختيارية ما أدى إلى تراجعها قبل انقراضها تدريجيًا، لكن احتفالات ينّار بقيت على الدوام رمزا من رموز الابتهاج الفصلي بالسنة الفلاحية الجديدة، ولطابعها الجماعي فقد كرست تلك الاحتفالات وجوده ولا تزال، على أقل تقدير منذ أكثر من ألفي عام.

نمل أبيض

تدوم احتفالات ينّار بحسب التوزع الجغرافي للأوراس ثلاثة أيام بلياليها، فاليوم الأول يوافق 12 كانون الثاني/جانفي (يناير)، ويسمى "ينّار أقذيم"، بمعنى يناير القديم، وهو ينتشر بخاصة في مناطق بعينها على ضفاف الوادي الأبيض وزلاطو وحتى خنشلة، وميزته ولائم الطعام بلا لحوم.

ليتوسع الاحتفال إلى عموم مناطق الأوراس الأخرى يوم 13 يناير، الذي يميزه العشاء الكبير، لذا فإن الشاوية يحتلفون به في هذا اليوم على وجه الدقة والحقيقة، وهم يسمونه "ينّار أَثْرَارْ" أو ينّار الجديد.

في يوم ينّار الجديد، وبعد الفجر بقليل تخرج النسوة زرافات ووحدانا لجلب الماء والحشائش الخضراء الندية، ولنثر القمح والذُرى على الأشجار، والأهم جلب ثلاثة من حجارة الأثافي الجديدة لاستعمالها بدل القديمة خلال تنصيب القدر المخصص للطهي. ترتبط حجارة القدر بطقوس خاصة وذات أساطير، فعبرها يمكن قراءة طالع ما تخبئه في جوفها قادمات الأيام.

تقلب الحجارة فإذا عثر تحتها على نمل أبيض، يسمى "أَمْغَارْ نْ يِّنْڨْ"، أي شيخ الكانون، فتلك نبؤة خير قادم بوفرة محاصيل وتكاثر رؤوس الماشية. أما إذا عُثر على رماد أبيض فذلك عنوان خصوبة نسل وتكاثر زرع، وحرصًا على ذلك يمنح الذكور حجارة ليشيدوا بها بيوتا صغيرة، لحثهم على تكوين بيوت وتأبيد السلف بالخلف.

ينار

وليلًا، تُدهن الأثافي الجديدة بالسمن تمهيدًا لإعداد وليمة الكسكس أو ما يقابله بالدجاج، ويسمى عشاء ينّار بـ "أمنسي ن ينّار" أو عشاء رأس السنة، "أَمَنْسِي نْ إِيخْفْ نْ سُوڨَاسْ"، ثم توزع رزمة من حلويات تتكون من سبعة أنواع من المكسرات، تيمنا بالرقم المنسوب لأيام الأسبوع، ثم تدوم السهرة حتى مطلع الصبح، وتتخللها رواية أساطير وحكايات قديمة، وتمنيات العام الجديد والعمر المديد.

وفي قراءة للرمزية الطقسية تقول الأستاذة خديجة ساعد، مؤلفة كتب وقواميس بالأمازيغية الشاوية لـ"الترا جزائر" إنّ "لكل طقس من طقوس ينار رمزيته الخاصة، فالماء الذي يجلب باكرًا مع الحشيش يرمز إلى البدايات وإلى الخير والنَمَاء، فالماء هو أساس الحياة، والخُضرة رمز الرخاء والخير والسعادة أيضا."

ويرمز، وفق المؤلفة ساعد، "تبديل أحجار الأثافي إلى نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى باعتبار النار هي مصدر النور والقوة والحماية والطهارة الروحية أيضًا، فالتخلص من الأشياء القديمة كالأثافي وإنهاء الأعمال العالقة كلها تشير إلى بداية عام جديد والتخلص من أعباء الماضي والمضي قدمًا بروح وأهداف جديدة".

فرعون في الماء ومحمد في السماء

لا يتوقف احتفال شاوية الأوراس هنا، فهو يشمل يوم 14 كانون الثاني/جانفي، المسمى عندهم "أَسْ نْ فرعون"، الذي يعني بالعربية "يوم فرعون" وقد شاعت منذ القدم أهازيج تقول خلال هذا الاحتفاء الطقوسي "فرعون ذوڨ أمان ومحمد أڨ جنوان"، أي "فرعون في الماء، ومحمد صلى الله عليه وسلم في السماء".

وشدّت هذه العبارة المتوارثة منذ حقبة ليست بالقصيرة اهتمام الباحثين وعلماء الإناسة والمؤرخين، وهذا الأمر سيدفع بالباحث عمار نڨادي (2008/1943) المكنى عمّار الشاوي ابن مدينة مروانة، غرب مدينة باتنة، إلى أسطرة التاريخ بحدث بارز، عندما أسس العام 1980، أي بعد خمس سنوات من انفصاله عن الأكاديمية البربرية بباريس، أول رزنامة أمازيغية معتمدة بصفة رسمية.

عمار نڨادي
الباحث في التراث الأمازيغي الشاوي عمار نڨادي (1943-2008)

وأرَّخ عمار نڨادي في هذه الرزنامة للتقويم الأمازيغي من فترة تولي الملك شيشناق الليبي الأمازيغي عرش مصر الفرعونية في إبّان العام 950 قبل الميلاد. يبدو جليًا أن عمار نڨادي، تلمس في عمله البحثي قبسه الأول من تلك العوالق الثقافية التي رسخت في الذاكرة الشفوية و المخيال الجماعي الشاوي.

لاحقا ستصبح تلك الرزمانة مشتركًا عامًا في احتفالات يناير، لجميع الناطقين بالأمازيغية من واحة سيوة مرورًا بدول شمال أفريقيا وانتهاء بجزر الكناري الإسبانية.

رزنامة

وهنا يفسر سليم سوهالي، الكاتب المعروف والباحث في التراث الشاوي والفنون الشعبية الأمازيغية والجزائرية، هذا الترابط بين ينّار بتوصيفه تراثًا شعبيًا وحادثة غرق فرعون في الماء بعد مطاردته النبي موسى، وعلاقة الديانة المحمدية به، بقوله: "في اعتقادي هذا من تأثيرات السامية، ربما يكون مصدره عبراني أو هو انعكاس معتقدات من بقايا الديانة اليهودية التي اعتنقها بعض الأمازيغ، إذ من المعروف أن اليهودية وصلت عن طريق التجار الفنيقين إلى قرطاج ومن ثم انتشرت بين الناس وهناك كنيس قديم جدا بُني في قرطاج."

ووفق الباحث سوهالي فإنّه "قد يكون بعض الأمازيغ تأثروا بالأساطير اليهودية والعقيدة التوراتية، وهذا ما يفسر بقاءها ضمن بعض الطقوس الشعبية في التراث الأمازيغي. من الراجح أن هذه العادة تعود الى معتقدات قديمة اتخذت فيما بعد أشكالا سايرت الديانات السماوية من توراتية ومسيحية إلى غاية اتخاذها الطابع والشكل الإسلامي".

الشرشم.. نَخْبُ النصر يوم المكيدة

يطلق على يوم الفرعون، الموافق ليوم 14 كانون الثاني/جانفي، لفظًا آخر بالشاوية يُسمى "مزلغ"، وهو يوم يخصص لصناعة طبق "إيرشمن" أو الشرشم المصنوع من القمح والذُرى المسلوقين المُحلّيَين بالسكر، والمزيَّنين بحبات الفول والحمص المجففين، فتتهاداه العائلات فيما بينها، وتنثر أجزاءُ منه على الأشجار والنبيت أملًا في النماء والخضرة والخصوبة، ولا غرو فالشرشم، أيضا، هو الطبق الذي يحضره الشاوية احتفاء بولادة البنين والبنات.

في هذا الموضع، تضيف الأستاذة خديجة ساعد لـ "الترا جزائر"، قائلة: "بالنسبة ليوم الفرعون، فالاحتفال به يتم خارج إطار السنة الفلاحية أيضًا، لأنه متعلق بالتاريخ وبأحداث مرت منذ قرون، وتسميته بلفظ مزلغ يعطينا إشارات واضحة لتأكيد بعض الوقائع التاريخية، لأن كلمة مزلغ تعني يوم الانتصار، كما تعني يوم التغرير أو المكيدة الحربية."

لتكمل: "ومن هنا جاء ربط الفرعون بالملك شيشناق الأمازيغي الذي حكم مصر بعد بسوسنس الثاني وكوّن الأسرة الثانية والعشرين في مصر بداية من عام 950 قبل الميلاد، وبقيت أسرته في سدة الحكم لمدة تزيد عن القرنين من الزمن".