22-يوليو-2022

انزوى السي حميد في ركن من أركان أحد مقاهي حيّ درقانة  شرقي العاصمة الجزائرية، فأغلب أبناء الحي يلتقيه في هذا المكان، إذ بات المقهى الفضاء المفضّل لديه، إنّه رجل ذو شعر أبيض ويدان بالكاد تتحرّكان لحمل فنجان قهوة، يجلس ويرتشفها ببطء بسبب شلل أصاب الجهة اليمنى من جسده، يتكلّم قليلًا وإن تحدّث فهو يعود إلى قصة مأساوية من قصص إصابات العمل والتّقاعد حدثت في العام 2002.

تغيّرت حياة السي حميد مهندس البترول رأسًا على عقب بعد إصابته بشلل نصفي أدى إلى فصله عن العمل بعد تدهور حالته النفسية والصحية 

السي حميد (56 سنة) هكذا يلقّب من قِبَل جيرانه وأبناء حيّه ممّن يعرفونه منذ فترة طويلة، واطّلعوا على حكايته، كيف كان ذلك الرّجل الحيوي وكيف انقلبت حياته جذريًا، فبعدما قضى سنوات عمل مُضني في عديد المدن الجزائرية، ليخرج إلى مرحلة التّقاعد الاضطراري بعدما أصيب في عمله بالجنوب الجزائري، وأقعده المرض لفترة طويلة.

ما زاد من معاناة مهندس البترول، آثار هزة أرضية ضربتالمنطقة سنة 2003، وتفرّقت عائلته بين الأقارب بعدما فقد بيته تحت الركام، إلى أن استفاد برفقة أسرته المكونة من ستة أفراد إضافة إلى زوجته من منزل مؤقت أو ما يسمى بـــ"الشّاليهات" بمنطقة برج البحري بالعاصمة، بالقرب من مسقط رأسه ببومرداس شرق الجزائر، لكن لغاية اليوم لازالت الأسرة شبه مشرّدة بين جدران "الكرتون، المعبأ بمادة " الأميونت" التي تؤثّر على الجهاز التنفسي مع مرور الزّمن وسقف بالكاد يقيهم حرّ الصيف وبرد الشّتاء، في انتظار فرصة التّرحيل التي استفادت منها عشرات العائلات ممن تضرروا بالزلزال قبل ما يربو عن 18 سنة.

أصبحت قِصّته صورة من مشهد تقلُّب الحياة في لحظة، بعدما كان مهندسًا في شركات للتّنقيب على الذّهب الأسود في الصحراء الجزائرية، ليجد نفسه أمام  واقع قاسٍ منذ عقدين من الزمن، وانتهى به الأمر  شبه مقعد تائه بين المقهى والبيت الذي يعود إليه ليلًا، فيما يقضي بعض الوقت في عزلة تامة عن أقرانه وأهله.

الهامِش

عُرف بين أقرانه بأنّه قليل الكلام، إذ نادرًا ما يردّ على مرتادي المقهى وحتى من جيرانه الذين يسألونه عن أحواله، فهو لا يستطيع ترتيب الكلمات في جملة واحدة وحتّى قوله" لا بأس، أنا بخير" فهي كلمات مشحونة بألم العيش على الهامش وكيف كانت نهايته التي لم تخطر على باله ولا على أسرته، بعد عقدين من الزّمن قضاها في السّفر من الشمال إلى الصحراء والتّرحال بين منطقة وأخرى وبين شركات التّنقيب التي تدير عصب الاقتصاد في العالم.

رغم أنه عُرِف بين زملائه بالذّكاء والفِطنة وتحدي الصعاب إلا أن الحادثة جعلته ضعيفًا أمام تدهور صحته، إذ تحدّث لـ"الترا جزائر" بالكثير من الوجع قائلًا إنّه "لا يصدّق أنّه صار لا شيء أمام كلّ ما مضى من معاناة وعمل وصبر وخبرات وتجارب"، بل أصبح عبارة عن "شبه هيكل عظمي يتحرّك ويمشي بصعوبة كبيرة" كما وصف ذلك بألم وحرقة، إذ يرصّ الكلمات بمشقّة وبلُغة أغلب حروفها غير مفهومة. 

لقد تحمّل الكثير من الغربة في البلد الواحد، كما قال، فبين "درقانة " بالعاصمة الجزائرية والجنوب أزيد من ألفي كيلومترا كمسافة فاصِلة بين أهله وبين مورد الرّزق، إذ قضّى فترة عمله بين مشقة التنقّلات والعمل في مناطق غنية بالثّروات الطبيعية منها: النّفط والغاز على غرار مناطق "حاسي مسعود" و" حاسي الرمل" وأقصى مدينة تمنراست في الحدود بين الجزائر ودولة المالي.

خلال تلك الفترة، تجرّع واقع الصّحراء الصَّعب:"مكان مليء بالفراغ والأحلام وانتظار العودة الدّائم لأسرته" على حدّ تعبيره، جابهته الكثير من العقبات في مكان جاذب وساحر مليء بالتحدّيات، لكنّه من جهة أخرى يخلو من الأهل والأحبّة.

كانت البدايات صعبة ومؤقّتة بالنسبة للعامل في قطاع النّفط، إذ كان يطمح بالاشتغال في الصحراء مثله مثل كثيرين بأن يُحسّن وضعه المادي ليعود إلى أهله، غير أن الأمور سارت عكس ذلك، ولم تكن مثلما كان يحلم، إذ أصيب بانهيار عصبي وضغط دموي أقعده الفِراش لمدة تزيد عن الشهرين، وبعدها تحولت الوعكة الصحية إلى إعاقة شبه دائمة بحسب الأطباء.

في سياق هذا المستجدّ غير المتوقّع، سواء بالنسبة للأسرة وحتى الأصدقاء فإن السي حميد صار يعيش الحاضر على أنقاض الماضي، وتغيّرت حياته رأسًا على عقب وتمّ فصله عن العمل بعدما تدهورت حالته الصحية والنّفسية، بل كما قال "صرت عِبئًا ثقيلًا على الزوجة والأولاد".

متقاعِدون اضطراريًا

قصص كثيرة مشابهة، يعيشها العمال في المنشآت الفنية والمؤسّسات وشركات ذات الخطورة العالية، في أماكن كسب الرزق، فـ "مُعضلة" الاستغناء عن العامل بسبب ظروفه الصحية تلوح في الكثير من التخصّصات وفي عديد الحالات، حسب المهندس في مجال الميكانيك بميناء عنابة عبد الغني سرهوجي القادم من منطقة " العفرون" وسط الجزائر، مشددا على أن عمله كغيره من الزملاء في هذا الميناء يحتاج إلى "عامل قوي البنية الجسدية والعقلية والذّهنية".

يطرح محدث " الترا جزائر" عدّة مشكلات تتعلّق بالجزئيات السالفة الذّكر وهي غالبًا ما لا تظهر في العلن، أو بالأحرى لا يراها الآخرون العائلة والأصدقاء لأنها مشكلات خاصة بالفرد العامل، ولكن إن تعرض إلى إصابة تمسّ الجسد فهي واضحة للعيان.

"لقد عاشها كثيرون في سوق العمل الجزائري، بل كثيرون ينظرون إلى ما يدره العمل من مال، دون الاهتمام بتبعاته على الجسد والذّهن والنّفس أيضًا"، هكذا علق المهندس سرهوجي، وهو يشير إلى يديه اللذان التهمتهما الأدوات المستعملة في الميناء، فضلًا عمّا يعانيه من بعد عن الأسرة واغتراب عن أطفاله الذين يكبرون بعيدًا عن عينيه كما لم ينس أنه كلما عاد للبيت العائلي كأنه الضيف الذي يستقبل ثلاثة أيام فقط، ليتلقى كمًا هائلًا من المشكلات التي عاشتها الأسرة وتراكمت في فترة غيابه عن البيت العائلي.

لقمة العيش "مرة"

 في بعض المؤسّسات يُكافِح الآلاف بالسّاعات أمام آلات قد تُودي بحياتهم، رغم وُجود صيغ "التّأمين الاجتماعي"، والتّعويضات عن الإصابة أثناء آداء المهام، غير أنّ فقدان جزء من حياة الجسد لا يمكن أن يتمّ" تعويضه بأي ثمن".

مهنيًا، تضطر المؤسسات في الجزائر إلى تعويض العمال المصابين أثناء أداءهم للعمل، خصوصًا في المؤسسات الصناعية، ما يطرح الكثير من التساؤلات حيال توفير وسائل الأمن والوقاية والصحة في بيئة العمل.

 في المقابل من ذلك، قال الباحث في علم النّفس الاجتماعي وليد بورزامة لـ"الترا جزائر" إن تأثير إصابات العمل على شخصية الفرد العامل متعدّدة الأوجه إذ تضرّ به نفسيًا وجسديًا واجتماعيًا ثم عقليًا مع مرور الزّمن.

بعض الحالات تكون بفعل تراكمي، حسب ما شرح الأستاذ قائلًا إنّ الإصابات قد تبدأ بالإرهاق الشّديد بسبب الضّغوط والإجهاد وهي بدورها تؤدّي إلى الإصابة بأمراض كثيرة أوّلها قرحة المعدة والصّداع الشّديد والضّغط الدّموي، وهي أمراض عضوية كثيرًا ما تكون لها تداعيات سيّئة وتؤدي إلى إصابات خطيرة إن لم تعالج في أوانها.

وأضاف قائلًا إن الإصابات الجسدية تؤثر على الأفراد بل "تصيبهم بالصّدمة النفسية"، خصوصًا إن كان في مكان العمل، وذلك مردّه أن الأخير "ثاني محيط يعيش فيه الفرد ويقضي فيه أغلب أوقاته بعد محيطه الأسري".

وعليه، فإن أيّ خلل يصيب العمال في هذا المحيط المهني، يترك فيهم أثرا بالغا خاصة لمن تمرّسوا في المهنة لسنوات طويلة، وهو ما يشير إليه الكثيرون فيما يتعلّق بالصحة العقلية التي تتفاقم أعراضها بسبب القلق والضّغط وحالات الانهيار العصبي التي يرافقها اضطرابات النّوم.

بعيدًا عن الحالة النفسية للعديد من العمال، فإن التقاعد الاضطراري في حدّ ذاته يصبح عبئًا كبيرًا على صاحبه، إن عاش العامل في السّابق حياة مليئة بالحركة والسّفر، ثم يجد نفسه بين يوم وليلة أمام واقع جديد، بل غريب عنهم.

وكتوصيف لهذه الوضعية، قالت الدكتورة آمال قمراوي المختصة في طبّ العمل إن التّقاعد عمومًا في حدّ ذاته هو عيش حياة ساكنة بعد حياة متحرّكة، بل يكتشفه البعض بعد أشهر من عيش هذا الواقع الجديد أنه "انتحار من نوع آخر"، أو ما يسمّى بـ"العطالة بعد العمل"، لافتة إلى أنّ العامل أو الموظّف السابق يشعر أنه في حالة رُكود قد تأخذه إلى حالة كآبة ثم اكتئاب حادّ بعدما كان يعيش في زخم العمل اليومي وعلاقات متشابكة مع زملائه متغافلًا عن عدة حقائق، ليجد نفسه في فراغ قاتل يواجه العديد من الزوايا المظلمة التي لم يكن راها وهو في خضمّ عجلة العمل اليومي.

وتعتبر هذه الحالة النّفسية مرض لا يمكن أن تتفهّمه العائلة بالدّرجة الأولى، حسب ما شرحت الدّكتورة قمراوي لـ"الترا جزائر" لافتة إلى أنّها مرحلة أولى من المرض العُضوي بل هي مقدمة من طور لظهور أعراض أمراض عضوية لها جذور نفسية.

في الإطار نفسه، قالت إن المتقاعدين بسبب إصاباتهم في العمل، أو بسبب ظروفه، تكون حياتهم مغايرة تماما للسّابق، فكثيرون وصلوا حدّ الانتحار حسب تعبيرها خصوصًا إن كانت إصاباتهم بليغة، والبعض منهم فضّلوا الانزواء في مكان واحد، بينما لجأ البعض إلى مسايرة الحياة ولكن بحِمل ثقيل ومتابعة مختصّين نفسانيين، بينما القلة منهم أوجدوا طريقة للتعايش مع الوضعية الجديدة وهذا ما يجب أن تفكر فيه الكثير من المؤسّسات بأن يحظى عمالها بأفكار عمل أو التطوع لعيش فترة ما بعد التقاعد.

يواجه المتقاعدون عن العمل ظروفًا جديدة بعد ابتعادهم عن مناصب عملهم لها تبعات نفسية وصحية 

ومن هذا المنطلق، تظلّ الأسرة هي المبدأ والمنتهى، فالمتقاعد عمومًا يواجه ظروفًا جديدة، إذ يروي البعض لـ"الترا جزائر" أنّهم بعد مرحلة العمل الطويلة صاروا لا يعرفون أبناءهم، بل هناك من كبر أبناؤه بعيدًا عن عينيه، ما سبّب لهم انفصامًا شديدًا، وكأنهم اكتشفوا أبناءهم كبارًا ليس إلاّ.