04-أكتوبر-2024
(الصورة: فيسبوك)

(الصورة: فيسبوك) عبد الرحيم حومة

في حوار مع "الترا جزائر" حول كتابه الجديد الموسوم "قتال العصر: حروب الجيل الجديد واستراتيجية المواجهة وفق الخصوصية المحلية"، الصادر منذ أسابيع عن دار ومضة، يستعرض الكاتب و الباحث عبد الرحيم حومة الذي كان أصدر العام الفارط مؤلفًا بعنوان "تحديات الواقع الجزائري"، أهم تعريفات حروب المستقبل المعروفة بمسمى الجيل الخامس.

عبد الرحيم حومة لـ "الترا جزائر": إن وحدًا من أهم خصائص حروب الجيل الجديد هو اقتحامها للجبهة الثقافة كاستغلال الخصائص الثقافية والدينية والاجتماعية لخلق التوترات الداخلية

تعتمد هذه الحروب بالأساس، وفق عبد الرحيم حومة، على استخدام وسائل غير تقليدية عسكريًا و ثقافيًا، لتفتيت الدول وإخضاعها عقب موجة مديدة من الإضعاف المعنوي سواءً بتغذية الصراعات الإثنية و توظيف الاحتجاجات الاجتماعية لأهداف سياسية، و إثارة الفتن المذهبية الدينية، مقدمًا عدة نماذج تخص الحالة الجزائرية، داعيًا في السياق ذاته، مؤسسات الدولة لإنشاء مراكز تفكير لتفكيك ما أسماه الألغام التاريخية و الثقافية والهوياتية كي لا تكون أدوات خلخلة في تغيرات الجيبوليتيكا المتمددة شمال المتوسط و جنوب الصحراء الكبرى.

  • شاعت في السنوات الأخيرة تسمية جديدة هي حروب الجيل الرابع والخامس فما المقصود بهذا المصطلح؟

أول من قسم الحروب إلى أجيال هم الأميركيون عبر مراكز التفكير " ثينك تانكس"؛وبحسب التعريفات الجديدة فحروب الجيل الأول هي حروب جبهة تتكون من كتلتين متحاربتين تنتهي لإبادة الكتلة المقابلة بوسائل تقليدية مثل السيوف والرماح وغيرها، فيما تعرف حروب الجيل الثاني بحروب نابليون بونابرت الذي استخدم المدفعية كعامل حسم لهزم الكتلة المعادية، في حين تميزت حروب الجيل الثالث حسب المفكر والاستراتيجي العسكري الإنجليزي ليدل هارت في قطع خطوط الإمداد وعزلها لتكون بالتالي ضعيفة وسهلة التناول الناري فيما بعد.

وبداية من هذا الجيل من الحروب ستبرز ملاحظة غاية في الأهمية، هي أن الفرد المقاتل بدأ يبتعد شيئًا فشيئًا عن المواجهة المباشرة، لم يعد القرب من الجبهة عاملًا حاسمًا بل البعد عنها.

أما حروب الجيل الرابع فبدأت حسب الأميركيين عبر الثورتين الفيتنامية والجزائرية اللتان انتهجتا مبدأ حرب العصابات التي لا تفترض أصلًا وجود جبهة بل مجموعات متحركة تضرب وتهرب وتختار ميدان ووقت الاشتباك المناسب لها لتكون بذلك عدوًا وهميًا غير مرئي وشبه افتراضي، لذلك نلاحظ أن العسكريين الأميركيين يعتبرون فيلم "معركة الجزائر" درسًا تطبيقيا لها، ويدمج الأميركيون بين الجيل الرابع والخامس في مصطلح واحد، وتفاديًا للبس فضلت أن أسمي حربي الجيل الرابع والخامس بحروب الجيل الجديد.

  • بم تتسم حروب الجيل الجديد وماهي خصائصها الواقعية؟

أهم مظاهر هذه الحرب هو اختفاء جبهة المواجهة المباشرة، فمصطلحات مثل "صفر قتيل" التي ظهرت خلال حرب الناتو على يوغوسلافيا، تؤكّد نزعة الابتعاد أكبر قدر ممكن عن جبهة القتال، لأسباب هامة هو حماية الأفراد وتقليل الكلفة المالية وتوفير الجهد المبذول، وواحد من أكثر تمظهرات هذه الحرب هي الصواريخ الموجهة والمسيرات الطائرة والدرونات، وطبعًا، في هذا النوع من الحروب يتم  استغلال كافة الخصوصيات المحلية للبلد المعادي كالمعطيات الجغرافية والمناخية والتضاريس و الإطلالات على البحار وخطوط التجارة الدولية و غيرها لأنها جزءٌ من إدارة الحرب و كل تفصيل يبدو مهمًا للغاية بما في ذلك الخصائص الاجتماعية.

  • أشرت في كتابك إلى استغلال الخصائص المحلية والثقافية في هذا النوع من الحروب فما المقصود بذلك؟

إن وحدًا من أهم خصائص حروب الجيل الجديد هو اقتحامها للجبهة الثقافة كاستغلال الخصائص الثقافية والدينية والاجتماعية لخلق التوترات الداخلية لأن الهدف النهائي لهذا النوع من الحروب هو إضعاف الدولة بغرض إخضاعها، وبالتالي فمن المهم الوعي بهذه النقاط. في الجزائر يعتبر الصيام واجبًا اجتماعيًا مقدسًا إذا ما قورن بالصلاة، قد يتساهل الجزائريون مع تارك الصلاة لكنهم لا يغفرون انتهاك حرمة رمضان، عكس تركيًا تمامًا حيث تعتبر الصلاة واجبًا دينيًا اجتماعيًا مقدسًا فيما تعتبر الصيام أمرًا فرديًا.

وبالتالي فإن دفع مجموعة لتنظيم انتهاك جماعي لحرمة رمضان في ساحة عمومية بالعاصمة  في الجزائر، أو مظاهرة ضد الصلاة في تركيا، يمكنهما أن يحدثا توترًا اجتماعيًا هائلًا وخلخلة اجتماعية عظيمة الأثر عبر كسر روح المجتمع، هذا فقط مثال لتوضيح استغلال الخصائص المحلية.

ثمة أمر آخر هو إمكانية استعمال الاختلاف الإثني كمحفّزٍ من محفزات حرب الجيل الخامس الذي يستهدف تفتيت اللحمة الوطنية، مثلما تفعله صفحات مجهولة عبر تحويل عوامل النسيج الاجتماعي لحشوة متفجرة، وطبعًا هذا لا ينطلق من فراغ، حيث يجب أن نعرف أن الأنثروبولوجيا الاستعمارية التي بدأت في القرن التاسع عشر في الجزائر أصدرت أكثر من 600 دراسة حول منطقة القبائل و130 دراسة حول منطقة الأوراس، وهذا يعني أن الاشتغال على الخصوصيات المحلية له سوابق تاريخية، بحثًا عن ثغرة ما في النسيج الاجتماعي.

أيضًا يُمكن لفهم الدين الذي تتحكم فيه تيارات عالمية أن يصبح مشكلة داخلية، سواء عبر إثارة النعرات المذهبية، بما أن هناك مذهبان معترف بهما في البلاد هما المالكي والإباضي، دون أن ننسى أيضًا أن الحزب المنحل خلال فترة التسعينيات والذي حملت أحد تياراته المشكلة له أفكارًا سلفية وافدة وشاذة عن نسيج المرجعية الدينية المحلية.

إن كل هذه التوابل يمكن استغلالها ضمن نطاق حروب الجيل الخامس، ما يستدعي ما أسميته بالترميم الاجتماعي، بمراقبة تطور وتمظهر هذه الأفكار منعا للاستغلال الخارجي لأن الطبيعة تكره الفراغ، وحتمًا يجب أن تكون للدولة مراكز دراسات أنثروبولوجية واجتماعية لتعزيز الوعي بهذه المعطيات وخطر من استغلالها من طرف الآخرين، هو جهلنا بها وبمكوناتها وبمعرفة ذهنية الافراد والمجموعات البشرية، خاصة في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية، في العادة تنشأ النزعات الانفصالية في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية حيث تتطور أفكار مثل " الثروة في أرضنا و خيرها لغيرنا"،وهذا تحديدَا ما صنع فكرة دولة جنوب السودان شعارًا وتطبيقًا، وعلى الدولة أن تكون واعية بحجم هذه التحديات خاصة مع التطورات الأخيرة الحاصلة في دول الساحل.

  • لفت نظري أنك استعملت مصطلحي "الفجوة الجيلية" و"شيخوخة المؤسسات" هل من توضيحات أكثر؟

 نظريًا وبالاستناد إلى تقسيم كارل مانهايم الذي قد يجعلنا نرى بنيتنا الجيلية تتكون من أربعة أجيال، الأجداد، والآباء، والأبناء والأحفاد، نحن نعتبر جيل الأبناء الذي يجب أن يفكر مليا في جيل الأحفاد لأنه سيكون في قلب معارك الجيل الخامس، لعدة أسباب هي أنه جيل رقمي بامتياز يمكن أن نعتبر أن لحظته الجيلية هي في الانتشار المذهل للمعرفة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي فهذا الجيل لا يمكن "استقطابه" أو " بعبارة أخرى " تجنيده" سياسيًا عبر الخطاب والوسائل التقليدية، وهو جيل متمرد على التقاليد بمعنى أنه لا ينظر إليها بنفس قداسة الأجيال السابقة.

خصائص هذا الجيل الصاعد تجعله أكثر عولمة و انفتاحًا على الإنجليزية، فهو أنجلوفوني يجب أن نحسن التعامل معه تفاديًا لانقطاع الاتصال معه كما حدث بين جيل الآباء الفرنكوفوني و جيل الأبناء المعرب، إذ أن أغلب المشكلات المرتبطة بالسياسة و الهوية التي مزقت المجتمع و لا تزال بين هذا الجيلين كانت بسبب عدم التواصل اللغوي بين الجيلين السابقين.

وتلاحظ أن هناك هوة جيلية بدأت أول ما بدأت في التاريخ المعاصر بين المصاليين ومجموعة الثورة، إذا أنها كانت بين شبان مبادرين وزعيم كبير نوعًا ما من حيث السن، ويمكن أن تتحسسها في الوقت الراهن من خلال تنمر  جيل الأحفاد على سابقيه عبر مصطلحات "الكهول" و " الدوميمونش" وهو بذلك يعبر برفض لطريقة السياسة والتسيير، وطبعًا إذا ما تم الفشل في احتواء هذا الجيل فيمكن لهذه الشريحة أن تكون واحدًا من بنك الأهداف المفضلة لإثارة القطيعة بين مكونات المجتمع والدولة.

أما بخصوص "شيخوخة المؤسسات" فهو أمر ملحوظ من أصغر مؤسسة لأكبرها في البلاد، وأنتج ذلك ما يسمّى نظام المجتمع الراكد، سواء عبر التوظيف العشوائي وعدم غرس الكفاءات في مختلف القطاعات، وبالتالي تتميّز المؤسسة في الجزائر بإنتاج العطالة، وطبعًا أنتج ذلك ظاهرة انعزال المواهب والكفاءات وإحساسها جراء مشكلتي الفجوة الجيلية وشيخوخة المؤسسات بعدم الانتماء، ما يستدعي ضرورة تفطن السلطات للأمر، بإنشاء هيئات لاستقطاب المواهب النادرة والكفاءات، الواجب توظيفها للصالح العام والمشروع الوطني، عوض أن توظف ضدك بناء على ما تقدم من فجوة الأجيال.

وطبعًا يجب تقديم الحلول المتعلقة بردم الفجوة أو التقليص في شقها، من خلال إستراتيجية علاجية وبطريقة ملائمة للتوجهات الكبرى للمجتمع وتقاليده عبر ما يسمى التوطين المنسجم مع القيم الاجتماعية، أيضا يجب إنتاج نخب سياسية غير مستلبة فكريا، سواء للأفكار الدينية المستوردة زمنيا من التراث ، أو من أفكار يسارية أو ليبرالية غير متلائمة مع واقع المجتمع.

المجتمعات الراكدة عبارة عن أنظمة تخدم نفسها، فهي حلقة مفرغة يجب كسرها بمعالجة عدة نقاط في نفس الوقت، كمراجعة المسار التعليمي والتكويني، وأيضا مأسسة استرجاع المواهب والكفاءات المنعزلة، ولنا نموذج في كيفية تفكيك إمبراطورية ميكي كوهن المافياوية في أمريكا، عندما تمكن ضابط نزيه من إعادة موظف شرطة بارع يعيش على الهامش، ومحقق بارع في رصد المكالمات واختراقها، وشرطي مغمور، وشكل بهؤلاء فرقة مقتدرة، ذلك أنهم أكفاء لم يستطيعوا التأقلم مع الوضعية الراكدة.

  • تناولتم مسألة هامة هي الجالية الجزائرية بالخارج فما علاقتها بالوضعية الجيوبوليتكية في المنطقة؟

بطبيعة الحال التموضع الجيبوليتيكي صار مهما للغاية، فالعالم أصبح رقعة شطرنج وبالتالي فإن كل بلد يجب أن تكون له استراتيجية مقاومة للضغوط الخارجية، وفي الحالة الجزائرية التي لديها جالية مهمة في فرنسا وفي بلدان أخرى، نلحظ أنها ضعيفة التأثير بسبب أنها تفتقر لمفهوم "اللوبيينغ" أو تشكيل جماعات الضغط، سواءً عبر التجميع والتشبيك والتوظيف السليم والفعال.

على سبيل المثال يمكنك التأثير في الانتخابات الرئاسية الفرنسية على سبيل المثال، أو تعمل على الدفاع عن المصالح السياسية والاقتصادية للبلاد في فرنسا أو في أي مكان في العالم هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تتفادى أن تكون هذه الجالية سلاحًا ضدك، ففي عالم اليوم تغيرت المفاهيم لم تعد الوحدة تصنع القوة بمفردها، بل "الشتات يصنع القوة" كما تفعل إسرائيل عبر جالياتها المتفرقة عبر العالم والتي تخدم الكيان الصهيوني بكل الطرق المتاحة وغير المتاحة.

في واقع الحال أفرزت التغيرات الملحوظة إعادة تعريف لمفهوم القوة، لم تعد القوة العسكرية تحسب سوى بثلاث مفردات هي، الصواريخ الموجهة و الدرونات المسيرة و القوة السيبرانية، إن هذا هو ما يجعل دولا و قوى كبرى تخشى أحزابا في الشرق الأوسط طورت هذه الوسائل، فما بالك بدول.

عبد الرحيم حومة لـ "الترا جزائر": هناك هوة جيلية بدأت في التاريخ المعاصر بين المصاليين ومجموعة الثورة، ويمكن أن تتحسسها في الوقت الراهن من خلال تنمر  جيل الأحفاد على سابقيه عبر مصطلحات "الكهول" و " الدوميمونش"

وفيما يخص الجزائر فمن الواجب أن تعمل على إنشاء مراكز تفكير متخصصة في هذه المسائل، و من أجل بناء جبهة داخلية متينة مقاومة للحروب من الجيل الخامس، من خلال تعزيز الهوية الوطنية الجامعة ومحاربة التطرف العرقي والديني والفكري، من خلال تبني استراتيجية تغيير ذهني عبر المناهج التعليمية والمحتوى الإعلامي الكلاسيكي والإعلامي الإلكتروني، وعبر وسائل النفاذ للوعي الجماهيري من خلال العمل الثقافي طويل الأمد، ممثلًا في الترويج للأفكار الجديدة عبر الفنون الشعبية المعروفة بما فيها موسيقى الراي ذات الانتشار الكبير، والسينما والمسلسلات والمسرح مثلما فعلت تركيا ذلك منذ عقود.