يشكّل ملّف الهجرة وتنقل الأشخاص أحد النقاط الخلافية بين الجزائر وفرنسا، حيث تقول تقارير صحفية إنها أحد الأسباب التي أجلت الزيارة المنتظرة للرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس، وذلك بسبب وجود رغبة ملحة للفرنسيين في مراجعة اتفاقية عام 1968 للهجرة التي كانت في الأيام الماضية ولا تزال حديث السياسيين هناك، خاصّة وأن إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون تتأهّب لطرح قانونٍ جديدٍ للهجرة، فما هو مضمون هذه الاتفاقية التي جعلها تصنع في كل مرة نقاشًا وجدلًا في البلدين.
كانت اتفاقية 1968 تسمح للجزائريين بالسفر إلى فرنسا ببطاقة تعريف فقط ودون جواز سفر ودون تأشيرات
ومع اتساع الموجة الأوروبية في التقليل من عدد المهاجرين القادمين من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وتجسيد سياسة هجرة انتقائية، تعالت في فرنسا مؤخرًا أصوات تنادي بمراجعة اتفاقية 1968، وإفراغها من المزايا التفضيلية للجزائريين مقارنة بباقي المهاجرين القادمين إلى فرنسا.
حقوق قانونية
وقّعت اتفاقية الهجرة بين الجزائر وفرنسا في 27 ديسمبر 1968، بعد ستِّ سنوات من استقلال الجزائر، إذ تعد هذه الوثيقة استمرارًا لاتفاقية إيفيان الموقعة بين البلدين، والتي بموجبتها تنظيم استفتاء لاستقلال الجزائر عن المستعمر الفرنسي، وبموجب الاتفاقية، يستفيد الجزائريون من حرية تأسيس الشركات أو ممارسة مهنة حرة.
ونصت الاتفاقية في بدايتها على دخول 35 ألف عامل جزائري إلى فرنسا سنويًا لمدة ثلاث سنوات.ويتمتع المهاجرون الجزائريون بالعديد من المزايا المتعلقة بتصاريح الإقامة ولمّ شمل الأسرة التي لا يتمتع بها المهاجرون من جنسيات أخرى، إضافة إلى أفضلية في مجال الإقامة والعمل للجزائريين.
وكانت اتفاقية 1968 تسمح للجزائريين بالسفر إلى فرنسا ببطاقة تعريف فقط ودون جواز سفر ودون تأشيرات، إلا أنه تم تعديلها عام 1986، لتفرض حينها التأشيرة على الجزائريين، وذلك بعد التفجيرات التي نفّذتها حركة "مجاهدي خلق" في فرنسا، لتحدث تعديلات أخرى أعوام 1993 و1998 و2001، التي قلّصت من الامتيازات التي كانت للجزائريين الموجودين بفرنسا، إلا أنها أبقت لهم الأفضلية في الحقوق مقارنة بباقي الدول خاصّة المغاربية والعربية.
وتنص الاتفاقية بموجب تعديل 2001 على تسوية وضعية الجزائريين الذين يتزوّجون برعية فرنسية أو أجنبية لها وثائق إقامة في باريس، وفق بند لم شمل الأسرة، الذي يضمّن لأفراد العائلة الحق في العلاج الصحّي والوظيفة والتعليم، ومنح إقامة لمدة سنة قابلة للتجديد.
وتمكن بنود الاتفاقية الجزائريين مقارنة بباقي الأجانب من الحصول على ما يعرف بإقامة 10 سنوات بعد ثلاث سنوات من الإقامة، مقابل خمس سنوات في القانون العام الفرنسي، كما أنه بعد 10 سنوات من الإقامة بفرنسا - حال استطاع المعني إثباتها - يُمكن للجزائري الذي يوجد في وضعية غير قانونية، الحصول آليًا على وثائق الإقامة.
كما تنصّ الاتفاقية على تسهيل منح الجنسية الفرنسية للجزائريين الذين ولدوا بفرنسا وأقاموا بها لمدة تزيد عن ثماني سنوات، وتابعوا تعليما بمدارسها، ومن بنود الاتفاقية، أن تمنح السلطات الفرنسية تفضيلات في التأشيرة والإقامة للطلبة والباحثين والفنانين والأدباء وكلّ من له صلة بالإبداع والتأليف إن كان يحمل الجنسية الجزائرية.
مراجعة
بالنظر إلى ما تحمله من تفضيلات للجزائريين مقارنة بباقي الجاليات الأخرى، ظلّت فرنسا المنتهجة سياسة هجرة متشدّدة طيلة سنوات تحاول تعديل بنود هذه الاتفاقية وإفراغها من المضامين الأساسية للجزائريين، والتي أصبحت لا تطبق في الوقت الحالي، فكما ذكر سالف عدلت هذه الاتفاقية أربع مرات سنوات 1986و1993 و1998 و2001.
ولا ترفض الجزائر تعديل الاتفاقية، كفكرة عامة، إنما تعارض أن يكون التعديل من قبل الفرنسيين يصبّ ضمن توجه واحد وهو انتهاك حقوق المهاجرين الجزائريين، لذلك ترى أن تكون أي مراجعة لهذه الوثيقة بالتشاور بين الطرفين، وبما يتوافق مع المتغيرات الجديدة التي تسهل تنقل الأشخاص لا تعقيدها وتصعيبها.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خلال انعقاد الدورة الخامسة للجنة الحكومية رفيعة المستوى التي عقدت بالجزائر برئاسة الوزير الأول أيمن عبد الرحمان ونظيرته إليزابيث بورن، اتّفق الطرفان على إعادة تفعيل الفريق التقني الثنائي المكلّف بمتابعة اتفاق 1968 من أجل إعداد الاتفاق التكميلي الرابع في الوقت المناسب.
وأشار الطرفان إلى أهمية وجود عمل منسّق في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية،واستعدادهما استئناف أشكال الحوار التي شُرع فيها قبل جائحة كورونا، مع تأكيد التزامهما باحترام علاقاتهما في مجال باحترام الإطار القانوني الذي ينظم العودة والسماح بالدخول مجدّدًا.
وتضمن البيان المشترك للدورة "تعزيز التنقّل المشروع بين البلدين والذي يساهم في تعزيز المبادلات الإنسانية والمؤسّساتية والجامعية والعلمية والثقافية والاقتصادية، وتنظيم تنقل الأشخاص والوسائل الكفيلة لضمان استمراريتها وتعميقها،وذلك في ظلّ احترام الإطار القانوني الثنائي الذي ينّظم هذه المسائل، لاسيما من خلال تنفيذ الاتفاق المتعلّق بتبادل الشباب العاملين لـ2015 ".
استغلال سياسي
لا يعود الجدل القائم حول اتفاقية 1968 إلى ما تتضمنه من ميزات تفضيلية للجزائريين فقط، إنما يرجع أيضًا إلى كون ملف الهجرة والعلاقة بالجزائر مواضيع تلفت الشارع في فرنسا، لذلك يحرص السياسيون الفرنسيون، وبالخصوص من اليمين واليمين المتطرف أن تكون على الدوام هذه القضية من المواضيع التي يتكرّر الحديث عنها.
ويظهر هذا التوظيف السياسي من خلال التصريحات التي عادت في الأيام الأخيرة من قبل سياسيين فرنسيين من مختلف التيارات، وهو الموضوع الذي كان من بين الأسباب التي أجلت زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى فرنسا التي كانت مقررة شهر حزيران/جوان الجاري.
خلال الشهر الجاري، فضل رئيس الوزراء الفرنسي السابق إدوارد فليب المرجّح أن يكون أحد المرشحين لرئاسيات 2028 أن يكون اتفاق الهجرة مع الجزائر بداية تقديمه كمرشح رئاسي قوي.
وقال فليب في مقابلة مع أسبوعية "إكسبرس" الفرنسية إن الحفاظ على الاتفاقية اليوم، بعد 55 عامًا من التوقيع عليها، يجب أن يشمل إعادة قراءتها وفقا للظروف والشروط السياسية القائمة اليوم، وليس تلك التي كانت قائمة لحظة التوصل إليها.
وبدوره، كان السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر كزافييه درينكور المعروف بخطابه المعادي للجزائر، باعتباره كان من المقربين من نظام الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة قد انتقد هذه الاتفاقية، معتبرًا أنها لا تفي باحتياجات بلاده ومطالبًا بإعادة النظر فيها "حتى لو أدى هذا إلى أزمة دبلوماسية".
وخلال مقابلة مع مجلة "لو بوان" الفرنسية الشهر الماضي، أشار درينكور إلى أن بنود الاتفاقية "باهظة" على فرنسا، كما أنها وضعت المهاجرين الجزائريين في خانة مميزة مقارنة بنظرائهم من جنسيات أخرى، "وكأن قوانين الهجرة لا تنطبق عليهم".
وانتقد درينكور التفاقية، كونها سمحت بأن يصبح الجزائريون يحوزون على 12% من إجمالي عدد المهاجرين في فرنسا.
وبما أن ملف الهجرة موضوع لافت للرأي العام الفرنسي، طالب رئيس حزب الجمهوريون اليميني إيريك سيوتي هو الآخر بمراجعة الاتفاقية.
ويتزامن هذا الجدل، مع سعي الحكومة الفرنسية إلى إقرار قانون جديد للهجرة يلحظ تغييرات مهمة على القانون المعمول به حاليا، منها شرط إتقان الحد الأدنى من اللغة الفرنسية قبل الحصول على الإقامة (متعددة السنوات)، فضلًا عن تسهيل طرد الأجانب المدانين بأحكام قضائية جرمية على الأراضي الفرنسية، وتعديل آليات منح حقّ اللجوء، وزيادة أعداد مراكز الاحتجاز (قبل الترحيل).
غير أن قانون الهجرة الجديد حتى وإن تم إقراره، فإنه سيجد صعوبة في تطبيقه على الجزائريين في وجود اتفاقية 1968، لذلك تسعى الحكومة الفرنسية لتغييرها، لأن الاتفاقيات الدولية تسمو على القوانين المحلية، إضافة إلى أن الطرف الجزائري ليس مؤيدًا في الوقت الحالي لمراجعة أي بند من شأنه الإنقاص من حقوق جاليته بباريس، لأنه حتى في وجود هذا الاتفاقية لا تلتزم السلطات الفرنسية بتطبيق كل ما جاء فيها وتضع عراقيل غير مبررة في منح التأشيرات وتسهيل تنقل الجزائريين بين البلدين.
ويظهر هذا التعسّف في منح التأشيرات للجزائريين في ترجع نسبتها مقارنة بباقي الدول المغاربية رغم الحقوق القانونية التي تقرها لهم اتفاقية 1968، حيث تشير الإحصاءات إلى أن المهاجرون الذين وصلوا إلى فرنسا في عام 2020 ولدوا في الغالب في المغرب (9.5 بالمئة)، وفي الجزائر (7.1 بالمئة) ، وفي تونس (4.5 بالمئة).
لا تثير الأوساط الفرنسية قضية اتفاقية 1968، بسبب بنودها فقط، ولكنها تستعمل أيضًا كورقة ضغط ضد الجزائر بالنظر لتواجد أكثر من خمسة ملايين جزائري يعيشون في فرنسا وفق إحصاءات غير رسمية
وفي الحقيقة، لا تثير الأوساط الفرنسية قضية اتفاقية 1968، بسبب بنودها فقط، ولكنها تستعمل أيضًا كورقة ضغط ضد الجزائر بالنظر لوجود أكثر من خمسة ملايين جزائري يعيشون في فرنسا وفق إحصاءات غير رسمية، وكذا للتعبير عن الخلافات السياسية والاقتصادية بين البلدين، لأن هذه الاتفاقية حتى وإن حملت امتيازات للجزائريين مقارنة بباقي المهاجرين، فإنها سمحت في الوقت ذاته لباريس للاستفادة من كفاءات جزائرية عالية ويد عاملة مهنية في كل المجالات، وهي عمالة تدفع في الأول والأخير الضرائب للخزانة الفرنسية.