يكتشف سليمان الصحفي بجريدة وطنية بالصدفة، دفترًا في جيب أحد المعاطف المودعة في محلّ لغسل الملابس بمدينة عنّابة، ملكٌ لأحد أقربائه، دُوّنت على الدفتر ملاحظات عن حادثة اغتيال الرئيس محمّد بوضياف.
محمد بوضياف: بماذا تفوّقت علينا الدّول الأخرى؟ لقد تفوّقت علينا بالعلم
تفاصيل محيّرة وأسماء وعناوين وأرقامٌ لشخصيات تقاطعت مصائرها في ذلك اليوم بالراحل محمّد ومنفّذ عملية الاغتيال. ليأخذ الصحافي على عاتقه مهمّة البحث في الموضوع دون تردّد، وهو الذي كان حاضرًا في مسرح الجريمة بدار الثقافة يوم 29 جوان/ حزيران سنة 1992، وكان شاهدًا على ما وقع في تلك الصبيحة.
اقرأ/ي أيضًا: عبد القادر بن صالح.. رئيس مؤقّت في حقل ألغام
كانت هذه المشاهد الأولى في رواية "29/06...الشاهد الأخير"، للكاتب ربيع خرّوف، والتي دارت أحداثها حول اغتيال محمد بوضياف في مدينة عنّابة، إذ لا يُصدر هذا العمل الروائي أحكامًا في قضية لم تفكّك أحجيتها بعد، لما تحتويه من أسئلة عصيّة لا إجابات حقيقية لها، بل يسرد بطريقة فنيّة لا تخلُ من التشويق، مسارات أربعة أشخاص قد يكون أحدهم شاهدًا أخيرًا في أسوأ ذكرى عاشتها مدينة عنّابة والجزائر.
لقد شهد العالم في ذلك اليوم اغتيال رئيس دولة على المباشر، فبكى الجزائريون رئيسًا لم ينتخبوه لكنّهم تعلّقوا به، وكانوا يرون فيه نقطة ضوء وسط ظلام حالك كانت تغرق فيه البلاد.
كلمات أخيرة..
لم يكن محمد بوضياف يعلم أن زيارته لمدينة عنّابة ستكون آخر ظهور له، لم يكن يعلم أيضًا أن دار الثقافة التي سيخطب بها ستحمل اسمه مستقبلًا، وينصّب له تمثال برونزي في ساحتها. وهو الذي ارتبط به الجزائريون لأنّه أشهر سيف الحجّاج في وجه الفساد مقترحًا إصلاحات عميقة لكيفية تسيير الدولة.
لقد وضع بوضياف أصبعه مباشرة على موضع الجرح ومركز الوهن في الكيان الجزائري، لقد كان صوته الصادر من قاعة المحاضرات يصل الساحات والمقاهي المحاذية لدار الثقافة، "...مهما يكن الكلّ يملك عائلة وعملًا لكن توجد قضيّة أسمى، البلد بلدنا، وهذا الشّعب هو شعبنا، وهذه الأرض لنا، هناك من سيروّج لفكرة اليد الخارجية، يجب أن ندرك أن الخير والشرّ صادران منّا.. المرحلة انتقاليّة والوطن سُحب إلى فمّ الهاوية، ونحن نرى ما أقدمت عليه عصابات الأصوليين.. ما الفائدة من حرق حافلة؟ أوتخريب مبنى أو وضع قنبلة؟ كلّ هذا للوصول إلى السّلطة والحكم؟ أحذّر هؤلاء بكلّ صراحة، أمر السّلطة والحكم اليوم محسوم، ونحن عازمون على تخليص الشّعب من تلك العناصر المزعجة".
يواصل الرجل الثوري الذي قدم من المغرب في مهمّة تشبه المستحيل، لإنقاذ ما تبقى من جمهورية حارب الاستعمار الفرنسي مع رفاقه لإقامتها، لقد فتح الرئيس المغتال جبهتين في آن واحد، محاربة الفاسدين داخل منظومات الدولة، ومحاولة القضاء على تطرّف دموي سيفتك بقيم الدولة في حال استمراره.
صوت الرئيس يملأ القاعة وسط هتافات وتصفيقات الحاضرين "الهدف الأوّل من المجلس الأعلى للدولة هو إرجاع هيبة الدولة من القمّة إلى القاعدة، إلى متى يبقى المسؤول قابعًا في مكانه؟ المسؤوليات محدّدة في الزمن، أن يكون في المستوى أو يترك مكانه لمن هو أكفأ منه، يجب أن يضعوا في تفكيرهم أن هناك من هو أجدر منهم ليخلفهم.. حياة الفرد قصيرة، غدًا سنموت كلّنا، الكفاءة والنّزاهة شرطان ضروريّان لتحمّل المسؤوليات، أن تشغل منصبًا يعني أن تعمل بجدّ، الانشغال الثّاني للمجلس الأعلى للأمّة هوالعمل على إرجاع الأمن للمواطن، يتحتّم على السّلطة الحالية أن تقضي نهائيّا على كلّ أشكال العنف، لن نعود إلى الوراء".
فاتونا بالعلم..
يستطرد محمد بوضياف خطابه لمدّة قاربت خمس وعشرين دقيقة "...الإسلام يتوافق مع التغييرات، المسلم الحقيقي هو المؤمن بالتطوّر، المجتمع الذي يريد الوصول إلى حياة أفضل، لن يرضى بالقليل، بماذا تفوّقت علينا الدّول الأخرى؟ تفوّقوا علينا بالعلم، ودين الإسلام... رافعا يده اليسرى ضامّا أصابعها إلى بعضها، ترتطم القنبلة في طريقها إلى الطّاولة بعدّة أجسام أخرى، يتوقّف الرئيس ويستدير إلى ناحية الشّمال، يقتحم الرّجل الملثّم المنصّة فاتحًا السّتارة برشّاشه مقابلا القاعة، يرمق الحضور بنظرة سريعة متفحّصة، ويصوّب وابلًا من الرّصاص في اتجاه ظهر الرّئيس وقفاه، ثمّ يفرغ مسدس "البيريتا" صوب الكراسي الصفراء التي تركها أصحابها مرتمين في كل الاتجاهات، صارت القاعة ساحة معركة حقيقية في ظلّ ذهول الجميع وتواصل إطلاق النّار وانتقاله إلى الخارج.
إحدى عشرة ثانية كانت فاصلة؛ تمّت خلالها كل أطوار الجريمة، مات الرّجل الذي لم تقتله فرنسا ولم تقتله المنافي، ولكنّه قتل بعد 166 يومًا من دخوله الجزائر التي عاد إليها حاملًا لمشروع وطن لم يفهم ربّما تغيّراته الكثيرة مقارنة بالوطن الذي تركه قبل المنفى.
فتح ملف الاغتيال
تمرّ 27 سنة كاملة من حادثة اغتيال "سي الطّيب الوطني" كما يُطلق عليه رفقاء السلاح، ولازال الغموض يكتنف حيثيات القضية، فالمتّهم الوحيد في قضية اغتيال الرئيس، كان الضابط السابق مبارك بومعرافي الذي اعترف بالجرم وتم إدانته بالحبس المؤبّد، ولكنّ الراحل محمد بوضياف لا تصدّق هذه الرواية، خاصة أن بومعرافي أكّد في اعترافاته أنّ ما قام به عمل معزول، دون أمرٍ من أحد، ودون علم أي طرف من النظام أو المؤسّسة الأمنية والعسكرية.
من جهة أخرى أكّد نجل الرئيس الراحل ناصر بوضياف وهو أكبر أولاده، أن العائلة طلبت رسميًا إعادة فتح تحقيق في قتل والده، متّهما بطريقة مباشرة الجنرالين المتقاعدين محمد مدين المدعو توفيق ووزير الدفاع السابق خالد نزّار، هنا، يقول ناصر بوضياف في تصريحات صحفية وكذا في منشورات على صفحته الرسمية على فيسبوك "صرّحت في وقت سابق بأن المدبّرين الحقيقيين لاغتيال الرئيس السابق، هم قائد المخابرات السابق، الجنرال توفيق، ووزير الدفاع الأسبق، اللواء المتقاعد خالد نزار، ومدير فرع المخابرات المضاد للجوسسة، الجنرال إسماعيل العماري".
مات الرّجل الذي لم تقتله فرنسا ولم تقتله المنافي، ولكنّه قتل بعد 166 يومًا من دخوله الجزائر
ويضيف ناصر أنه سيودع رفقة إخوته شكوى يوم 30 جوان/ حزيران لدى القضاء الجزائري، وذلك بعد إحياء الذكرى السنوية لاغتياله بمسقط رأسه بولاية المسيلة، وتأملُ عائلة بوضياف أن يكون القضاء الجزائري تحرّر فعلًا بعد سلسلة الاعتقالات والمحاكمات الأخيرة ضد رموز الفساد، كما أن أحد المتهمين في القضية وهو الجنرال توفيق، يوجد اليوم خلف القضبان، فهل سيكون من ثمار الحراك الشعبي كشف الحقيقة الكاملة عن عملية اغتيال الرئيس محمد بوضياف.
اقرأ/ي أيضًا:
البرلمان ينصّب بن صالح رئيسًا للجزائر والشارع يتمسك برفض "الباءات الثّلاثة"