30-يوليو-2024
التغيرات المناخية في الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

التغيرات المناخية في الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

لا يدرك كثير من الجزائريين أنهم في قلب تغيرات مناخية متسارعة رغم أنهم يعيشونها منذ سنوات، تناقصت فيها التساقطات المطرية بشكل ملحوظ واستشرى فيها الجفاف، حتى أن مؤشرًا مناخيًا جديدًا بات يظهر في موقع "غوغل ميتيو".

أدى إنشاء زراعات غير مدروسة لا تستلهم من نمط الواحات المتوارث والغيطان المعروفة بمناطق وادي سوف إلى افقار تلك الأراضي الهشة

في السابق كانت العلامات المناخية المعروفة منذ عقود طويلة، هي الشمس الصفراء الصافية، أو السماء الممطرة، أو المغيمة، أو المثلجة، بيد أنها حملت منذ مطلع الربيع الماضي مؤشرًا جديدًا ظهر لأول مرة ليستقر على مدار  أشهر، وهو الشمس الصافية الملونة بخطوط أرجوانية، الواقع لونها بين الأحمر والبني، وفوقها جملة جديدة هي:" الضباب الغباري".

اختراع الصحراء

إن أكثر تجليات هذا الضباب الغباري هي الزوابع الترابية الحمراء التي باتت ديكورًا لأغلب مدن الشمال، بدء من القالة مرورًا بالعاصمة وصولًا لوهران تلمسان، أما بعض الولايات الواقعة في نطاق الهضاب العليا مثل تيارت والجلفة والأغواط، فقد تحولت في أيام لمدن مظلمة وحمراء في عز الشمس، مع ما يصاحب ذلك من ثقل في الجو، وحرارة مرتفعة، ظلت أمرًا مستقرًا محسوسًا طوال شهري جوان وجويلية.

الضباب الغباري

يقول الأستاذ والدكتور صلاح عبد السلام، المختص في العلوم الفلاحية لـ "الترا جزائر": " إن تلك الزوابع الرملية والترابية ظاهرة تسمى الانجراف الريحي أو التعرية الريحية، وتتركز بالأخص في مناطق السهوب، وهي مرحلة من مراحل التصحر، وتعقب في العادة تدهور مساحات شاسعة من الأراضي عبر مرحلتي القحولة والتصحر النهائي".

أما الخبير الفلاحي الدكتور ياسين بغامي فيوجز موضحًا: "ما لا يعرفه البعض هو أن الصحراء يمكن اختراعها بسبب تحالف عوامل رئيسة، هي التغيرات المناخية، والجفاف القار والعوامل البشرية، مثل الرعي المفرط، على سبيل المثال. وفي واقع الحال فرمال الصحراء لا تزحف نحو الشمال بل الشمال هو من يلتحق بالقحولة، جراء تدهور منطقة السهوب البطن الرخو للبلاد، الواقعة بين التل والصحراء".

الضباب الغباري

معركة السهوب

إن منطقة السهوب، التي تحصي 25 ولاية جزائرية،  هي ساحة المعركة الراهنة و الطاحنة التي تدور رحاها بين الأخضر واليابس، وفي هذا يضيف الدكتور عبد السلام: "تمتد منطقة السهوب على مساحة شاسعة من البلاد، تقدر بـ 20 مليون هكتار، بينها 15 مليون هكتار من الأراضي الرعوية، و2.7 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، فيما تتوزع البقية على غابات متدهورة و مناطق جرداء، ولكي نفهم حجم الضرر الذي لحق هذه الأراضي الشاسعة منذ 1974 إلى اليوم، فأول ما ينبغي أن نعرف هو أن عدد رؤوس الأغنام كان يقدر بـ 4 ملايين رأس في تلك السنوات، لكنها تبلغ اليوم 20 مليون رأس ماشية.

كما أن تعداد السكان تضاعف بأربع أربع مرات، وهذا لندرك فقط حجم الاستنزاف"و إلى ذلك يعقب المتحدث: "يجب أن نلاحظ و أنه على مدار قرون سابقة حافظ السكان على رحلتي الشتاء و الصيف، لكن العقود الأخيرة أفرزت تحولًا للأهالي من ممارسة النشاط الرعوي إلى ممارسة الرعي و الفلاحة معًا، ليؤدي ذلك الاستقرار الحضري إلى ممارسة نشاطات زراعية ذات سقي سطحي، ما أدى لنضوب الماء و ارتفاع نسبة الملوحة جراء التبخر بفعل الحرارة القاسية، ما أتلف العوامل الكيمائية والفيزيائية للتربة، و ساهم في تدهورها بالتفاعل مع عوامل مناخية في مناطق تتميز في العادة بتساقطات مطرية ضعيفة، سرعت وتيرة المرور من القحولة إلى التصحر النهائي".

الاستدامة أم الإنتاج؟

لقد أدى إنشاء زراعات غير مدروسة، لا تستلهم من نمط الواحات المتوارث والغيطان المعروفة بمناطق وادي سوف إلى افقار تلك الأراضي الهشة، كما ساهم في تقليل تلك المخصصة للرعي، ليتركز هذا النشاط في مناطق باتت تتحمل ضغطًا متزايدًا من عدد المواشي قاربت 20 مليون رأس.

وللتدليل على هذا المعطى، يشرح الدكتور فؤاد رقيق الموضوع قائلًا: "يبدو مثال مستثمرات قاسي الطويل نموذجًا صارخًا لإنشاء زراعات صحراوية تفتقر لدراسة التأثير على المحيط، وتعتمد فقط على معيار المردودية والإنتاجية. عندما انطلق مشروع قاسي الطويل حقق نتائج باهرة بـ 60 قنطار من الحبوب في الهكتار الواحد، لكن وفي ظرف سنوات مُني المشروع بالتدهور، شأنه شأن مشروع طماطم أدرار، بسبب أنها زراعات غير دائمة نظرًا لوجود عوائق مناخية كثيرة مثل الاستهلاك المفرط للمياه، وعوامل الحرارة التي تضاعف التبخر وتجرد النبيت من العناصر الكيميائية المكونة للماء تاركة له الأملاح".

الضباب الغباري

وطبعًا، يردف المتحدثن فإن" المساهمة في الحصول على نتائج عكسية تنتج القحولة ثم التصحر، وتبديد السنوات والأموال بلا غائية اقتصادية وبيئية. وهذا الأمر يدعو السلطات إلى ضرورة إعداد دراسات دقيقة للغاية، وتوسيع دائرة الاستشارة والخبرة للخروج بمقاربة عملية، أو بإنشاء مزارع نموذجية تجريبية، قبل المرور لمشاريع الزراعات الصحراوية العملاقة".

وهذا الأمر تكرّر أيضًا في منطقة الرمل جنوب الحضنة، فقد تسبب قلع الزراعات الكائنة بالمنطقة وإبدالها بأخرى خلال الثورة الزراعية، إلى نتيجة كارثية، حيث تثبت صور جوية حديثة، واردة في دراسة ميدانية للباحثين الدكتور عبد السلام صلاح والدكتورة الباحثة رزيقة سحنوني، بأنها أضحت أشدّ تصحرًا مقارنة بالسبعينيات.

27.4 مليون هكتار في خطر

لا يتجادل اثنان في أن البلاد في قلب تغيرات مناخية متسارعة تبدو واضحة للعيان، والسبب مرده الجفاف الذي استمر على مدار السنوات القليلة الماضية، فثمة تراجع في هطول الثلوج في ولايات الهضاب العليا مثل باتنة وسطيف، وتماوت طبيعي لأشجار الأرز والصنوبر الحلبي، وتحول مناخ الولايات الداخلية من القاري البارد شتاء و الحار صيفًا، إلى مناخ صحراوي، يمكن أن تلاحظه بجلاء لدى باعة الثياب الذين كسدت مبيعاتهم من المعاطف الثقيلة المخصصة للشتاء، لأن الزبائن لم يعودوا بحاجة إليها، ثم في الزوابع الغبارية التي صارت قارة بعدما كانت موسمية، و أخيرًا و ليس آخرًا، هذه الحرارة الثقيلة الخانقة للأنفاس، ذات المعدلات غير المسبوقة صيف 2024.

ويعاضد كل هذه المؤشرات إحصائيات تقدمها الدكتورة الباحثة رزيقة سحنوني  لـ "الترا جزائر" قائلة: " كل الدراسات تؤكّد شراسة واستفحال التدهور البيئي، ففي العام 2003 أعد الباحث أوصديق دراسة أكد فيها أن 53% من مساحات تشمل ولايات المسيلة وبسكرة وتبسة وباتنة وخنشلة والأغواط والبيض والنعامة، انتقلت من مؤشر البؤر الحساسة إلى بؤر جد حساسة للتصحر، وتلك النسبة سترتفع إلى 74.81% من مساحات ولايات الشمال المصنفة على عتبة التصحر، حسب دراسة للباحث بن سليمان العام 2008.

ثم ارتقت النسبة إلى 87 في المائة من مساحات الولايات الشمالية المهددة بالتصحر، حسب دراسة أخرى لنفس الباحث العام 2013. وأخيرا الدراسة التي أعدتها الوكالة الفضائية الجزائرية بأرزيو مع المديرية العامة للغابات والتي خلصت إلى أن 12 ولاية جزائرية تمتد من تلمسان غربا إلى تبسة شرقا أضحت معرضة للتصحر، وتقدر المساحة الإجمالية 27.4 مليون هكتار واقعة بين فكي مؤشرين يتراوحان بين درجتي المتوسطة وشديدة الحساسية للتصحر".

الضباب الغباري

سد الصبّار الأخضر

وعت الجزائر قبل غيرها من الدول خطر التصحر على الأرض والبشر، فأطلقت العام 1975 مخطط السد الأخضر، الذي امتد كحزام واق وسط فضائها السهبي من غرب البلاد حتى شرقها، لحماية الشمال المتوسطي من لهيب الصحراء الحارق، وحقق المشروع الذي سبق مخرجات مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية المنعقد في ريو دي جانيرو العام 1992، نجاحا متباينا في مناطق ومني بفشل في أخرى، قبل أن يطويه الإهمال على مدار عقود، ثم عادت البشرى السارة قبل سنوات عندما قرر رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، بعثة من جديد مع تعديلات هامة طياّ للأخطاء السابقة.

وبخصوص هذه النقطة يوضح الدكتور عبد السلام قائلًا: "إعادة التفكير في مشروع السد الأخضر هو أمر إيجابي في حد ذاته، ينم عن توافر الإرادة السياسية، ويكشف وعي السلطات بحجم التحدي البيئي والاقتصادي والسياسي الهائل للمشروع، لكن يجب التفكير في المعطيات التقنية عبر زراعة أصناف نباتية ملائمة للبيئة، بعدما أتضح أن الصنوبر الحلبي كان خيارًا سيئًا، فقد قضت عليه حشرة جادوب الصنوبر الجرّار".

يسارع الدكتور الباحث فؤاد ركيك إلى تقديم تصوره الخاص بعد سنوات بحث وخبرة طويلة قائلا: " أنصح السلطات بغراسة نبات الصبار، أو التين الشوكي على نطاق واسع في السهوب. يجب تكثيف زراعة كل أنواع الصبار، لأن هذا النبات المتأقلم مع المناطق الجافة و السهبية معجزة حقيقية، فهو ينتج مناخا مصغرا خاصا به أو ما يعرف بالـ"ميكرو كليما"، و لا يحتاج للماء الوفير، و يمكنه أن يكون مصدر غذاء للنحل و السلاحف و الحمام و بالتالي فهو يساهم في توطين السكان حول نشاطات زراعية، و الأهم من ذلك أنه علف للماشية، يساهم في حماية المراعي الأخرى من الاستنزاف المفرط" لكن هذا لن يتأتى حسب المتحدث سوى بعدما يتم كما يقول: "تطوير هيئة المحافظة السامية لحماية السهوب، التي كانت تملك فيما مضى ترسانة من العتاد مثل الشاحنات و الجرارات قبل أن تتدهور وضعيتها اللوجستيكية، رغم أنها تضم إطارات كفؤة حققت نتائج طيبة في سوق أهراس، و في غراسة الحلفاء بالجلفة من قبل مساجين بمقابل مادي".

 يتطلب الأمر منح الإمكانيات لهذه الهيئة التي تم إهمال عدد كبير من مراكزها، كما يجب تحسين الوضعية المالية للمنسقين، الذين يتلقون مرتبات زهيدة، رغم أنهم حجر الأساس في نجاح في التواصل مع الأهالي والقبائل والعشائر المشتركة في الأقاليم المتداخلة، ويساهمون في نشر الإرشادات والتقنيات الصحيحة المتعلقة بالأنشطة الوقائية".

أزمة تنسيق الخبرات

يثني الدكتور عبد السلام صلاح على مخططات العمل التي أعدتها السلطات في السنوات الأخيرة لكونها مكتملة التشريعات والنصوص، غير أن عوائق عدة ينبغي تجاوزها في المرحلة القادمة حتى يتسنى نجاح برنامج السد الأخضر وكافة المخططات الرامية لحماية السهوب، ولو بنسب مئوية معتبرة، تسهم بلا ريب في وقف التدهور المتسارع.

الضباب الغباري

 حيث يشير لـ"الترا جزائر": " ثمة مشكلة تنسيق عويصة، حيث أن أساتذة الجامعة من ذوي الاختصاصات في الفلاحة، والخبراء الباحثون لا يتم إشراكهم في إطار برامج العمل الموسعة، كما نعاني كدارسين وباحثين من غياب المعلومات حول نتائج البرامج الرسمية المنتهية والمعدة، ومدى تنفيذها ونسب الإنجاز حتى يُمكن البناء عليها مستقبلًا، وحتى لا نضيع الجهد والوقت في إنجاز دراسات مكررة. من الحيوي أن أقول ذلك لأن نتائج الدراسات ومخرجاتها التقنية بحاجة لعملية توصيل للجماعات المحلية لتبليغها لممارسي الأنشطة الرعوية والزراعية في المناطق السهبية للعمل بها وتنفيذها على أرض الواقع بواسطة التعميم".

يجمع الخبراء الذين تحدثوا لـ "الترا جزائر"، على ضرورة إعلان حالة طوارئ خضراء عبر المسارعة الحثيثة في تفعيل مشروع السد الأخضر، وعقد ندوات جامعة لخبراء المناخ والفلاحة والغابات والأرصاد وكل القطاعات ذات الصلة، لتوسيع دائرة المقترحات والحلول الناجعة والمدروسة، حيث تعد كل شجرة بمثابة قبلة أخيرة للحياة وفعل لمقاومة الموت.

موجات النازحين الأفارقة من دول الساحل نحو الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، هم نتاج صرف لتدهور الأراضي الزراعية

يجب أن نعي أن الأموال التي تخصصها الدول المانحة للدول المصادقة على بنود مكافحة التصحر الواردة في معاهدة ريودي جانيرو، تسعى من وراء إحياء الأراضي المهددة بالتصحر، إلى ضمان موارد الغذاء وتوطين السكان، منعًا للهجرات الجماعية للمجموعات البشرية الهائلة، ذلك أن موجات النازحين الأفارقة من دول الساحل نحو الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، هم نتاج صرف لتدهور الأراضي الزراعية، التعريف العلمي للتصحر، الذي يمكن أن يتكرر بهجرات داخلية من المناطق السهبية نحو المناطق التلية في حال انتصار اللون الأصفر على اللون الأخضر.