بعد سلسلة مبادرات سياسية شهدتها الجزائر في الفترة الماضية، ركنت الساحة الجزائرية إلى مسارها الاعتيادي، إذ لم تُفصح هذه المبادرات على اختلاف الأطراف التي أطلقتها عن أيّة نتائج تسهم في تحريك المشهد السياسي، أو إطلاق حوارٍ بين الشركاء السياسيين بشأن القضايا الوطنية، وقد ساعد تعدّد المبادرات في حدّ ذات وتباين المواقف، في وصولها إلى طريق مفتوح دون متابعة أو الإعلان عن تأثيراتها.
الناشط السياسي كريم بلجود لـ "الترا جزائر": الوقت اليوم مناسبٌ لإعادة بعث مثل هذه المبادرة، وتجسديها في الميدان من خلال إجراءات من شأنها إرساء قواعد ديمقراطية لضمان منافسة نزيهة في الاستحقاقات المقبلة
أمام الظروف الاستثنائية التي عاشتها الجزائر قبل الحراك الشعبي في 2019، لم تكن العودة إلى مسار تركيز المؤسّسات المهمة في البلاد سهلة، في ظلِّ استمرار غليان الشارع الجزائري، إلا أن الخطاب السياسي الرسمي توجّه نحو سياسة تقديم مبادرات من شأنها أن تفتح الباب أمام الحوار السياسي، بإشراك مختلف القوى السياسية والاجتماعية.
كان هدف هذه المبادرات على اختلافها، المُضيُّ في استكمال مشروع الرئيس عبد المجيد تبون الموسوم بـ"بناء الجزائر الجديدة"، وتحقيق توافقٍ سياسيٍّ لمباشرة مرحلة "الإنجازات" التنموية الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير ظروف العيش الكريم في البلاد، فما هو تأثير هذه المبادرات ميدانيًا وعلى مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
ميثاق وطني
منذ اعتلاء الرئيس تبون سدّة الحكم قبل أكثر من أربع سنوات، واستكمال البناء المؤسّساتي بعد إقرار الدستور وتركيز المؤسسة التشريعية، تبقى مبادرة رئيس الجمهورية التي وُسِمت بـ "لمّ الشمل" أو " اليد الممدودة" أيضًا في 2022، نقطة مفصلية في تحريك الساحة السياسية في البلاد.
في هذا الصدد، التقى الرئيس بعددٍ من رؤساء الأحزاب ومختلف مسؤولي مكوّنات المجتمع السياسي والمدني، إذ يرى متابعون للشأن السياسي بأنها مبادرة تُحسب للرئيس لأنها فتحت الباب أمام الحوار مع مختلف مكونات الطبقة السياسية، واستشارتها في عدة مسائل ومحاور التنمية الاقتصادية.
إلى غاية ذلك الوقت، حدّدت مبادرة رئيس الجمهورية عدة أهداف، منها السعي إلى "تأمين الجبهة الداخلية وتقوية اللحمة الوطنية"، خصوصًا وأن المتغيّرات في الساحة السياسية الدولية برزت بشكلٍ جليّ بأن البناء المؤسساتي هو المحطة الرئيسية لتقوية الجبهة الداخلية.
في هذا الاعتبر الناشط السياسي كريم بلجود بأن "مبادرة لم الشمل" هي ميثاق مجتمع وجب الحفاظ عليه، لأنها حسبه كانت "مبادرة تاريخية كأحد وسائل الدفاع المجتمعي والدفاع عن الوطن في القضايا الكبرى"، لافتًا في تصريح لـ" الترا جزائر" بأن " الاستقرار الداخلي هو من أهم محاور البناء للدفاع عن الوطن وحماية الوحدة الشعبية في ظلّ استمرار التوتر في الكثير من البلدان، التي من شأنها أن تؤثّر على كل الدول التي ترفض الخنوع ولها مواقف سيادية.
وترمي المبادرة إلى تجاوز الخلافات، فبالرغم من الغليان الشعبي الذي عرفته الجزائر إبان الحراك الشعبي، واستمرار دعوات الأحزاب بفتح المجال السياسي وتعزيز مجال الحريّات وتفادي الإغلاق الذي تعاني منه الطبقة السياسية، إلا أن مبادرة "لمّ الشمل" كانت فاتحة سياقٍ سياسيٍّ جديد مبني على "دعوة صادقة إلى تبني حوار وطنيّ شامل".
شاركت تحت غطاء هذه المبادرة، مختلف الأطراف الفاعلة في الساحة من أحزاب بمختلف مشاربها السياسية ومنظمات المجتمع المدني، إذ يقول بلجود إن الوقت اليوم مناسبٌ لإعادة بعث مثل هذه المبادرة، وتجسديها في الميدان من خلال إجراءات من شأنها إرساء قواعد ديمقراطية لضمان منافسة نزيهة في الاستحقاقات المقبلة، فضلًا عن رفع التضييق على الأحزاب السياسية المعارضة، ومنح الفرصة لاستقلالية المجتمع المدني، والدفع به لخدمة عمومية تستفيد منها فئات المجتمع، فضلًا عن تحرير المنابر الإعلامية.
دعم مشروع وطني
كما شهدت الفترة الأخيرة، مبادرة أخرى، أطلق عليها اسم "تعزيز التلاحم وتأمين المستقبل"، إذ اعتبرها متابعون من بين أكبر المبادرات السياسية التي ألقت بظلالها على الفعل السياسي في البلاد العام الماضي، وشهدت زخمًا سياسيًا وإعلاميًا.
جمعت هذه المبادرة التي تقودها "حركة البناء الوطني" وزعيمها عبد القادر بن قرينة، أكبر تكتلٍ سياسي لمختلف القوى الوطنية بحضور أزيد من ألف مشارك، من مختلف الحساسيات السياسية والمدنية والشخصيات الوطنية والمدنية والنخب الجامعية، والشخصيات المرجعية الدينية أيضًا.
كما توجّهت هذه المبادرة إلى الانخراط في مسعى العمل المشترك لحماية مؤسسات الدولة والدفاع عن المصالح العليا للبلاد، ومن بين أهدافها المعلنة، تحصين ثوابت الأمة ومقومات هويتها،والدفاع عن المصالح العليا، وتعميق الحوار في القضايا والقرارات الوطنية الهامة، وبناء رؤية متكاملة لكسب رهانات الأمن القومي، وتحقيق الانسجام الوطني في المواقف الدولية، وإسناد توجهات رئيس الجمهورية في السياسة الخارجية ومؤسسة الجيش، والحفاظ على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي الوطني، وتعزيز الجبهة الوطنية في الداخل، وتقديم الرؤى والمقترحات العملية للسلطات العليا في كل ما من شأنه دعم الجبهة الداخلية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعمل على تحقيق تطلعات المواطن وتحسين ظروفه المعيشية.
واعتبرت الحركة هذه المبادرة بأنها "إسناد لمؤسسات الدولة ودعم السياسات التي ينتهجها الرئيس عبد المجيد تبون، كما استهدفت "تحصين الجبهة الداخلية وحماية البلاد من التوترات الإقليمية".
إلى هنا، يشير الباحث في العلوم السياسية كريم حراث من جامعة الجزائر إلى أن هذه المبادرة تدعم برنامج الرئيس تبون ومخططه الإصلاحي لتنفيذ المشاريع التنموية فضلًا عن دعمه في قراراته السياسية الكبرى التي تهم فئات المجتمع الجزائري.
وفي هذا السياق، قال حراث إن أيّة مبادرة سياسية تستهدف الحث على تنفيذ العديد من الرهانات الجماعية وليست خاصة بحزب سياسي منفرد.
وفي إطار ما يحدث في الساحة السياسية وقبل خمسة أشهر فقط من إجراء الانتخابات الرئاسية، أضاف محدث "الترا جزائر" أن الظروف الحالية تحتاج إلى قوة جماعية لمختلف الحساسيات السياسية في البلاد، لتقوية الصف الوطني في ظلّ ما تشهده الساحة العالمية من تطورات، لافتًا إلى أن مثل هذه المبادرات تتوجه نحو فتح فضاء للحوار بين الأحزاب وتناول القضايا الوطنية والدولية.
خطوة مفتوحة
وفي الإطار نفسه، أطلق حزب "جبهة القوى الاشتراكية" ( الأفافاس) مبادرة "الحوار الوطني"، إذ ركز الحزب في مشاوراته مع مختلف الأطياف السياسية على أربعة محاور في علاقة مع سبل حماية الدولة الوطنية وعدم المساس بالحريات والتعددية والإصلاحات السياسية لتكريس دولة القانون والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية.
وفي خضم هذه الخطوة التي دعا إليها أكبر أحزاب المعارضة السياسية في البلاد، توجهت المبادرة إلى كل القوى السياسية، إلا أنها لم تحدّد بعد نتائجها ميدانيًا، بالرغم من مباشرة عدة لقاءات ثنائية أجراها الأمين العام الوطني، يوسف أوشيش، منذ بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مع مختلف الأحزاب السياسية، وتقديم اقتراحات تتناول عديد القضايا المطروحة في الساحة.
ولحد الآن لم يفصح "الأفافاس" عن توقيت صياغة وثيقة توافقية جماعية للمصادقة عليها من مختلف الأحزاب، التي أعلن أنه سيتم تقديمها بعد ذلك، رسميًا، وبصفة جماعية إلى الرئيس عبد المجيد تبون.
ومع الإبقاء على باب المبادرات السياسية مفتوحًا، يُجمع المراقبون للشأن السياسي الجزائري، على أن "زمن المبادرات" انتهى، نظرًا إلى أنها لم تحقق نتائج ملموسة في أرض الواقع وخصوصا ما تعلق بترسيخ التعددية الحزبية فعليا، وتقوية الفعل السياسي والنقابي والنقاش الحر في الفضاءات الإعلامية والعامة.
ولأسباب متعددة، انتهت المبادرات السياسية كما بدأت، إذ لم تفرج عن مخرجات ملموسة، يمكنها أن تستوعب كل القوى الوطنية وتطلعاتها، خاصة في ممارسة الفعل السياسي.
عضو حركة مجتمع السلم، نذير رميتة لـ "الترا جزائر": من الضروري الإبقاء على هذه المبادرات فضاءً مفتوحًا للنقاش وتناول المسائل الوطنية، بالإضافة إلى ترقية الحوار بين الفعاليات السياسية
وشدد العضو في حركة مجتمع السلم، نذير رميتة، على ضرورة تفعيل هذه المبادرات في إطار يخدم المصلحة الوطنية، موضحًا في حديث لــ"الترا جزائر" أنه من الضروري الإبقاء على هذه المبادرات فضاءً مفتوحًا للنقاش وتناول المسائل الوطنية، بالإضافة إلى ترقية الحوار بين الفعاليات السياسية وتجاوز الخلافات.