24-مايو-2022
تحتل تركيا المرتبة الأولى في مجال الاستثمارات في الجزائر (تصوير: بوراك ميلي/الأناضول)

تحتل تركيا المرتبة الأولى في مجال الاستثمارات في الجزائر (تصوير: بوراك ميلي/الأناضول)

مع بداية انفراج الأزمة الصحية لفيروس كورونا الذي اجتاح العالم وعلّق النشاط الدبلوماسي لسنتين كاملتين، شهدت الجزائر تحرّكات خارجية مكثّفة مؤخّرًا، ترجمتها زيارات دولية هامّة قادت رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون نحو تونس ومصر وقطر والكويت وتركيا، وتوافدًا متتاليًا لوزراء خارجية أميركا وإيطاليا وروسيا إلى الجزائر، لمناقشة ملفات إقليمية وسياسية وأمنية واقتصادية.

ارتبط انسجام مواقف الجزائر مع الدول بتوقيع اتفاقيات شراكة ومذكرات تفاهم وبرمجة مجالس عمل ولقاءات رجال أعمال

تضمّنت زيارات الرئيس تبون إلى دول عربية وأجنبية لقاءات مع رجال أعمال الجزائريين هناك، ومناقشة ملف الاستثمار في الجزائر، حيث روّج الرئيس لقانون الاستثمار الجديد حتّى قبل استكمال إعداد محاوره، ونوّه بالامتيازات التي سيمنحها هذا التشريع، لكل من يملك نوايا حقيقية للعمل ونقل الخبرة والتكنولوجيا للجزائر، وهو ما اعتبره مراقبون خطوة نحو إعادة تفعيل ملف الدبلوماسية الاقتصادية الذي ظلّ خامدًا لسنوات طويلة.

وبالرغم من أن السياسة الخارجية للجزائر قائمة منذ عقود من الزمن على مبدأ عدم الانحياز للدول، كما أن الشراكة الاقتصادية مبنية على محور المصلحة والبراغماتية والتنويع، إلا أن الوضع قد اختلف مؤخرًا، حسب مراقبين، حيث أن العلاقات الاستراتيجية بين الجزائر وحلفائها وأيضًا الدول التي تتقاسم معها "الودّ السياسي"، بدأت تؤثّر بشكلٍ ملحوظ في الجانب الاقتصادي، فكلما كان هناك انسجام في المواقف والعلاقات السياسية مع دولة معينة، تكون نتائجه توقيع اتفاقيات شراكة ومذكرات تفاهم وبرمجة مجالس عمل ولقاءات رجال أعمال من الدولتين.

تقارب سياسي ـ اقتصادي

في هذا السياق، تؤكّد أستاذة العلوم السياسية بجامعة الجزائر سهيلة بن رحو في تصريح لـ"الترا جزائر"، أن النشاط الدبلوماسي شهد عودةً قوية خلال الأشهر الأخيرة في أعقاب انحصار فيروس كورونا، من خلال زيارات متتالية لمسؤولين دوليين ووزراء خارجية حلّوا بالعاصمة الجزائرية لمناقشة عدة قضايا وملفات، معتبرةً أن هؤلاء الحلفاء السياسيين هم أيضًا شركاء اقتصاديون، يطمحون للاستثمار في الجزائر وانتزاع صفقات جديدة ورفع حجم المبادلات التجارية، على حدّ تعبيرها.

ويأتي ذلك في وقت تسعى الجزائر إلى تنويع محفظة شركائها الاقتصاديين في إطار نموذج اقتصادي جديد متعدّد الشركاء، يهدف بالدرجة الأولى إلى التخلص من عباءة المحروقات التي لازمتها لستين سنة بعد الاستقلال، وتندرج هذه التحركات أيضا في إطار مشروع "لم الشمل" الذي كشف عنه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مؤخرًا، والذي يتضمّن استرجاع الأموال المنهوبة التي يتواجد الجزء الأكبر منها خارج الجزائر، أي يمكن التنسيق مع هذه الدول وهؤلاء الشركاء لاسترجاع الأموال المودعة في حسابات بنكية بالخارج ، تقول سهيلة بن رحو.

وبالمقابل، تتحدّث أستاذة العلوم السياسية عن برود دبلوماسي يجتاح علاقة الجزائر مع بعض الدول على غرار إسبانيا بسبب موقفها في قضية الصحراء الغربية، وهو ما سينعكس بشكل ملحوظ على العلاقات الاقتصادية بين الطرفين خلال المرحلة المقبلة، فالمتعارف عليه تاريخيًا، يثبت أن المصلحة الاقتصادية تتوافق مع الغاية السياسية، ولا يمكن القول بغير ذلك.

ترتيب الشركاء الإستراتيجيين

وبلغة الأرقام، تؤكّد الإحصائيات تنامي العلاقات وتطور عدد المشاريع والمبادلات الاقتصادية الجزائرية مع الدول التي تربطها علاقات إستراتيجية وسياسية حسنة، تتسم بالودّ وتقارب المواقف في القضايا الإقليمية والدولية الكبرى.

ومن حيث المبادلات التجارية، تحتل الصين الصدارة كشريك تجاري أوّل للجزائر برقم 9 ملايير دولار سنة 2020، متبوعة بالاتحاد الأوروبي ويتعلق الأمر بدول فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وتركيا، أما من حيث الاستثمارات فتحتلّ تركيا المرتبة الأولى، حيث شهدت إنزالًا قويًا لاستثماراتها بالجزائر خلال السنوات الأخيرة بلغت خمسة ملايير دولار، رغم أن الشراكة قائمة بين البلدين منذ سنة 2006، وبعدها إيطاليا في مجال الغاز بالدرجة الأولى ثم فرنسا فإسبانيا.

من جهته، يرى المحلل الاقتصادي محفوظ كاوبي في تصريح لـ"الترا جزائر"، أن الحديث اليوم عن شراكة استراتيجية تترجم الود الاقتصادي، سابق لأوانه، ولكنه توقع أن تتجه الجزائر نحو هذا المسار خلال المرحلة المقبلة، خاصة وأن كافة التصريحات السياسية التي أدلى بها الرئيس تبون، وطاقمه الحكومي، تمنح بطاقات مرور نحو السوق الجزائرية للدول التي عرفت تقاربًا سياسيًا معها خلال الفترة الأخيرة.

في حين يعترف الخبير، بتسجيل تقارب اقتصادي أكبر مؤخّرًا مع إيطاليا وتركيا والصين، والذي إن لم يتجسّد لحد الساعة في الأرقام والإحصائيات بشكل ملموس، فهو واضح من خلال مشاريع قيد التنفيذ على غرار مناجم الفوسفات وميناء شرشال بالنسبة للصين، واتفاقيات إطار ومذكرات تفاهم مع تركيا وزيارة مرتقبة للرئيس تبون لإيطاليا سيعقبها مجلس أعمال بالجزائر شهر تمّوز/جويلية المقبل،وفقًا لما تم الكشف عنه في تقارير إعلامية.

وبشأن خارطة الشراكة الاقتصادية للمرحلة المقبلة، يعتقد المتحدث أن تبقى الصين متربعة على المرتبة الأولى بالنظر إلى إمكانياتها المالية الكبرى التي تؤهلها للاستثمار في الجزائر، وخبرتها في قطاعات المناجم والبناء والطاقة، كما أن هذا العملاق الآسيوي لا يفرض شروط معينة في التبادلات الاقتصادية على غرار تلك التي يسنّها الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال،وسياسيًا لا تتبنى الصين مواقف تتباين مع التوجّهات الجزائرية.

وتوقع كاوبي أن تحتل المرتبة الثانية تركيا في مجال الاستثمار بالنظر إلى العلاقات الحسنة والتاريخية التي تربط الدولتين أي الجزائر وأنقرة، والمغازلات التي يتبادلها الطرفان وتوقيع 15 إتفاقية إطار بين الدولتين مؤخرًا، إلا أنه طالب بأن تتعامل الجزائر اليوم بشكل ندّي وأن لا تبقى مجرد سوق لتصريف المنتجات التركية.

أما المرتبة الثالثة فستحظى بها إيطاليا، ولكن هذه المرة يجب أن تكون الشراكة بشكل مختلف، خاصة وأن الجزائر تتمتّع بأوراق قويّة ممثلة في الطاقة والغاز، الذي سيمكنّها من الضغط وفرض مواقفها وفق منطق رابح ـ رابح.

تراجع مكانة فرنسا وإسبانيا

وبالموازاة مع قائمة الشركاء الاستراتيجيين الذين يٌعوّل عليهم لمرافقة الجزائر اقتصاديًا خلال المرحلة المقبلة، يتحدث مراقبون عن تحجيم مكانة إسبانيا وفرنسا لصالح تركيا والصين، وحتى دول عربية زارها الرئيس تبون خلال الأشهر الماضية على رأسها قطر والكويت، مؤكّدين تراجع أسهم إسبانيا في السوق الجزائرية خلال سنة 2022، بسبب تغيير موقفها بخصوص قضية الصحراء الغربية، وهو ما أحدث شرخًا في علاقتها السياسية مع الجزائر، ترجمته التعاملات الاقتصادية، وتهديدات الجزائر شهر نيسان/ أفريل الماضي بقطع إمدادها بالغاز.

أما بخصوص العلاقات الاقتصادية الجزائرية الفرنسية، فستتحكم فيها المواقف السياسية، التي يتم رصدها من خلال تصريحات مسؤولي البلدين، خاصّة وأن إيمانوال ماكرون دشّن عهدته الرئاسية الثانية بقصر الإليزيه، بمهادنة الطرف الجزائري، الأمر الذي اعتبره البعض، مساع للحفاظ على حصرية فرنسا في السوق الجزائرية التي استمرت لستين سنة بعد الاستقلال، وباتت اليوم مهدّدة بالانتزاع من طرف الشريكين الصيني والتركي، وهو ما يذهب إليه الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي.

وخلافًا لذلك، يؤكّد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر البروفيسور عبد الرزاق صاغور، في إفادة لـ"الترا جزائر"، أن العامل السياسي أصبح ورقة مهمة يتم اعتمادها في رسم الخارطة الاقتصادية، إلا أنه شدّد بالمقابل على أن المنطق الاقتصادي يتفوق دائمًا على الخلاف السياسي في ملف الشراكة الجزائرية ـ الإسبانية، وحتى مع فرنسا، التي تبقى شريكًا هامًا للجزائر مؤكدًا توقيع إتفاقيات طويلة المدى مع مدريد في مجال الطاقة لا يمكن إنهاؤها بهذه السهولة، كما أن فرنسا عمّقت وجودها في السوق الجزائرية لعقود من الزمن ويصعب استبدالها بشريك جديد في ظرف وجيز، على حدّ تعبيره.

ماذا ستجني الجزائر؟

ويعتبر البروفيسور صاغور أن أهم ما ستجنيه الجزائر من الشركاء السياسيين الاستراتيجيين، الذين سيوسّعون عقودهم الاقتصادية مع الجزائر هو التكنولوجيا والخبرة وسرعة الإنجاز بالنسبة للصين، وصفقات التسلّح بالنسبة لروسيا التي تعتبر أحد أصدقاء الجزائر المقربين أما تركيا فستقطف الجزائر ثمار التقارب معها على شكل اتفاقيات صناعية وتجارية، تضاف إلى توسيع التعاون الطاقوي بين الجزائر وإيطاليا، مع استغلال كافة هذه الشراكات لانتزاع حصص جديدة وأكبر في السوق الأفريقية تزامنًا مع تدشين منطقة التجارة الأفريقية الحرة، وبالنسبة لدول الخليج فستجني الجزائر تحويل استثمارات هامة ورؤوس الأموال، سواءً تعلق الأمر بقطر أو الكويت، كما توقّع علاقات حسنة مع السعودية رغم التوترات والحساسيات المسجلة في السنوات الماضية.

الجزائر لم تحصر نفسها يومًا في منطق التكتلات السياسية والاقتصاديةواعتمدت سياسة تنويع الشركاء

هذا ومعلوم أن الجزائر لم تحصر نفسها يومًا في منطق التكتلات السياسية والاقتصادية،واعتمدت سياسة تنويع الشركاء، إلا أن الأحداث التي يعيشها العالم على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، فرضت تغيير المعادلة، خاصّة وأن الجزائر أصبحت محط أنظار الجميع بالنظر إلى موقعها الجغرافي الهام والثروات الطبيعية التي تتمتع بها، وورقة الغاز التي ترفع أسهمها بين الدول وتجعلها في موقف قوّة.