يُحمّل الأكاديمي رابح لونيسي السلطة مسؤولية ما يحدث اليوم في الشارع الجزائري، ومحاولتها إجهاض الحراك الشعبي والالتفاف على مطالبهّ، للإبقاء على النظام السابق والحفاظ على مصالح شخصية لرموزه.
رابح لونيسي: هناك انقسام داخل الحراك، لكن ليس في الهدف بل في طريقة تحقيقه
وبمعطيات تاريخية، يحاول لونيسي قراءة الأحداث السياسية وتحليلها، فهو يرى أن الانقسام الواقع داخل الحراك ليس في الأهداف التي وضعها نصب عينيه، ولكن في طريقة تحقيق هذه الأهداف التي رفعها منذ انطلاقته، ومنه كان الانقسام في الشارع بين المطالبين بمجلس تأسيسي وبين الداعين لإجراء انتخابات رئاسية شفافة.
قرأ/ي أيضًا: حوار| عز الدين ميهوبي: المرحلة الانتقالية قفزٌ إلى المجهول
يجيب رابح لونيسي على أسئلة "الترا جزائر" في هذا الحوار، حول بنية النظام السياسي الجزائري، وقدرته على التأقلم والتجدّد، ويرى أن التعدّد والتنوع داخل الحراك هو إضافة نوعية في وجود هدف مشترك، ويكشف لونيسي عن السيناريوهات القادمة في المشهد السياسي، عن الرئيس المقبل ورفع سقف مطالب الحراك الشعبي، ويطرح من خلال هذا الحوار رؤيته الأكاديمية في سبل الخروج من الأزمة.
- هناك إصرار من السلطة الفعلية في الذهاب إلى المسار الانتخابي، بينما يرفض الحراك الشعبي هذا المسار. في رأيك هل يمكن المضي إلى هذه الانتخابات؟
إن السبب الرئيسي للانسداد هو إصرار السلطة على تطبيق المادة 102 من الدستور بعد استقالة بوتفليقة تحت ضغط شعبي منذ 22 شبّاط/فيفري، فقد فهم الشعب منذئذ أنها محاولة لتجديد النظام ذاته والإبقاء على الوضع نفسه، في الوقت الذي يطالب فيه الشعب بتغيير جذري لآليات عمل النظام.
صحيح، هناك انقسام داخل الحراك، لكن ليس في الهدف بل في طريقة الوصول إليه؛ فنجد المطالبين بمسار تأسيسي لتغيير النظام والمطالبين بانتخابات نزيهة وشفافة في البداية التي ستفرز رئيسًا شرعيًا سيقوم بدوره بالمسار التأسيسي الذي يستهدف تغيير آليات عمل النظام، وهذا يتطلّب طبعًا حوارًا واسعًا وشاملًا، لكن السلطة فاجأت الجميع بتأسيسها للجنة حوارٍ مشبوهة، ثم عدم استكمال مهمّتها بالإسراع في تعيين فوقي للجنة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات دون أي موافقة من أغلب الشعب، وفي الأخير تقديم مرشّحين كلّهم من أبناء النظام، وهو ما يُعيدنا إلى النقطة صفر. فالمسؤولية تتحمّلها السلطة التي عملت بكل ما في وسعها لإجهاض الحراك الشعبي والالتفاف عليه، بهدف ليس فقط الإبقاء على النظام المرفوض شعبيًا والمهترئ، بل يدخل في ذلك عامل الحفاظ على مصالح شخصية لا أكثر ولا أقلّ على حساب الجزائر واستقرارها ومستقبلها، فهل يمكن أن يتنازل الذين تعوّدوا على نهب ثروات الشعب طيلة عقود متستّرين وراء رئيس ضعيف جدا؟ فكما كان ينهب هؤلاء في عهد بوتفليقة وباسمه، خاصّة بعد مرضه، فهم يسعون اليوم بعد ذهابة لتعويضه برئيس ضعيف "قراقوز" لمواصلة عمليات النهب.
- ما هي السيناريوهات المحتملة في رأيك؟
نعتقد أن السلطة ستُلقي بكلّ ثقلها لإجراء هذه الانتخابات مهما كان الثمن، لأنها لا يمكن أن تقبل بالفشل في إجرائها لثلاث مرّات متتالية، مما يعني في الأخير عدم تحكمها في الوضع، وهو ما يعني الكثير بالنسبة للعالم، لكن حتى لو جرت الانتخابات، فإنها ستكون بنسبة مشاركة ضعيفة جدًا، مما يعني الاستمرار في الوضع نفسه الذي كان مع رئيس الدولة الحالي عبد القادر بن صالح، أي رئيس ضعيف جدًا متحكّم فيه، فيستمر الضغط الشعبي كما استمر من قبل إن لم يكن بشكل أكبر، فكما أسقط الحراك بوتفليقة، سيتمّ إسقاط هذا الرئيس المنتخب بنسبة مشاركة ضعيفة جدًا، هذا إن لم يفرض عليه تنفيذ أجندة الحراك كلّها. كما يستحيل على الرئيس الجديد استخدام العنف ضدّ الحراك ما دام سلاحه الفعّال هو السلمية التي أرهقت السلطة التي تعمل بكل الوسائل وباستفزازات لجرّه إلى العنف وتوقيفه، لكن الشعب واعٍ جدًا لمخطط السلطة.
لا ننسى أن عدم استخدام السلطة للعنف ليس فقط لسلمية الحراك ورغبتها في ذلك، بل أيضًا لوجود ضغوط من دول أوروبية في شمال المتوسّط على السلطة في الجزائر تحذرها من استخدام العنف خوفًا من الفوضى التي ستدفع بمهاجرين سرّيين إليها، وهو ما يهدّد أيضًا بعودة الإرهاب مستغلًا هذه الفوضى، وهو ما يهدّد أمن شمال المتوسّط، لكن هذه الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا تدعم هذه السلطة، وتناور في الوقت نفسه لإيجاد مخرج ينقذها لأنها تخدم بشكلٍ كبيرٍ مصالح هذه الدول، خاصّة فرنسا. فكما تخشى هذه الدول الأوروبية ميلاد سوريا وليبيا أخرى في جنوب المتوسّط، إلا أنها تخطّط أيضًا مع السلطة للالتفاف على الحراك للإبقاء على النظام نفسه، لكن بوجهٍ وشكلٍ آخر.
- ما هي الخيارات السياسية الموجودة لتجاوز حالة الانسداد؟
نعتقد أنه قد طرحت عدة مبادرات جماعية وفردية بعد 22 شبّاط/فيفري، حدّدت فيها آليات وميكانيزمات عملية لتغيير النظام ونقله إلى نظام ديمقراطي، فقد كانت كل هذه المبادرات متشابهة تقريبًا، ولم يكن هناك إلا خلاف واحد، حيث نجد أن هناك من طرح فكرة مسارٍ تأسيسيٍ عبر مجلس تأسيسي، وهناك من يريد رئاسيات شفافة، لكن تمكن الطرفان من التوصل ضمنيًا إلى اتفاق فيما بينهما، وهو القبول برئاسيات نزيهة وشفافة تفرز رئيسًا يقوم بعملية التغيير، لكن يسبق ذلك حوار واسع وشامل بين كل الأطراف سيؤدي إلى الاتفاق على نقطتين أساسيتين وهما: عقد وطني بين كلّ الأطراف يكون ضمانة للجميع، ويبنى النظام الجديد على أساسه بشكل لا يقصى أيّ جزائري كان، أما النقطة الثانية فتدور حول كيفية ضمان انتخابات نزيهة تفرز رئيسًا شرعيًا يلتزم بالعقد الوطني الذي تحدثنا عنه، وبكل الخطوات والمراحل والآليات المتفّق عليها بهدف نقل الجزائر إلى نظام سياسي جديد.
- يشهد الحراك الشعبي تنوعًا سياسيًا واستقطابًا أيديولوجيًا، حال دون تشكيل قوى حقيقية في مواجهة السلطة القائمة، هل يشكّل هذا التنوع ظاهرة صحيّة حتى وإن لم يتمّكن الحراك من تنظيم هياكله بعد؟
يعدّ هذا أمرًا طبيعيًا؛ فالحراك يضمّ كل أطياف المجتمع بكل تناقضاتها السياسية والأيديولوجية والثقافية والطبقية وغيرها، وهو لا يؤثر على الحراك ما دام الجميع متفقين على نقل الجزائر إلى نظام ديمقراطي يجد الجميع أنفسهم فيه، فالديمقراطية في الحقيقة ليست أيديولوجيا أو دينًا، بل هي حلّ سلمي لكل هذه التناقضات الموجودة في كل المجتمعات، وذلك بالتداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخابات، التي هي مرتبطة أيضًا بالتزام الجميع باحترام الحريّات الفردية والجماعية دون أي تمييز، ومبدأ المواطنة، أي احترام الآخر مهما كانت قناعاته، وكذلك التداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات، واستبعاد استخدام مكوّنات الهوية الوطنية في العمل السياسي وغيرها من المبادئ التي يتّفق عليها كل أبناء الحراك مهما كانت توجهاتهم.
ودليل ذلك أن الاختلافات والتناقضات قد توارت بداخله كي لا يتفتّت، لكنها ستعود فيما بعد بشكل طبيعي بعد إقامة النظام الديمقراطي الذي لا يُقصي أيًا كان، كما يشترط في نجاح الديمقراطية ارتباطها أيضًا بتوزيع عادل للثروة، أيّ تحقيق العدالة الاجتماعية وكذلك دولة قوية تكون قادرة على تنفيذ القانون على الجميع، وتضمن وتدعم هذه الديمقراطية، ومن المفروض أن يكون ذلك من مهام المؤسّسة العسكرية بصفتها العمود الفقري للدولة وحامية للديمقراطية والدستور الديمقراطي المنبثق عن توافقات بين كل أطياف المجتمع الجزائري.
- ما تقييمك لوضعية حقوق الإنسان وحريّة الإعلام في الجزائر؟
أكيد أن حقوق الإنسان بمفهومها الشامل السياسي والاجتماعي ضعيف في بلادنا، لكن على مستوى الحريّات والقمع لا يمكن مقارنة ما يحدث اليوم من مساس بها بما وقع في التسعينات حيث أزهقت أرواح البشر واعتقل مواطنون لأسباب واهية جدًا، لكن نجد اليوم الممارسات نفسها دون وقوع ضحايا، ولعلّ الظروف الدولية والإعلامية تختلف عن فترة التسعينات، أما بشان الإعلام فلو قارناه بفترة وجود بوتفليقة على رأس السلطة، فنجزم بأنه تراجع اليوم بشكلٍ كبيرٍ لا يمكن تصوّره، فهناك صوت ورأي واحد في مختلف الفضائيات الخاصّة، ويعود ذلك إلى دفاع أصحاب هذه الفضائيات على مصالح كسبوها بطرق غير شرعية في عهد بوتفليقة، فالحراك يهدّد مصالحها، لكن ما يؤسف له هو انتقال إعلاميين من التمسّح ببوتفليقة إلى شتمه والتمسح بقوى أخرى، فهذا العمل مدان أخلاقيًا، وليس من شيم الرجال.
- مع كل استحقاق رئاسي يعود الحديث عن الأيادي الأجنبية، لماذا تلجأ السلطة إلى صناعة عدوٍ خارجي؟ هل فعليًا هناك تأثير خارجي على الوضع الداخلي؟
يجب أن نعرف أن الرئاسيات في الجزائر دائمًا ما تشكّل أزمة منذ الاستقلال، خاصّة في حالة وفاة الرئيس كما وقع مع وفاة هواري بومدين مثلًا، حيث يظهر صراع حول خلافة الرئيس، وكي يحافظ النظام على نفسه، يلجأ إلى إلهاء الشعب أو تشكيل خطر خارجي كما وقع مع عملية "كاب سيغلي" المفبركة في نهاية 1978، كما يجب أن نعلم أن النظام في الجزائر يكتسب شرعيته منذ سنة 1962 مثله مثل الكثير من الأنظمة، من ادعائه الحفاظ على الوحدة الوطنية والأمن ومواجهة عدو خارجي، فهذان العاملان يعدّان سببًا في نشأة الدولة ذاتها، فـ "لافياثان" أو التنين في رأي الفيلسوف الإنكليزي هوبز، الذي يفسّر نشأة الدولة كان مبنيًا على مواجهة خطر خارجي يهدّد المجتمع والحفاظ على أمن الأفراد المتناحرين فيما بينهم، ويتمّ ذلك بتنازلهم جميعًا عن حرّياتهم لصالح الحاكم المطلق، خاصّة في مسألة استخدام العنف، ونشير هنا إلى مقولة نابليون بونابرت "أعط لي عدوًا خارجيًا، سأصنع لك أمّة عظيمة".
لكن هل الخطر الخارجي موجود فعلًا؟ لا ننفي ذلك، فالعلاقات الدولية مبنية على صراعات ومصالح، لكن لا يمكن لهذا الخطر تهديد مصالحنا إلا إذا كنّا ضعفاء في الداخل، ولا يوجد تماسك بين الشعب والسلطة، لكن لا يتأتى هذا التماسك إلا بسلطة شرعية يفرزها الشعب عبر نظام ديمقراطي تعدّدي يحوّل الدولة من خدمة فئة أو مجموعة إلى خدمة الأمّة كلها، فيهب كل الشعب للدفاع عن الدولة ضدّ أي خطر يهدّدها.
- ما رأيك فيما يُشاع من محاولات عزل منطقة القبائل و"شيطنتها"؟
إن مسألة "شيطنة" منطقة القبائل ليست جديدة، فقد تعرضّت لظلم كبير بفعل دعايات ضدّها وأكاذيب حولها روّجها الاستعمار الفرنسي، ثم واصلتها السلطة بعد 1962 بشكلٍ أكبر في إطار تطبيق مبدأ "فرق تسد"، فيجب أن نعلم أن هذه المنطقة التي أطلقت حولها العديد من الإشاعات، قد ذهبت ضحية موقعها الجغرافي وللطبيعة الجبلية والثورية لسكانها، وليس لأنها تتحدّث بالأمازيغية، لأن هناك مناطق جزائرية كثيرة تتحدّث الأمازيغية، بل لأن موقعها قريب جدًا من العاصمة أو السلطة المركزية، منذ أن اختار العثمانيون "الزاير" عاصمة للدولة.
كان موقع منطقة القبائل قرب العاصمة أو المركز، والطبيعة الثورية لسكانها الناتجة عن جغرافيتها الجبلية قد أدى إلى إدراك السلطة في العاصمة منذ الفترة العثمانية إلى اليوم أن أي ثورة يقوم بها سكان منطقة القبائل معناها السقوط السريع لهذه السلطة، إذا وقفت معها المناطق الأخرى، ولهذا جاءت فكرة عزلها عن المناطق الأخرى كي لا تساندها، فتتحالف السلطة المركزية مع المناطق الأخرى ضدّها، ولهذا برزت كل الدعايات ضدّها وهذه الصورة المشوّهة عن سكانها، فكان ذلك منذ العثمانيين الذين كانوا يقولون عن سكانها إنهم "كفار" لإثارة الآخرين ضدها بسبب رفضها دفع الضرائب الاستغلالية والمهينة للسلطة العثمانية.
رابح لونيسي: الجنرال بيجو وصف سكان منطقة القبائل بالمحاربين الأقوياء والمتعصّبين الدينيين
في العهد الاستعماري مورست السياسة نفسها على منطقة القبائل، خاصّة بعد ما وضع الجنرال بيجو تعليماته لقادة الجيش عام 1844، وحذّر فيها بالخصوص من سكان المنطقة الذين وصفهم بالمحاربين الأقوياء والمتعصّبين الدينيين، وقد تنبه الاستعمار إلى ذلك على يد حمدان خوجة العثماني في تقريره إلى اللجنة الأفريقية التي أنشأتها السلطات الاستعمارية عام 1834، وتأكّد من خطورة هذا الموقع الجغرافي عندما كاد الطيب أوسالم خليفة الأمير عبد القادر على إقليم منطقة القبائل الكبرى، أن يحرّر العاصمة عام 1838، ومورست السياسة نفسها بعد استرجاع الأمة الجزائرية استقلالها. ولو كان سكان الغرب الجزائري مثلًا أو الصحراء هم سكان هذه المنطقة، لوقع لهم ما وقع لسكان منطقة القبائل، لكن الحراك الشعبي أدرك اليوم لعبة السلطة جيّدًا، وهو ما سيكون له نتائج إيجابية كبيرة على وحدة الأمّة الجزائرية في حالة تحقيق الحراك لأهدافه، فقد عرف الجزائريون أن السلطة القائمة هي المُهدّدة الفعلية للوحدة الوطنية، وجعلهم ذلك يصرّون على رحيلها.
اقرأ/ي أيضًا:
حوار | علي بن فليس: حاصر الحراك الجزائري التصحر السياسي والمغامرة بمصير الدولة