يحذّر رئيس جبهة العدالة والتنمية، عبد الله جاب الله، من تداعيات إجراء انتخابات رئاسية الشهر المقبل، في ظلّ توقّعات بمقاطعة واسعة في بعض مناطق الوطن، معتبرًا ذلك مسمارًا في جسد الوحدة الوطنية ويخدم دعاة الانفصال.
جاب الله: هناك احتمال أن تُجرى انتخابات وسط أجواء هادئة مع نسبة مقاطعة واسعة، وهذا هو الخيّار المفضل لدى السلطة
وفي مقاربته السياسية لمسار الأزمة في البلاد، يضع جاب الله في حوار مع "الترا جزائر" احتمالين اثنين بعد المرور على خيار الانتخابات، أوّلهما تعنتّ السلطة الحاكمة أمام مقاطعة الانتخابات وتنصيب رئيس للجمهورية ولو على حساب الرفض الشعبي، وهو الخيار الأسوأ على حدّ قوله، وقد يؤدّي إلى انزلاقات تمسّ بالوحدة الوطنية، أمّا الخيار الثاني، فهو تعليق نتائج الانتخابات والذهاب إلى مرحلة انتقالية وفتح باب الحوار أمام جميع التيّارات.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | علي بن فليس: حاصر الحراك الجزائري التصحر السياسي والمغامرة بمصير الدولة
يدعو رئيس الحزب الإسلامي، إلى إعادة النظر كليًا في خارطة الطريق المرسومة من طرف السلطة الفعلية، معتبرًا هنا، أن المؤسّسة العسكرية هي صاحبة القرار اليوم، بكل ما تمتلكه من أذرع إدارية ومالية في البلاد، وأن الرهان الحراكي اليوم هو تمدين مؤسّسات الدولة.
يحدثنا جاب الله في هذا الحوار، عن أسباب فشل الندوة الوطنية، وقراءته في المشهد السياسي العام، وكيفية تفعيل المادة 7 من الدستور، ومقاربته في الخروج من حالة الانسداد.
- ما هي قراءتك للمشهد السياسي العام؟
تعيش الجزائر منذ 22 شباط/فيفري، ثورة شعبية مليونية تحمل شعاراتها دلالات سياسية عميقة تمحورت حول جملة من المطالب؛ أوّلها قرار استرجاع حقّ الشعب في السلطة. ثانًيا نزع الشرعية من السلطة الحاكمة، وثالثًا ممارسة سيادة كاملة غير منقوصة. الشعب رسم مستقبله بعيدًا عن كل أشكال وأنواع الوصاية، لكن للأسف،السلطة الفعلية والنافذة لم تحترم إرادة الشعب ولم تسارع في تجسيد مطالبه.
- كيف يتمّ تجسيد المطالب الشعبية فعليًا؟
يتمّ عبر اتخاذ جملة من التدابير، أولها العزل السياسي، الذي من المفروض أن يمسّ كل المسؤولين الفاسدين، الذين تورّطوا في إدارة البلد خلال فترة حكم بوتفليقة، إلى غاية الهياكل الحزبية، من أحزاب الموالاة، ومن سلك سبيلها، ويتمّ تسليم السلطة إلى من يثقّ فيهم الشعب الجزائري، من ذوي الكفاءات العلمية والمهنية، تحظى بالمصداقية، ولم تُساهم في تسيير البلد في عهد بوتفليقة. لكن للأسف لم يتمّ مرافقة المطالب الشعبية، بل رفعوا شعارات مرافقة الحراك، والالتفات حوله، واعترفوا به، عبر محاربة بعض رموز الفساد السياسي والمالي، لكن على مستوى الخيارات السياسية الكبرى، تمسّكوا بتطبيق المادة 102، التي تضمن فقط استمرار مؤسّسات الدولة، في حين الشعب انتفض للمطالبة برحيل منظومة الحكم بكاملها. والسلطة القائمة اليوم تُناور عبر إجراء انتخابات رئاسية، في محاولة ضمان استمرارية النظام في الحكم، بينما الشعب يرفض هذه الانتخابات.
- لكن هناك من يرى أن ضعف الأطر التقليدية، من أحزاب سياسية ومجتمع مدني، هو ما مكن السلطة الفعلية من فرض خارطة الطريق والذهاب إلى خيار الانتخابات؟
هذا القول يبدو لي بعيدًا عن الحقيقة، لكن بشكلٍ عام هناك ضعف. لابد من الإقرار أن الجزائر لم تعرف حياة سياسية طبيعية وديمقراطية، الجزائر لا تزال يحكمها نظام سياسي شمولي بمظهر ديمقراطي تعدّدي، فكلّ الدساتير تشهد بخيار النخبة الحاكمة في نمط إدارة البلد، وهو الفكر الشمولي، وفي ظلّ هذه الأنظمة الاستبدادية، لا يمكن أن تنمو التعدّدية، سواءً السياسية أو الحزبية أو النقابية والمجتمعية، أو أن تزدهر الحقوق والحرّيات الفردية، لأنه لا تتوفّر الضمانات التي تحمي الحياة السياسية والحزبية، من التعسّفات والتجاوزات وأداء واجب الرقابة. رغم ذلك استطاعت النخبة الجزائرية تقديم قراءات، ومساهمات، ومقترحات ومخرجات لتجاوز الأزمات.
- كانت لكم عدّة مبادرات بدءًا من ندوة "مزافران1"، واقترحتم خارطة الطريق. لماذا لم يتمّ تفعيل المقترحات؟
كان الواجب علينا كجزء من الشعب مرافقة مطالبه، وحماية حقوقه المشروعة، إذ بادرنا إلى عقد عدّة لقاءات في مقر جبهة العدالة والتنمية، وعقدنا أكثر من 19 لقاءً تشاوريًا. أفضى إلى تأسيس فعاليات قوى التغيير، واستطعنا الوصول إلى قرار الذهاب إلى ندوة وطنية جامعة، تهدف إلى وضع مرجعية فكرية وسياسية، تكون معلمًا ومنارةً للحراك الشعبي الوطني.
- لكن ماذا حصل خلال أو بعد الندوة؟
تم الاتفاق مبدئيًا على إعداد أرضية تقرأ على الحضور، ثم يفتح النقاش العام حول الأرضية، وتعدّل أو يضاف إليها وفق التصورات والنقاشات المقدّمة التي يتفق عليه الجميع، وفي الأخير تُزكّى كأرضية جامعة، لكن للأسف الحسابات السياسية الضيّقة لبعض الشخصيات الذين وافقوا في الظاهر وتآمروا في الخفاء، أجهضت هذه الندوة التي حضرها أكثر من 900 شخصية مؤثّرة في المجتمع.
- وماذا كانت ردّة فعل السلطة تجاه ندوة عين البيان؟
السلطة السياسية في الجزائر لا تستمع إلا لنفسها، وهذا مظهر من مظاهر التمكّن الاستبدادي، لكن هذه ليس المرّة الأولى تتجاهل فيها السلطة مقترحات المعارضة السياسية. وجب التذكير أنه بعد توقيف المسار الانتخابي سنة 1992، دعونا إلى الحوار وأسسنا (مجموعة 7+1)، قدمنا خلالها مجموعة من المقترحات لتجاوز الأزمة، وتم تجاهلنا. وفي نهاية 1993 أسّسنا مبادرة الأحزاب الأربعة الفاعلة آنذاك، ولم يُلتفت إلينا. شاركنا بعدها في جولات الحوار، واتفقنا على منهجية العمل ولم يُصغَ لنا، تم أسّسنا بعدها مجموعة العقد الوطني، حضرتها شخصيات تاريخية وسياسية، ووضعنا تصورًا لحقن الدماء واتفقنا على أرضية سياسية شاملة تُراعي خصوصية المرحلة، ووضعنا منهجية متدرّجة مع ضمانات، لكن ردة فعل السلطة اعتبرتها "لا حدث". وشهدنا مسيرات قيل عنها إنها عفوية تندّد بالعقد الوطني. في الأخير السلطة تفاوضت مع المسلّحين، بينما مجموعة العقد الوطني كانت لها رؤية شاملة مكتملة تشارك فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
- ربّما نقطة التباعد هي عدم تحمّس السلطة للذهاب إلى مرحلة انتقالية أو تأسيسية، بينما أرضية الندوة الوطنية تدعو إلى ذلك. ما تعليقكم؟
أولًا، هناك فرق بين المرحلة الانتقالية والمرحلة التأسيسية. نحن أمام ثورة شعبية وصلت خلال الستة أشهر الأولى، إلى 20 مليون جزائري في الشارع، فكان لا بد لأصحاب القرار، عزل كل منظومة الحكم القائمة وليس جزءًا منها، وتسليم السلطة لذوي الكفاءات الوطنية النزيهة والنظيفة، لإدارة مرحلة أو فترة لتحضير الشروط القانونية، والسياسية والمادية للعودة إلى المسار الانتخابي، في ظروف شفافة ونزيهة.
- لكن لسان حال السلطة يقول إنه تمّت الاستجابة إلى جزء من مطالب الحراك الأساسية، عبر تنصيب السلطة الوطنية المستقلة لتنظيم ومراقبة الانتخابات بعيدًا عن الإدارة ووزارة الداخلية. ما تعلقيكم؟
لو حصل هذا في غير ثورة شعبية، لاعتبرناه إنجازًا عظيمًا، فقد سبق وأن ناضلنا لتسليم ملف الانتخابات من الداخلية ووزارة العدالة إلى هيئة مستقلّة، وقدمنا في هذا الإطار 63 تعديلًا لدى الهيئة النيابية لكنها رفضت، لكن اليوم سقف المطالب تعدّى هذا الإجراء الشكلي والتنظيمي. الشعب يدعو إلى تنحّي كل البنية المؤسّساتية والبشرية والسياسية للنظام القائم، ويدعو إلى تنصيب بنية حكم مغايرة تمامًا، ولنا أسوة في كل الثورات الشعبية السلمية في تونس ومصر قبل الانقلاب، وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، حيث استجابت المؤسّسة العسكرية للمطالب الشعبية عبر حلّ المؤسّسات الفاسدة، وتجميد الدستور والعمل بالإعلان الدستوري، الذي يشكّل أرضية قانونية، محدّدة زمنيًا وتشريعيًا، قصد تعبيد الطريق للعودة إلى المسار المؤسّساتي الديمقراطي.
- لكن المؤسّسة العسكرية تقول إنها حريصة على احترام الدستور، وتلتزم بالمخرجات الدستورية.
أولا هذا المنطق لا يتّفق مع المنطق الثوري، فالمتفق عليه بين جميع الدارسين، أن الشرعية الثورية تُلغي الشرعية الدستورية، لأن من يعطي الشرعية الدستورية هو الشعب، صاحب السلطة.
ومع هذا جرينا مع قرار الحلّ الدستوري، وقدمنا دلالات ومعانيًا لكلمة "ارحلوا"، وبحثنا عن سند دستوري، فوجدنا سندًا دستوريًا يكمن في معاني ودلالات تتوافق مع كلمة "السيادة" الواردة في المادة 7 من الدستور، والتي تنص على أن الشعب هو صاحب السيادة، وبالتالي تفعيل المادة 7 من الدستور يمرّ عبر الحل السياسي والدستوري؛ فالخيار الدستوري يستجيب إلى الخيار السياسي، والفقه السياسي يتوافق مع الفقه الدستوري، فقط الخلاف يكون في الصياغة وليس في الجوهر.
أما القول إن المادة السابعة من الدستور قيمية لا تحمل إجراءات تطبيقية، فهذا جهلٌ أو تجاهل لروح الدستور والنصوص الدستورية.
- واضح أن خيار الانتخابات بات أمرًا واقعًا. في رأيك ما هي السيناريوهات المستقبلية؟
طبعًا نحن نتجه إلى خيار الانتخابات المفروض من طرف المؤسّسة العسكرية، فالأولوية لدى الجيش، ليس طرق تجسيد المطالب الشعبية المتعدّدة والمتنوعة، بل فراغ منصب رئيس الجمهورية، وبالتالي أولى الأولويات هي سدّ هذا الفراغ، عبر الذهاب إلى الانتخابات. تمّ تنصيب هيئة مستقلة لتنظيم ومراقبة الانتخابات ودعوة الهيئة الناخبة بشكلٍ متسارع، لكن هذه الخطوات غير كافية، وتحمل اختلالات كثيرة، من بينها أن الشقّ المتعلّق باللجان ذات الصلة بجمع الأصوات مباشرة، تُسند إما إلى القضاة الذين يتم تعيينهم من طرف المجالس القضائية، أو إداريين على مستوى القنصليات التي يتمّ تعيينهم من وزارة الخارجية، إضافة إلى ذلك فاللجان الولائية تقريبًا، تتبع إلى أحزاب الموالاة وبقايا النظام البوتفليقي مع بعض الاستثناءات الشكلية طبعًا.
- ما تعليقك عن حملة الاعتقالات التي تمسّ أنصار الحراك الشعبي؟
هذي الاعتقالات تُعطي فكرة عن طبيعة النخب الحاكمة في الجزائر، في كيفية إدارتها وتسييرها للأزمات، وهو نظام تعسفي استبدادي، لا يعطي قيمة للحقوق الفردية والحرّيات الشخصية، لهذا يُحاكم هؤلاء الشباب بالعقلية القديمة الثورية، وليس وفق القانون والعدالة، إذ إن الشعب محقّ في ثورته ويخشى على مستقبله وعلى وطنه من هذا النظام المتآكل.
- حملة الاعتقالات تقودنا إلى رؤيتكم إلى إشكالية الراية الأمازيغية؟ ما هو موقفكم؟
في الأصل لا تُرفع غير الراية الوطنية، فهي محلّ إجماع وطني. قد يكون لهذا المسلك، أي رفع الراية الأمازيغية، مسالك خطيرة في المستقبل على الوحدة الوطنية، وهي راية لها أبعاد سياسية أيضًا، لذلك لا بد من سدّ الذرائع لكل الانزلاقات، لكن لم أحبذ طريقة المعالجة الأمنية والقضائية، وطالبنا بإطلاق سراح هؤلاء الشباب.
- هل هناك إمكانية للتوافق على مرشح واحد يكون من التيار الإسلامي مثلًا؟
موقفي من الانتخابات أنها مناورة سياسية من السلطة لديمومة منظومة الحكم، وبالتالي لا يمكن لي أن أُناقض مبدئي، وأنا تخندقت مع الشعب ومطالبه السياسية والحقوقية المشروعة. لا يمكن أن أصطف وراء خيار أراه يضيف للأزمة ولا يبعدها.
- تحاول السلطة الحالية أن تلبس ثوب النوفمبرية الباديسية. ما تعليقكم على هذا الشعار؟
مغالطة وخديعة، يا ريتها كانت حقيقة، فمضمون أول نوفمبر، ينص على تأسيس دولة ديمقراطية اجتماعية ضمن المبادئ الإسلامية، بتعبير آخر الجمع بين الأصالة والمعاصرة، نظام ديمقراطي تعدّدي، يتحمل مسؤوليته الاجتماعية، وفق ضوابط ديننا الإسلامي.
إذا صادقوا حقًا في هذا الشعار، سأكون من أوّل من يدعم هذا، ولا أريد جزاءً ولا شكورًا، لكني لا أريد الترويج أو المساهمة في مغالطة خداعة، ليس لها مضامين حقيقية.
- ما هي بنية النظام السياسي في الجزائر؟
الجزائر حُكمت منذ البداية من طرف المؤسّسة العسكرية، وأنشأت بعدها حلفاء من بينهم الإدارة البيروقراطية الموالية لها ولطموحاتها، ثم لوبي مالي حليف لها أيضًا. ربّما هناك فلتان من اللوبي المالي وبعض الإطارات السياسية، ولكن أصل الحكم الذي تأسّست عليه البلاد شيء ثاني. المؤسّسة العسكرية لها القرار الأوّل اليوم، وهي من قرّر محاكمة رؤوس الفساد السياسي والمالي، لهذا نسعى إلى تأسيس دولة مدنية، تعيد العلاقة بين المدني والعسكري. والمدنية ليس بالمفهوم العلماني للكلمة، بل صاحب السلطة هو الشعب، وليس البعد الأيديولوجي للعبارة.
- ارتفعت أصوات تعبر عن مخاوف من إجراء الانتخابات في ظل أجواء مشحونة ومقاطعة واسعة. ما هي الاحتمالات الواردة؟
هناك احتمال أن تُجرى انتخابات وسط أجواء هادئة، مع نسبة مقاطعة واسعة، وهذا هو الخيّار المفضل لدى السلطة الفعلية، إذ لا يهم نسبة المشاركة بقدر مرور الاقتراع، وإجراء الانتخابات وسط ظروف هادئة، ويأتي بعدها ترسيم وتنصيب الرئيس الجديد.
جاب الله: هناك احتمال أن ترجح السلطة الفعلية خيار الوحدة الوطنية وتقوم بتعليق نتائج الانتخابات
وهناك احتمال ثانٍ، وهي مشاركة نسبية في بعض المناطق، ومقاطعة شاملة في بعض المناطق خاصّة منطقة القبائل والعاصمة، وهذا يفتح المجال أمام احتمالين؛ الأوّل أن تتعنّت السلطة وتُنصّب رئيسًا، وهو الخيار الأسوأ لأنّهم قد وضعوا مسمارًا مسمومًا في جسد الوحدة الوطنية، وهو ما يُعطي حجة لدُعاة الانفصال في منطقة القبائل، للّعب على وتر الجهوية والانفصالية. أمّا الاحتمال الثاني فالمؤسسة الفعلية ترجّح الوحدة الوطنية، وسدّ الطريق لمن يريد التلاعب، وتعلق النتائج ولا ترسّمها وتذهب إلى مرحلة انتقالية جادّة وشاملة وفتح حوار جامع تُسند فيه المرحلة إلى أهل الكفاءة والمصداقية، والعودة إلى المسار الانتخابي وفق توافق وطني.
اقرأ/ي أيضًا:
حوار | علي بن فليس: حاصر الحراك الجزائري التصحر السياسي والمغامرة بمصير الدولة