يركّز التاريخ الرسمي في سردية معركة التحرير الوطني، على شخصيات ثورية منضوية تحت لواء جيش التحرير الوطني، سقط كثير منهم في ميدان الشرف أثناء مقاومتهم للاحتلال الفرنسي. في مقابل ذلك، يتجاهل شخصيات وطنية لعبت أدورًا سياسية بارزة أفضت إلى الخيار المسلح، وساهمت بشكلٍ فعال في النضال السياسي أو الدبلوماسي والحقوقي رفقة النشاط العسكري، فضّلت عدم التخندق في صف التيارات المتصارعة على السلطة.
شارك شوقي مصطفاوي رفقة حسين عسلة والشاذلي المكيفي في تصميم العلم الوطني المعروف في شكله اليوم
يرجع متابعون للشأن التاريخي هذا الإشكال، إلى وجود أسباب شمولية وسلطوية، أرادت أن تفرض رؤية ضيقة ومحدودة حول تاريخ الحركة الوطنية، علمًا أن شخصيات وطنية كثيرة ممن كان لها حضور سياسي بارز إبان الثورة التحريرية، تعرضت للتهميش نتيجة إما عدم تبنيها قاعدة جهوية تستند إليها، أو ابتعدت عن أية انتماءات أيديولوجية ترتكز عليها.
في هذا السياق، يَعد شوقي مصطفاي من بين الشخصيات الوطنية والنخبة المثقفة في الحركة الوطنية التي يجهلها كثير من جيل ما بعد الاستقلال، نتيجة سياسية "الإقصاء" التاريخي أو الانتقاء الجهوي والأيديولوجي والتودد إلى الطرف الأقوى، إذ لا يكاد يُذكر في سريديات الثورة والتاريخ والإسهامات النضالية السياسية والعسكرية.
ولد شوقي مصطفاوي في الخامس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1919 بولاية المسيلة، تلقى تعليمه الأول في مدرسة بولاية برج بوعريريج، وفي مرحلة الثانوية انتقل إلى ولاية سطيف، خلال مرحلة الطفولة والمراهقة ارتبط كثيرًا وتعلق بالحدائق والغابات والمساحات الخضراء، وترك ذلك الارتباط في نفسيته أثرًا إيجابيًا، وعُرف بفطنته ونباهته دقة ملاحاظاته.
نشأة الوعي الوطني
في سنة 1939 التحق بالجامعة المركزية بالجزائر العاصمة لدراسة الطب، كانت الجامعة آنذك قطبًا محوريًا في التكوين السياسي ومحطة من أجل نضج الوعي الوطني، ورغم قلة عدد الطلبة الجزائريين حينها، إلا أن نشاطًا كثيفًا كان يَدُبُ وسط الطلبة من التيار اليساري والحزب الشيوعي الفرنسي ومناضلي والطلبة الجزائريين.
خلال تلك الفترة تعرف شوقي مصطفاي، على لمين دباغين الذي كان حينها قياديًا في حزب الشعب الجزائري، وبفضل هذا الأخير انضم شوقي مصطفاوي إلى تنظيم حزب الشعب الجزائري، ليتولى بعدها مسؤولية تحرير بيانات الحزب وكتابة مقالات وتحرير تعليمات وتوجيهات، زيادة على العمل الميداني والنضالي من أجل الدفع بالقضية الوطنية وتوعية الطلبة بالصحوة الوطنية.
مرحلة التأطير النظري
خلال فترة دراسته الجامعية، كان شوقي مصطفاي كثير الاحتكاك بالطلبة الفرنسيين من المنتمين إلى تياري اليساري والشيوعي،وكان يفتتح رفقة هؤلاء الطلبة الكثير من النقاشات والسجالات حول مفاهيم كانت متداولة حينها، وبحكم انتمائه منذ نشأته إلى التيار الاستقلالي، كان أبعد ما يجد قواسم مشتركة مع هؤلاء الطلبة، غير أن شوقي مصطفاوي انتبه إلى خلل ونقص في الطابع الأيديولوجي الوطني لدى حزب الشعب الجزائري وغياب تام للبعض المفاهيم والأفكار الأساسية في القاعدة التنظيرية للحزب، هذا الفقر الأيديولوجي كان عاملًا سلبيًا في الدفاع عن الفكر الاستقلالي والوطني.
وبناءً على ذلك، ساهم شوقي مصطفاي -ولو بشكل بسيط -في إعداد وبلورة أرضية تُحدد بشكلٍ واضح الأسس الأيديولوجية والأفكار الاستقلالية وبعض المفاهيم وتحديد المفردات، التي كان حزب الشعب الجزائري يتبنى أهدافها وأفكارها، لكنه ظل عاجزًا على كتابتها والفصل فيها خوفًا من إحداث خلافات وخصومات وسط المناضلين.
8 ماي 1945
قبيل المشاركة في احتفال انتصار الحلفاء على النازية، الذي حوّلته فرنسا الاستعمارية إلى مجازر ارتكبتها في حق الشعب الجزائري، شارك شوقي مصطفاوي رفقة حسين عسلة (1917-1948) والشاذلي المكي (1920-1988) في تحديد صورة الراية الوطنية التي سيرفعها المتظاهرون خلال المظاهرات، ووقع اختيار قيادة حزب الشعب الجزائري على شكل وألوان التي صممها شوقي مصطفاوي، والذي اعتمد رسميًا خلال المؤتمر الأول لحركة انتصار الحريات الديمقراطية MTLD، وهو العلم الوطني المعروف في شكله الحالي.
بعد مجازر 8 ماي 1945، تعرض حزب الشعب الجزائري إلى قمع ومطارة قيادته وتم حل الحزب، ولكن شوقي مصطفاوي ساهم بشكل فعال في إنشاء وإعادة هيكلة الحزب تحت مسمى جديد أطلق عليه اسم "حركة انتصار الحريات الديمقراطية"، رافضًا العمل السياسي السرّي الذي كان سيفرض على القيادة قيودًا في النشاط العلني والتواصل المباشر مع الجماهير وتكبيلًا في مجال حرية التعبير والاعلام.
التوازن والوسطية
استطاعت شخصية شوقي مصطفاوي المتزنة والمثقفة، في وضع توازن بين مختلف التيارات داخل حركة انتصار الحريات الديمقراطية، إذ بعد أحداث 8 ماي 1945، برزت إلى العلن خلافات حول المسار النضالي الذي لابد من الاعتماد عليه في سبيل استقلال الجزائر، حيث ظهر التيار الاستقلالي الثوري الذي بات يفكر في العمل المسلح كخيار الأوحد في التعامل مع المستعمر الفرنسي، بينما كان جناح مصالي الحاج يفكر في العمل السياسي والتريث في خيار العمل المسلح.
في أواخر سنة 1948 تولى شوقي مصطفاي التنسيق بين حسين لحول الذي كان أمينًا للحزب وحسين آيث أحمد من أجل إعداد (Rapport de Zeddine) أو مؤتمر للتحضير الثورة المسلحة الذي عقد بمنطقة زدين ووضع استراتيجية جديدة للحزب. ومع اندلاع الأزمة البربرية سنة 1949 تولى قيادة فيدرالية الحزب بفرنسا وأعاد ترتيب البيت السياسي والنضالي هناك، وأشرف على إدارة وتحرير جريدة "L'algerie Libre".
شهدت مرحلة 1950-1952 تحولات سياسية ومجتمعية ودولية، فرضت تلك المتغيرات تغييرًا في ذهنيات الكثير من المناضلين الجزائريين، لكن بقي الحزب بقيادة مصالي الحاج عاجزًا عن مواكبة التطورات الميدانية، وكذا الخيارات والوسائل الدفاعية عن القضية الوطنية.
بات الحزب عقبة أمام تجسيد الحركية التي أصبح يقودها جيل جديد من المناضلين؛ يفكرون في التحضير للثورة المسلحة كخيار استراتيجي في التعامل مع المستعمر الفرنسي، وأمام هذ الحاجز، قدم كل من شوقي مصطفاوي وعبد الرزاق شنوف وسعيد عمراني ولمين دباغين استقالتهم من الحزب سنة 1951.
ثورة التحرير
بعد اندلاع الثورة في أول نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1954، انظم مصطفاوي إلى جبهة التحرير الوطني كمسؤول عن الجبهة في تونس سنة 1956، ثم ممثلًا للحكومة الجزائرية المؤقتة بالرباط سنة 1960، استقبل فيها في تلك الفترة زعيم جنوب أفريقيا نيلسون مونديلا، وقبلها شغل مستشارًا سياسيًا للحكومة المؤقتة برئاسة فرحات عباس سنة 1958، وكان أحد أعضاء الهيئة التنفيذية المؤقتة التي أدارت شؤون البلاد خلال الفترة الانتقالية من 19 آذار/مارس 1962 إلى غاية 5 تموز/جويلية من نفس السنة.
تحمل شوقي مصطفاوي ثمن خياراته ومبادئه ومواقفه السياسية الجريئة التي لم تكن تساير الواقع المفروض.
مباشرة بعد استقلال الجزائر، اعتزل شوقي مصطفاي العمل السياسي كليًا، وواصل مهنة الطب العيون إلى غاية وفاته سنة 2016 عن عمر 96 سنة، وقد مر في هذه الفترة بعدّة صعوبات، بداية بمحاولة فتح عيادة لطب العيون بعد الاستقلال واشتغاله بالاتحاد الصناعي الأفريقي بالحراش لعدة سنوات، متحملًا ثمن خياراته ومبادئه ومواقفه السياسية الجريئة التي لم تكن تساير الواقع المفروض.