19-يوليو-2022
فتاة في شاطيء المرسى بن مهيدي بتلمسان (الصورة: Getty)

فتاة في شاطيء المرسى بن مهيدي بتلمسان (الصورة: Getty)

في السّابق لم تكن قِصص "الحرّاقة" أوالمهاجرون السرّيون سوى روايات يسردها القريبون مِنهم، سواء أكانوا الأهالي أو الأصدقاء، مع تعرية أسباب اختيارهم هذا المنحى الخطير وخلفياته وطريقة ركبوهم لـ"قوارب الموت"، تفاصيل يحصل عليها الكثيرون من روايات مختلفة، لكن لأول مرة يرصد الرأي العام في الجزائر رسالة مهاجِرة سرية قاصر  هاجرت إلى "الجنة الأوروبية"، تودع فيها والديها وهي التي كانت في أعينهما كلّ شيء، فشغلت حكاية الفتاة كو ثر قيناد كثيرين منذ أكثر من شهرين.

أخصائية نفسية: عائلات كثيرة يساعدون أبناءهم ماليًا لتمكينهم من الهجرة السرية وأخرى لا يعرفون بهجرتهم إلا بعد مرور أيام

تخلّت كوثر قيناد (16 سنة) عن أهلها ومدرستها وحياتها لتركب قارب الموت رفقة مجموعة من المهاجرين بطريقة سرّية، لكنّها لم تشأ أن تترك الأسئلة معلّقة عند الأهل بمجرد اكتِشاف غيابها.  إذ هرع الوالد للبحث عنها فور عدم عودتها للبيت في المساء، فكانت صدمته قوية عند عثوره على رسالة الوداع، والتي جاء فيها الآتي:

وهران: يوم 18 مايو/ أيار 2022:" آسفة أبي، آسفة ماما، قررت تجريب حظي ما وراء البحر، سئمت من حياة البؤس والحرمان، وسأتصل بكما حالما أصل، أدعُوَا لي".

هذه هي الرسالة التي تركتها كوثر لوالديها، في كلمات وداع مؤلمة على قلبيها، عثر عليها الوالد في غرفتها، وجرّاء عدم تصديقه للحقيقة وهول الفاجِعة دخل والدها مستشفى لوهران غرب الجزائر، أما الوالدة فهي في غيبوبة الانتظار والبحث عن أي أمل يعيد البِنت إلى أحضانها.

لم تفقِد العائلة والأقارب الأمل في عودة كوثر، كونها فتاة قاصرًا ويمكن أن تكون قد غرّر بها خصوصًا وأن البنت لم تفارق والدها ولو للحظة منذ انفصاله عن والدتها، لافتًا في تصريحات للإعلام المحلي أنّه "لم يقصّر يومًا في حقها أو في تلبية أي شيء من طلباتها خصوصًا وهي التي فضّلت العيش معه رغم كلّ شيء"، ولكن المؤسف في هذه القصة أن كوثر قيناد لم يظهر لها أثر إلى اليوم.

استعجال الشّباب

قصة كوثر صدمت الجزائريين، وحوّلت أنظارهم مرة أخرى إلى معضلة الهجرة السرية التي لم تسلم فيها العائلات بهروب أطفالها لتصبح هدف البنات القاصرات، إذ كشف أستاذ التاريخ والجغرافيا كريم سعدي أنه سبق له وأن قام بشرح بعض الدروس المتعلّقة بالبحر المتوسط فوجد اهتمامًا منقطع النظير عن وضعية المكان وظروف البحر وشروط السباحة فيه وكيف يمكن عبوره.

هذه النّقطة لفتت انتباه محدِّث " الترا جزائر" لأن الشباب اليوم بعيد عن الواقع ويريد حلولًا استعجالية وإعادة تصوير مشاهد "الجنّة الكبرى في العالم الآخر في أوروبا بعيدًا عن مشاكلهم اليومية".

أخذت الظاهرة خلال السنوات الأخيرة أبعادًا جديدة، إذ يرى البعض علاقاتها بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والنفسي أيضًا، خصوصًا إن تحدّثنا هنا عن طريقة تعامل المقبل على الهجرة بطريقة سرية، حالة كوثر مع ذويها، وهي مؤشّر جديد، فيما يراها البعض تحولت من همّ أو اهتمام أو إقبال فردي إلى إقبال جماعي من أسرة كاملة ومن شباب أصدقاء من حيّ واحد.

وقالت الأخصائية النفسانية كريمة بوجريو لـ"الترا جزائر" إنه في السابق لا يتفطن الأهالي بهجرة أبنائهم إلاّ بعد مرور أيام على هجرتهم، رغم أن بعضهم يساهمون في تمكين أولادهم من مبالغ مالية للقيام بهذه الخطوة، ولتشخيص هذه الظاهرة، وترى المختصة النفسانية أن العديد من الشباب الجزائري يرون في الهجرة السرية حلًا جذريًا ونهائيًا لمشكلاتهم، غير أنه في المقابل من ذلك وجب أن نعرف هموم ومشكلات هؤلاء الشباب.

وأضافت في حديثها لـ"الترا جزائر" أن أزمة التشغيل ومشكلة البطالة كانت العامل الأبرز الذي يدفع إلى الهجرة السرية تليها مشكلة السّكن، إذ "شاهدنا عائلات تركب قوارب الموت بسبب مأزق جدران العيش، وانتظار لسنوات من أجل الحصول على بيت يأويهم، وبأقل درجة مشاكل عائلية".

ولفتت في هذا السياق أن العامل النفسي للمراهقين وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشباب عامل مهمّ جدًا كثيرًا ما لا توليه العائلات أهمية خصوصًا بالنسبة للأسر المفككة بسبب طلاق الوالدين وتأرجح الأبناء بين الطرفين، فضلًا عن "حبّ المغامرة القاتلة" أو " شغف تقليد الآخرين في يومياتهم ومعيشتهم طريقة هجرتهم ولو كلفتهم حياتهم، وهي مشاهد تنقلها الشّبكات الاجتماعية العنكبوتية في كل ساعة.

مجازفة ومخاوف

اقتصرت الهجرة السرّية في الجزائر سابقًا على الذكور، وخصوصًا الشّباب العاطل عن العمل، إذ يراها البعض خطوة " مقبولة وعادية"، خاصة بعد تكرارها ونجاح الكثيرين في المهمّة ووصلهم إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط، إذ كل يوم تكشف الأرقام عن هجرة العشرات إما عن طريق سواحل وهران والغزوات غربًا أو سواحل عنابة والطارف شرقًا.

كما أن هذه الخطوة الخطيرة لم تكن إلى وقت قريب تستقطب الأشخاص المتزوّجين بحكم مسؤولياتهم الأسرية،والعقود التي تربطهم بأهاليهم وأبنائهم، لكنها مع مرور الزمن أصبحت تستهوي عامة الفئات، إذ تجذب الرّجال والنّساء والعائلات والشّباب والقاصرات وهو ما يثير الكثير من الاستفهامات والمخاوف.

المجازفة مرتبطة بقوة الأشخاص الذين فضّلوا تجريب حظّهم في الهجرة، لكن أصبحت سلوكًا للعديد من الشباب خصوصًا أن تحمّل صعوبة الإبحار في قارب مطاطي تزداد كل مرة إن كان القارب يضمّ أكثر من 30 شخصًا وكانت حمولته المنطقية أو الحقيقية غير ذلك.

تأنيث الهجرة السرية

الملفِت للملاحظة، أن دخول الفتيات هذه المغامرة له أكثر من دلالة، فخوض هذه التجربة في حدّ ذاته إشهار عن "نهاية محتومة" وإعلان عن "يأس مفرِط" كما قالت الباحثة في علم الاجتماع فريدة بلونة من جامعة قسنطينة لـ" الترا جزائر"، معتبرة أن المخاطر صارت لا تفرق بين الجنسين إن كان الهدف هو تجريب الحظ بعد انسداد الآفاق.

الأخطر من هذا أن النساء والفتيات في عمر الزهور، عندما يتحدثن عن الهجرة السرية فهو عنوان عن لا رجوع عن الأمر، خصوصًا للكثيرات اللواتي عانين كثيرًا، كما أضافت المتحدثة؛ سواءً من ضغط في الأسرة من أب متسلط أو من أخ أو زوج ظالم، وكل الحالات التي تتحدث عن الأمر كن ضحايا لبيئة غير مستقرّة ومضطربة.

واعتبرت في سياق ذلك أن انحراف الأنثى عن الموجود في بيئتها الاجتماعية، لن يعيدها كما كانت، خصوصًا إن تواصلت مع مجموعات مثلها وحفّزنها على اتخاذ هذه الخطوة، حتى وإن كانت مجهولة المُنتهى.

ويقرّ البعض بأن قرار الهجرة السرية هو قرار ارتجالي وغير مسؤول مهما كانت أسبابه ودوافعه، إذ ذهب البعض إلى اعتبار أن التحوّلات التي تعرفها الجزائر، والظروف المحيطة بالعمل والوضع الأسري وتوافد أخبار العيش الكريم عبر السوشيال ميديا رسمت للكثيرين الحياة الوردية، وجعلت من الهجرة السرية أحد منافذها.

سياسيًا، تطرّق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال لقائه بالجالية الجزائرية في إيطاليا لهذه القضية متأسفًا عن وجود عصابات لتهريب البشر عبر الهجرة السرية ووقوع العشرات فريسة لها.

الجزائر من الدول التي تجرّم الهجرة السرية خاصة مع توسع العصابات التي تهرّب البشر في ظروف خطيرة 

ووجب الإشارة إلى أن الجزائر أقرّت العديد من القوانين لتجريم العملية، خصوصًا أمام توسّع العصابات التي تتاجر بالأشخاص وتقديم لهم التسهيلات في ركوب قوارب الموت، وايهامهم بالوصول إلى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، كما أصدر المجلس الإسلامي الأعلى فتوى تحريم العملية لأنها تلقي بالنّفس البشرية للهلاك في عرض البحر..