19-أكتوبر-2019

أصبح المهراس أحد أدوات الاحتجاج في الحراك (الصورة: موقع حراج)

يُسمّي الجزائريّون كلّ آنية نحاسيّة أو حديديّة أو خشبيّة تُهرس فيها الأشياء، من قهوة وتوابل وحبوب "المهراس". ويُسمّون العصا التّي تُستعمل في عملية الهرس، وعادةً ما تكون من المعدن نفسه، "الرّزامة". وقد استقرّ في المخيال الشّعبيّ أنّ "دار بلا مهراس هي دار بلا ساس". لأنّ وجوده في البيت يعني وجود يدٍ تشتغل وتسهّل معيشة أهله.

استدعت ثورة التحرير طقوس شعبية للتّعبير عن الاحتجاج ومن ذلك دقّ المهراس في مفاصل معيّنة

ولئن كان المهراس في معاجم العربيّة، يعني البعير الثقيل والشّره، ويعني الرّجل الذّي لا يخاف المشي ليلًا، ويعني الخشبة التّي تُدقّ بها الحبوب، ويعني الحجر المسنّن الذي يُتوضّأ به، ويعني في المنام الرّجل الذّي يعمل ويشقى في إصلاح الأمور، فهو يعني في الواقع العيش والملح المشترك بالنّظر إلى أنّ معظم ما يأكله الناس يمرّ عبره.

اقرأ/ي أيضًا: العرس الجزائري.. طقوس تقاوم النسيان

من هنا، استعمل الجزائريّون تاريخيًّا دقّ المهراس لاستجلاب المطر، ولدفع البلاء، وللاحتجاج على الظّلم، ولتنبيه بعضهم من خطر قادم. وكلّها استعمالات تصبّ في البعد الرّوحي لهذه الآنية، التّي توصف شعبيًّا بأنّها مباركة.

ولأنّ ثورة التّحرير (1954 ـ 1962) كانت نابعةً من الأعماق الشّعبيّة؛ فقد استدعت تعابير شعبية للتّعبير عن المشاعر الشّعبيّة العامّة. من ذلك دقّ المهراس في مفاصل معيّنة، منها احتجاج السكّان على سلوك استعماريّ معيّن، أو تنبيه بعضهم إلى قدوم طائرة أو دوريّة عسكريّة أو رفضهم الجماعيّ لقرار معيّن أو نفيهم لكونهم متفرّقين.

بانطلاق الحراك الشّعبيّ والسّلميّ يوم 22 شبّاط/فيفري الفائت، عرفت المسيرات والمظاهرات المختلفة تعابير شعبيّة عامّة، غير أنّ كثيرًا منها لم يترك أثرًا وسرعان ما تمّ انسحابه من المشهد، مثل طقس الفوفوزيلّا، لأنّه غير متجذّر في المخيال الشّعبيّ العامّ، وقد أحدث تشويشًا عامًّا، إلى أن استدعى الحراك، الخميس، طقس دقّ المهراس.

كان ذلك في الجزائر العاصمة، بدعوة من بعض النّشطاء، تضامنًا مع سجناء الرّأي، حيث خرج الآلاف حاملين المهاريس وضاربين عليها، مع انخراط النّسوة في المسعى من خلال شرفات البيوت والعمارات، ممّا جعل الأصوات الصّادرة تغطّى على جميع الأصوات، وتُلفت الأسماع والأنظار وكاميرات الهواتف النّقالة.

يقول الطالب الجامعيّ أمير حميدي: "لقد كان مهرجانًا صاخبًا؛ لكنّه صخب في حكم الموسيقى، حين يستعمل الصّخب لأغراض جميلة يصبح هو أيضًا جميلًا". يضيف محدّث "ألترا جزائر": "لقد حافظت مسيرات الحراك على إصرار الخروج، لكنّ الحماس أثناء الهتاف قلّ في المسيرات الشّعبيّة، بالنّظر إلى أنّ المدّة طالت، وإلى الصّدمة الشّعبيّة العامّة من خرجات السّلطة القائمة، فجدّد الدّقّ على المهراس الحماس الشّعبيّ داخل المسيرات، ومنحه حرارة خاصّة".

كما يُمكننا أن نقرأ عدّة رسائل أخرى، يقول أمير حميدي، منها أنّ شباب الحراك باستعمالهم لطقس دقّ المهراس يؤكّدون على البعد السّلميّ لمسعاهم، فهم لم يلجأوا إلى القذف بالحجارة مثلًا، وأنّهم يشتركون في ذاكرة واحدة وهدف واحد، وأنهم لا يؤمنون بالفوارق بينهم، ذلك أن الصّوت الصادر واحد.

من جهته، يقول المدوّن والنّاشط في الحراك الشّعبي عمر دريوش لـ"الترا جزائر": "إنّ شباب الحراك باستدعائهم لطقس احتجاجيّ من زمن الثّورة التحريريّة إنّما أرادوا القول إنّهم هم من يمثّلون عمق هذه الثورة لا السلطة الحاكمة، التّي راحت تتشبّه بالسّلطة الاستعماريّة في اعتقال وجوه الثورة الجديدة".

ويُضيف عمر دريوش: "إنّ دقّ المهراس والتزمير والزّغاريد في المسيرة الخامسة والثلاثين، علامة أخرى على تهيّؤ الجزائريّين للتّظاهر من جديد، تمامًا مثل تجنّد المواطنين مع الطلبة. إنّها بوادر تصعيد ترعب النّظام ونخبته. ثورة فريدة من نوعها لا يوجد لها شبيه وستصنع ثورة التاريخ وسيخسأ المطبّلون كالعادة".

لم تكد مسيرة الجزائر العاصمة تنفضّ حتّى كانت صورها والفيديوهات الصّادرة عنها قد غزت موقع التّواصل الاجتماعيّ فيسبوك. وراحت التّفاعلات مع الطّقس الجديد تظهر بين مبارك لها وساخر منها، بحسب موقفه من الحراك والسّلطة القائمة.

كتب الممثل يوسف سحيري أنّ مفعول المهراس أقوى من مفعول مواقع التّواصل الاجتماعيّ، "صوت المهراس الذّي دوّى في سماء الجزائر أثبت أنّ الشّعب متّحد وواعٍ. المهراس أقوى من المنجل، لأنّه لا يقطع بل يهرس ويطحن".

وبنبرة ساخرة كتب الطالب الجامعيّ والنّاشط محمّد خليفة: "سيعلن القايد صالح حالة طوارئ بحجة استعمال الجزائريّين للمهاريس بصفتها أسلحة بيضاء، فالذي سجن النّاس من أجل راية يمكن أن يفعلها".

في السّياق السّاخر نفسه كتبت الكاتبة هدى هند عمّاري: "قال لي: لا تتحدّثي في السّياسة، فقلت له: اشتر لي مهراسًا". بينما رأى مخرج الأفلام القصيرة عصام تعشيت في الأمر خطوة غير مبدعة، فكتب: "سنحرّر الوطن بالمهراس. وإن لم تنجح الفكرة انتقلنا إلى خطّة المقلاة. لا أفكار تطفو يا وطني للأسف".

يبدو أنّ الحراك الشّعبيّ لا يكفّ عن ابتكار طقوس جديدة لإثبات وجوده، والتّعامل مع مستجدّات الوضع

يبدو أنّ الحراك الشّعبيّ لا يكفّ عن ابتكار طقوس جديدة لإثبات وجوده، والتّعامل مع مستجدّات الوضع، وهو ما يضع السّلطة القائمة في حرج دائم، خاصّة مع جملة التناقضات والارتباكات، التّي أبانت عنها خطاباتها وتحرّكاتها وخياراتها، منها خيار الانتخابات الرّئاسيّة، التّي لم يترشّح لها إلّا الأسماء المنحدرة من الزّمن البوتفليقيّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

طقوس ما بعد الزفاف في الجزائر.. عادات متجذرة ومصاريف باهظة

"بوسعادة" الجزائرية.. كرم حار جدًا