16-أكتوبر-2024
صناعة السيارات

مصنع "فيات" لتركيب السيارات بوهران (الصورة: فيسبوك)

تُراهن الحكومة على تطوير قطاع الصناعة لرفع مساهمته في الدخل الوطني وفي الصادرات خارج المحروقات، وذلك بالتعويل على شركات المناولة المحلية لتحقق نسب عالية في الإدماج الصناعي المحلي من خلال توفير الخدمات والسلع اللازمة للشركات الكبرى سواء المحلية أو الأجنبية التي تستثمر في قطاعات اقتصادية إستراتيجية.

أستاذ اقتصاد لـ"الترا جزائر": من الضروري فرض إشراك مؤسسات المناولة الجزائرية في نشاطات الاستثمار الأجنبي ضمانًا لسوق واسعة وتوظيف اليد العاملة الجزائرية 

وتضع هذه الغاية الحكومية الناشطين في مجال المناولة في اختبار حقيقي يتعلق بمدى قدرتهم على تلبية الطلبات المحلية لوقف إهدار العملة الصعبة في مجالات يمكن تأمينها محليا باليد العاملة الجزائرية، فهل شركات المناولة الجزائرية قادرة على النجاح في هذا الامتحان الذي على أساسه يتحدد مسار التحول الصناعي في البلاد الذي تقول الحكومة إنها تسعى لتحقيقه بالسرعة القصوى بالنظر  للتحديات والرهانات التي تواجهها؟.

دعم رسمي

أصبح ملف إشراك مؤسسات المناولة الجزائرية في المشاريع الاستثمارية الكبرى وبالخصوص التي تنفذها شركات أجنبية معروفة عالميا من المحاور الأساسية التي تسعى الحكومة لتحقيقها، وجعلها واقعا ميدانيا، فقبل أيام عقد وزير الصناعة والإنتاج الصيدلاني علي عون لقاء مع رئيس كنفيدرالية الصناعيين والمنتجين الجزائريين عبد الوهاب زياني يندرج في "إطار تطوير الإدماج المحلي والمناولة في مجال تصنيع المركبات، حيث أبرمت الكونفدرالية اتفاقية إطار مع الجمعية الإفريقية لمصنعي السيارات من أجل مرافقة المصنعين لتحقيق نسبة إدماج وفق ما يقتضيه دفتر الشروط  الخاص بممارسة هذا النشاط.

وجدد وزير الصناعة دعوته لكل المتعاملين الاقتصاديين الراغبين في تطوير الاقتصاد الوطني، إلى التقرب من المصالح المختصة للوزارة بالتنسيق مع الكونفدرالية ، مؤكدا أن أبواب القطاع ستبقى دائما مفتوحة للحوار والنقاش.

وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة تبسة عثمان عثمانية لـ"الترا جزائر" أنه يقصد بـ"المناولة عملية تعاقد شركة ما مع طرف آخر خارجها ليقدم لها خدمات أو منتجات، كان يمكن أن يتم إنتاجها من قبل الشركة نفسها. وتلجأ الشركات لذلك بشكل أساسي من أجل تخفيض التكاليف، فبدل أن تسير خطوط إنتاج كثيرة، بما فيها من عمال وصيانة وغير ذلك، تكتفي ببعضها فقط، وتتعاقد من جهات أخرى للقيام بذلك. وقد استخدمت كإستراتيجية من قبل الشركات في تسعينيات القرن الماضي، عندما استخدمت الشركات متعددة الجنسيات أطرافا أخرى في وظائف التصنيع واللوجستيات".

ولفت عثمانية أنه "تظهر عدة صناعات اليوم، تستوجب اللجوء إلى المناولة، نتيجة لعدد الأجزاء التي تدخل فيها، والتي تصبح مكلفة جدا، وتأخذ وقتا أطول أيضا، في حال إنتاجها من قبل الشركة بنفسها. مثل صناعة السيارات، فمن الصعب صناعة كل القطع من قبل شركة واحدة، فتوزع على العديد من شركات المناولة ربحا للوقت والتكلفة، وهذا من شأنه كذلك أن يترك الشركة تركز بشكل أفضل على الجوانب الأهم في العملية الإنتاجية".

ولا يعدُّ تصريح وزير الصناعة الأول من نوعه، فقد سبق لعون أن شدد على ضرورة مشاركة مؤسسات المناولة المحلية في تنفيذ المشاريع الكبرى الذي تنظمها البلاد، ففي نيسان أبريل الماضي أشار إلى أهمية خلق شبكة للمناولة في مجال صناعة السيارات تستجيب للمعايير الدولية.

وبيّن عون وقتها أن هذا المسعى يهدف إلى ضمان إطلاق صناعة السيارات ترتكز على الإدماج المحلي من خلال إنشاء شبكة للمناولة تستجيب للمعايير الدولية فيما يخص الجودة والسلامة.

وأبرز عون أن دائرته الوزارية تطمح إلى "بناء شراكات رابحة في مختلف مجالات المناولة سواء محليا أو في مشاريع مشتركة لتلبية الطلب الوطني أو للتصدير".

وأشار إلى أن "هذا المسعى يهدف أيضا إلى إنشاء قاعدة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة المناولة من أجل ضمان الإدماج المحلي من خلال تثمين المواد الأولية وتحفيز التقدم التكنولوجي والعلمي والابتكار".

ونقلت  وكالة الأنباء الجزائرية عن رئيس البورصة الجزائرية للمناولة والشراكة كمال أقسوس قوله شهر أيلول/سبتمبر الماضي إنه "بالرغم من جميع التحديات التي لا تزال تواجهها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المتخصصة في مجال المناولة، فإنّ هناك مئتي مؤسسة قادرة على خدمة قطاع صناعة السيارات، بينها حوالي مئة مؤسسة جاهزة عمليا بمجرد دخول قطاع صناعة السيارات مرحلة الإنتاج الفعلي".

واقع

وحسب أقسوس، فباستثناء المحرك، فإن مؤسسات المناولة الجزائرية قادرة على تزويد المصانع بجميع مكونات السيارة (حوالي 3 آلاف مكوّن) خلال فترة تتراوح ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، شريطة توفر الظروف اللازمة لذلك.

لكن هذا الواقع لا ينطبق على جميع القطاعات الاقتصادية، حيث يوضح الدكتور عثمانية أنه في الجزائر ما تزال " مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الخام بالجزائر لا تتعدى 8%، وهذا فيما يخص التصنيع، وهذه نسبة ضعيفة جدا، كما أن عدة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي غالبا ما توكل لها مهمة المناولة عددها صغير وغير كافٍ لتنشيط القطاع".

وتابع أستاذ الاقتصاد بجامعة تبسة قائلًا: "تشير تصريحات المسؤولين في قطاع الصناعة إلى أن هناك ما يقارب 1500 شركة مناولة في القطاع الصناعي بالجزائر، وهذا العدد صغير جدًا إذا أردنا تكثيف النسيج الصناعي في البلاد. وهو ما تعكسه مشاركة أكثر من 100 عارض في الصالون الوطني للمناولة الصناعية والإدماج المنظم مؤخرا، حيث يتبين أن ما يقارب 40 منهم ينتمون إلى القطاع العمومي".

ولفت الدكتور عثمانية إلى أنه "قد صاحب الرغبة في تطوير قطاع المناولة في الجزائر العديد من الإصلاحات التشريعية خلال السنوات الماضية، من أبرزها القانون 17-02 ـ10 لسنة 2018 الذي سدّ العديد من الثغرات في القانون السابق وشجع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في دخول مجال المناولة، وأيضا المرسوم التنفيذي رقم 516-21 لسنة 2021 الذي تضمن تنظيم الإدارة المركزية لوزارة الصناعة من خلال مديرية تطوير الإدماج والمناولة الصناعية، وهذا يعكس توجه السلطات لتطوير هذا القطاع".

وأشار عثمانية إلى أن أهم المجالات التي تشتغل فيها شركات المناولة في الجزائر هي الميكانيك والمعادن، والكيمياء والصيدلة، والحديد والتعدين، والبلاستيك والقماش والجلود، موضحا أن مجال الميكانيك والمعادن  يظل الأهم من حيث كثافة شركات المناولة.

ويطرح المستثمرون وبالخصوص الأجانب في كل مرة مدى قدرة شركات المناولة في الجزائر على توفير سلع وخدمات ذات جودة تتماشى مع المعايير المطلوبة، وهو المشكل الذي يواجه شركات عمومية وخاصة محلية أيضا التي تستنجد بمؤسسات أجنبية لتلبية حاجاتها الانتاجية، وحتى بشأن خدمات تبدو ظاهريا سهلة.

ولاحظ الدكتور عثمان عثمانية أن "هناك تطور كبير في أداء شركات المناولة الجزائرية، فبينها من تمتلك الخبرة والكفاءة التي تجعلها قادرة على المنافسة محليًا وحتى دوليًا، خاصة وأن لها ميزة نسبية في تكاليف الإنتاج داخليًا، لتوفر الموارد وانخفاض أسعار الطاقة وأجور وتكلفة العمالة مقارنة بالأسواق الأخرى، ولكن في الوقت نفسه العدد غير كافٍ من جانب، ومجالات نشاط تلك الشركات محدود".

منطلق

يشدد الرئيس عبد المجيد تبون في كل لقاءاته مع الحكومة على ضرورة استعمال المنتوج الوطني في كل الصناعات الجزائرية، في حال توفره وعدم اللجوء إلى الاستيراد، وهو ما طبق في مجال السكن والبناء، وفي جوانب عديدة من الصناعات الكهرومنزلية، وذلك بالنظر إلى أن الكثير من الاقتصاديين يرون في أن تنشيط شركات المناولة هي الخطوة الأولى لتطوير قطاع الصناعة، خاصة وأن التجارب العالمية في هذا المجال كثيرة، مثل إيطاليا التي بني اقتصادها على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتركيا التي اعتمدت على شركات المناولة لتطوير قطاعها الإنتاجي والتصديري.

وقال أستاذ الاقتصاد بجامعة تبسة عثمان عثمانية لـ"الترا جزائر" إنه "على الرغم من وجود العديد من التجارب الناجحة اليوم إلى جانب التجربة التركية، وقد تكون أكثر بروزًا منها مثل تجربة الفييتنام والمكسيك، إلا أني أعتقد أن التجربة التركية مثال يحتذى به بالنسبة للجزائر في جوانب كثيرة، خاصة وأننا نعيش اليوم تغيرات اقتصادية وجيوسياسية ستؤدي في النهاية إلى تغيير كبير في سلاسل الإمداد على المستوى الدولي، وموقع الجزائر بالقرب من الأسواق الأوروبية والإفريقية، يعد ميزة هامة للجزائر. لكن، بالتوازي مع ذلك يجب وضع إستراتيجية وطنية لتطوير القطاع الصناعي وتنشيطه، بالشكل الذي يجعل خلق قطاع مناولة أمر ضروري وقادر على تقديم القيمة".

ويطالب رئيس البورصة الجزائرية للمناولة والشراكة كمال أقسوس بضرورة تعزيز الإجراءات التحفيزية والإعفاءات الجمركية والضريبية لفائدة المنتجين المحليين للمساعدة في بروز مؤسسات يمكنها تلبية احتياجات كبار مقدمي الطلبات الوطنيين.

ويدعو أقسوس إلى تأهيل المناولين للتوصل إلى معايير الصناعة الدولية، مما سيسمح لهم باغتنام فرص السوق الوطنية المتميزة بصناعة نامية في عديد القطاعات الهامة، مثل الصناعات الميكانيكية والكهرباء والأشغال العمومية والمحروقات والمناجم والصناعة الصيدلانية.

ويركز الدكتور عثمان عثمانية على ضرورة الاستفادة من الشركات الأجنبية النشطة في الجزائر، مبينًا أن "الاستثمار الأجنبي المباشر  يمتاز بالعديد من الإيجابيات، أبرزها نقله للتكنولوجيا والخبرات الأجنبية في المجالات التي يصعب فيها تحقيق ذلك بالاعتماد على السوق المحلية، وهنا يجب التركيز على المجالات التي تخلق القيمة، خاصة في القطاع الصناعي والفلاحي، لتعزيز النمو والدخل خارج المحروقات".

وأضاف عثمانية أنه "من الضروري في هذا السياق، أن يتم فرض إشراك مؤسسات المناولة الجزائرية في نشاطات الاستثمار الأجنبي، وهذا له عدة إيجابيات، فهو يضمن سوقًا واسعة لشركات المناولة الجزائرية، ما يزيد من توسيع نشاطها وتوظيفها لليد العاملة الجزائرية والعديد من المزايا الأخرى المباشرة وغير المباشرة. كما يشجع على إنشاء مؤسسات مناولة جديدة لتغطية الطلب، وخوض التجربة في مجالات نشاط جديدة كليا، وهذا كله يؤدي في الأخير إلى تعزيز النسيج الصناعي الوطني".

وحسب أستاذ الاقتصاد بجامعة بتبسة، فإن أهمية تطوير أداء شركات المناولة الجزائرية تظهر أيضًا عبر مساهمتها في الحفاظ على العملة الأجنبية بالسوق الوطنية، بتخفيض فاتورة الواردات الصناعية بشكل كبير، وهو ما يتطلب حرصا من الحكومة على ضرورة التزام مختلف الاستثمارات بالاعتماد على شركات المناولة المحلية في حال قدرتها على تقديم السلع والخدمات المطلوبة.