30-نوفمبر-2022

وزارة التربية باشرت عدة لقاءات مع نقابات الأساتذة (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

صوتها يتجاوز أسوار المدرسة، ويسمعها سكان العمارة المجاورة، إنها الأستاذة التي كثيرًا ما يسمع سكان بحي  صالومبي بالعاصمة الجزائرية رد فعلها على خطأ يقوم به تلميذ أو حتى حين تشرح درسًا، لكن في المقابل فإن التدريس مهنة متعبة وتدخل الكثيرين خانة انفلات الأعصاب.

أزيد من 40 ألف أستاذ يرغبون في الحصول على التقاعد قبل انتهاء السن القانوني 

هي إحدى الصور الموجودة في عديد المدارس الجزائرية، إذ أصبح تلقين الدروس لا يمكن أن يمر عبر الهدوء خصوصًا أمام أقسام مكتظة عن آخرها، وأمام وضع جديد لجيل الفضاء الافتراضي.  

مهنة غالية

وراء كل طبيب ومحامٍ وصيدلي وصحافي وفنان ورياضي وحرفي وغيرهم بالآلاف والملايين، وراءهم ذلك المعلم الذي عاش معهم سنوات طويلة، ترسخها الأيام والدروس والامتحانات والفشل والنجاح والشهادات العليا، لكن في المقابل فإن المعلم-الأستاذ الجزائري يئن في صمت، فأغلبهم يشتكون من أمراض يكتسبونها مع مرور الأيام والتلاميذ والأقسام والمدارس والأعوام خصوصًا لمن أكملوا المسيرة بـ 32 سنة عمل ووراءها تقاعد ولكن.

أغلبهم يتحدثون عن الأمراض، العصبية وضغط الدم والربو وآلام المفاصل الحاد والغدة الدرقية فضلًا عن الأمراض العصبية والعقلية. أساتذة في زوبعة التعليم كمهنة مضنية رغم حلاوتها في تربية الأجيال ومسارها عبر السنوات، لكن بعضهم يبحثون عن وثيقة الحصول على تقاعد مسبق، بعدما طفح الكيل أو بالأحرى صار التعليم لا يواكب طموحاتهم وأثقل أجسادهم بأمراض متعددة.

وفي تعقب مهنة من أصعبها ممارسة وأكثرها تعقيدًا في العلاقات بين الأستاذ-المعلم والتلميذ والإدارة والعمال والعائلات، تخفي وراءها الكثير من الصعوبات التي لا يمكن الكشف عنها في العلن إلا مع مرور الوقت.. قصص كثيرة لأساتذة رغم حبهم للمهنة إلا أنهم يفضلون منحها الكثير من الاحترام لأنها "غالية" كما يصفها أستاذ العلوم الطبيعية بثانوية ديدوش مراد بولاية ميلة شرق الجزائر الحاسن قرفي، في حديثه لـ" الترا جزائر"، معبرًا عن حبه للمهنة لكن الثمن باهظ يدفعه المعلمون مع مرور الزمن، على حد قوله.

من القسم إلى القسم

الشيخ الحاسن، هكذا يناديه تلامذته حتى وهم الآن أطباء وأساتذة ومحامين وكبروا ولكنهم لم يكبروا عليه أبداً؛ إذ يقول هنا، نعم لقد كبروا في السنّ وشقوا طريقهم ولكنه لازالوا ينادوني بـالشيخ و"يطأطئون رؤوسهم كلما التقوا بي في دروب الحياة اليوميةـ أو بالصدفة".

بات الشيخ اليوم مصابًا بأمراض مزمنة منها الربو وضغط الدم وأيضًا الإعياء الشديد الدائم، فـثلاثين سنة مهنة أنسته الاهتمام بصحته، في السابق كان حب المهنة يجعله يعطي من وقته ويجتهد أكثر في التعليم، ولكن الوقوف لساعات في اليوم الواحد طوال الأسبوع وتقديم الدروس في أقسام يتجاوز عدد التلاميذ فيها عن 35 تلميذًا، أمر ليس بالهيّن، هذا كله "في غياب عمليات الاسترجاع الذهني والبدني في نهاية كل أسبوع"، على حدّ تعبيره.  

سألنا الأستاذ الحاسن عن الاسترجاع الذي يقصده، ابتسم وقال:"العملية في أبسط صورها تعني الاهتمام بالحالة النفسية والذهنية للمعلم والأستاذ على حدّ سواء يتمثل أساسا في إعطاءهم فسحة لمدة يومين كل نهاية شهر، كرحلة جماعية لمنطقة ريفية أو إلى منطقة سياحية، حمامات معدنية، ممارسة رياضة وغذاء جماعي لفائدة الأساتذة وعائلاتهم، لإخراجهم من ضغط العمل، وتحضيرهم للمهمات القادمة، وغيرها من الأفكار التي ترمي إلى تحسين آداء السلك التعليمي عمومًا.

وأضاف قائلًا: "كيف لمعلم في مدرسة ابتدائية يدرّس أطفالًا صغارًا أن يتحكم في أعصابه وأن يقدم اللاّزم لتربية نشء لمدة ست سنوات متواصلة؟"، إضافة إلى أن تكون حياته مرهونة بين قسم وقسم، ومن الواجب عليه أن يركز ويواصل في هذا النهج وهذا الدرب.

خطر بالساعات

مشكلات كبرى يعيشها الأساتذة، تكشفها أرقام غير رسمية تفيد برغبة أزيد من 40 ألف أستاذ في الحصول على التقاعد، وذلك حتّى قبل السن القانوني لإنهاء مدة التدريس، خاصة وأن كثيرين منهم يشتكون علاوة على الأمراض العضوية من أمراض نفسية وعقلية.

بعملية حسابية أخرى، فحجم التدريس يصل إلى 35 ساعة أسبوعيا، فإن مخاطرها على صحة المعلمين كارثية، إذ تعتبر أستاذة اللغة العربية كريمة بوناب من متوسطة " الأخوة عريمة" في ولاية سكيكدة شرق الجزائر أن كل ساعة تدريس تقابلها في البيت ساعة ونصف وربما أكثر من التحضيرات لليوم الموالي أو الدروس الجديدة، لافتة إلى أن الأستاذ الجزائري في مختلف الأطوار الدراسية الثلاثة، يقدم دروسه على مدار ما بين  18 ساعة إلى 30 ساعة عمل أسبوعيا داخل المدارس.

وأضافت بوناب في تصريح لـ"الترا جزائر" قائلة إن الساعات الخاصة بعمل الأستاذة تفوق ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الساعات الخاصة بتحضير الدروس والبحث عن طرق مبتكرة وجديدة للتعليم، على حد تعبير.

ولفتت إلى أنه إذا افترضنا أن المدرّس مثلا يُقبِل على تدريس تلك الساعات أسبوعيا، تضاف إليها عدد الساعات من إعداد الدروس وإعداد الفروض وتصحيحها، إلى جانب المشاركة في مجالس الأقسام ومجالس التوجيه.

وتشير أيضًا إلى أهمية عدم إغفال مسألة مهمة جدا وهي متابعة أكثر من 40 تلميذًا في بعض الأقسام في حين أن المعدل القانوني والتربوي هو 25 تلميذًا، أي أن نوعية الدروس ستكون أقلّ فائدة إن كان التدريس لعدد أكبر من تلك الإحصائية القانونية.

تراكمات

جدول زمني إضافي يُفرض على بعض الأساتذة يعرف تحت مسمى "الساعات الإضافية" تتراوح ما بين ساعتين إلى أربع ساعات في الأسبوع، وهي ساعات لا يتناولها المعلمون طواعية، وهو ما يكلل بالتعب والإرهاق من الناحية الذهنية لدى الأساتذة عمومًا في مختلف الأطوار التعليمية.

بعيدًا عن الإرهاق اليومي والأسبوعي، فإن تلك التراكمات تجعل منه " إنسان آلي أو " روبوت في شكل مدرس" كما وصفها أستاذ الرياضيات عبد العالي مهني من ثانوية مقراني ببن عكنون بالعاصمة الجزائرية، لافتًا إلى أن العمل التدريسي يصنف ضمن المهمات الشاقة، لأنه يتعلق بالحالة الذهنية والنفسية للأستاذ، في مواجهة أو في مقابل تلاميذ وجب تغذيتهم بالعلم والمعرفة والتربية والتعليم.

وأضاف مهني (26 سنة مهنة في التدريس في مختلف المؤسسات التربوية في الجزائر)، أن كثيرين باتوا ينظرون لهذه المهنة على أنها تتجاوز حق المعلم، الأستاذ في أداء جيد في حال ما استمر في العمل لما فوق 15 سنة.

وفي هذا المنحى، يصر بعض الأساتذة في حديثهم لـ "الترا جزائر" من مختلف التخصصات إلى أن العمل بهذا الشكل الذي تشهده مختلف المؤسسات التربوية، يؤثر سلبا من ثلاثة جوانب على المدرس؛ أولها على حياته المهنية، بحيث يعتبر هذا الجهد الإضافي تمديدًا في سنوات العمل، خاصة في ظل اكتظاظ الأقسام في الوقت الذي بلغ فيه معدل التلاميذ في القسم 35 تلميذًا، ما يعني تقديمه لمجهود أقلّ في مقابل طلب أكبر ومكثف.

أما ثانيًا فيؤثّر على حالته النفسية والذهنية؛ إذ يجد المدرّس نفسه معرضا للإصابة بالعديد من الأمراض كالقلب، الشرايين، أمراض العظام والعمود الفقري، الحنجرة، الحساسية والأمراض الجلدية.

وهنا وجب الإشارة إلى أن نقابات التربية عموما سبق لها في العديد من المناسبات وأن طالبت بتطبيق المعايير العالمية على حصة الدرس التي أصبحت حاليا تحدد بـ 45 دقيقة مع التخفيض التدريجي في ساعات العمل بعد 15 سنة عمل كما هو مطبق في عدد من الدول.

بينما الجانب الثالث فهو يتعلق بجزء مهم من حياة الأستاذ ويتعلق بعلاقاته الأسرية والاجتماعية؛ إذ تتأثر سلبا بسبب كونه عبء ثقيل على أولاده سواء بإهمال واجباته اليومية أو بعصبيته الزائدة بسبب ما يعيشه يوميًا في قاعات الدروس، فضلًا عن الأمراض التي يجنيها من وراء مهنته.

وفي هذ الإطار، كشف الطبيب المختص في الأمراض العصبية حميد الكورد من مستشفى بني مسوس بالعاصمة الجزائرية، على أن العشرات من الأساتذة يواجهون أعراضًا تتسبب لهم في أمراض متصلة بالأعصاب والدماغ، مشيرًا في تصريح لـ" الترا جزائر" إلى أن البعض يرون أمراض الرأس والآلام المتكررة من شأنها أن تختفي بالمهدئات، ولكن مع مرور الزمن تتحول إلى أمراض مستعصية قد تفقد الأستاذ الكثير من قوته الذهنية والعقلية.  

ضرورة مراجعة المهنة

في هذا السياق، يعاني البعض من أمراض نفسية بسبب تداعيات التعليم، منها ما هو متعلق بأساليب دخيلة على المؤسسات التربوية، أبطالها تلاميذ؛ إذ هناك تهديدات تطال الأساتذة من طرف التلاميذ، يتعرضون على إثرها للشّتم والسبّ من تلاميذهم، فضلًا عن الظروف الاجتماعية التي تطال الأساتذة وخاصة النساء.

وشرحت الأستاذة (سعيدة. ز ) أنها بعد 23 سنة مهنة في التعليم لغة إنجليزية وجدت نفسها بين المستشفيات بسبب عملية جراحية على الغدة الدرقية إضافة إلى شلل نصفي أصاب الأطراف العلوية اليومية من جسدها.

يطالب أساتذة ومعلمون بضرورة تأهيل الأساتذة نفسيًا

بعيدًا عن ضرورة تقليص سنّ التقاعد بالنسبة لسلك التعليم في الجزائر إلى 25 سنة تدريس، فإن البعض يطالب أيضًا بضرورة تأهيل الأساتذة نفسيًا، وفتح المجال للمدرّس للاستفادة من تكوين لمدة سنة كاملة، سواءً داخل الوطن أو خارجه، وذلك بعد مرور 10 سنوات على الخدمة الفعلية بغية تقوية قدراته المعرفية وكذا للاستفادة من الراحة.