"تذكّروا أنكم ستكبرون كما كبرنا وذات يوم ستؤلمكم أصوات تتعالى تطالبِكم بالرّحيل"، هذه العبارة وجهها البروفيسور عبد الرزاق أمقران لمعشر الشباب من الطلبة الحاملين لشهادة الدكتوراه الذين كثّفوا تعليقاتهم "السلبية" تارة و" المتجاوزة" تارة أخرى تجاه الأساتذة بعد قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الجزائرية القاضي بالبدء في استقبال ملفات الأساتذة الذين وجب إحالتهم على التقاعد بعد بلوغهم العقد السّابع من العمر.
أثار قرار إحالة الأستاذة الجامعيين الذين بلغوا ين السبعين للتقاعد جدلًا وسط الجزائريين بين متحفّز للخطوة وبين معارض للفكرة جملة وتفصيلًا
أشعل قرار وزارة التعليم العالي، منصّات التواصل الاجتماعي، بين متحفّز للخطوة وبين معارض للفكرة جملة وتفصيلًا، خاصة وأن الوزارة أعلنت عن اتخاذ في تدابير وإجراءات وجب إنهاءها إداريًا قبل شهر أيلول/سبتمبر المقبل، أي قبل الدخول الجامعي لسنة 2022-2023.
البروفيسور أمقران المختص في علم الاجتماع من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة سطيف شرق الجزائر، تفاعل مع بعض التعليقات لدكاترة شباب من الحاصلين على شهادات عليا ولازالوا ينتظرون دورهم في التوظيف، في تدوينة بعنوان: "سأتقاعد عند سنّ الخامسة والستين وليس السبعين إن طال العمر"، قائلًا لهم: "لا تقلقوا اطمئنّوا. لن أعود لا بصيغة أستاذ مشارك ولا بصيغة أستاذ متعاقد.. فأنا لست من الذين يزاحمون الناس على الفتات، رغم أن "التقاعد حق مستحقّ أذود عنه".
دورة الحياة ولكن
لقد أثار القرار، ردود فعل متعدّدة ومختلِفة، وخاصّة من الأساتذة الكبار القريبين من عمق مشاكل قطاع التعليم العالي في الجزائر، وعاصروا جيل الستينات والسبعينيات فراح بعضهم إلى تشريح الواقع المتجلّي في " تخبّط" تشهده الجامعة الجزائرية، حسب ما طرحته أستاذة العلوم التقنية بجامعة باتنة فريدة بن عايشة ( 59 سنة) في حديثها لـ"الترا جزائر" لافتة إلى أن مشاكل التعليم العالي نخرت جسد الجامعة برمّتها ولا يمكن أن نحلّ مشكلة آنية ( تقاعد الأساتذة) بخلق معضلة أخرى"، وتقصد معضِلة الحصول على الكفاءات والخبرات والتكامل بين الأجيال.
وذهبت الأستاذة التي دخلت الجامعة منذ أكثر من أربعين سنة وبدأت التدريس وهي في سنّ الـ25 سنة، إلى القول إن أي قرار يتعلّق بالعامل الإداري محكوم بعوامل محددة لفئات الأساتذة في الجزائر، طبعا ذلك بعيدًا عن التصنيفات الإدارية والقانونية، إذ "هناك صنفان فقط من الأساتذة من حيث الإنتاج العِلمي".
وأوضحت في هذا الشّأن: "أننا نواجه صنف من أساتذة ناشطين في التدريس والتأطير والإنتاج البحثي والتواصل الدائم مع الباحثين الشباب، وبين أساتذة حاضرين جسديًا وغائبين فكريًا لا يؤدون أي نشاط إضافي عدا التدريس ووضع نقاط الطلبة".
وبالمحصّلة، ختمت الأستاذة بن عايشة بقولها: "التقاعد ليس هو المشكلة بل هناك دورة حياة نؤمِن بها بعد الستين أو السبعين، كلاهما سيان محكومة بالمقدرة الذهنية والجسدية والفكرية والبيئة العلمية، لكن السؤال الوجب طرحه هاهنا هل بإمكان الجامعة الجزائرية أن تنهض دون خبرات وزحزحة كفاءات من القطاع، وإحالة أصحاب أرصدة معرفية وعلمية على التقاعد؟"
كُلفة الخِبرة
بالأرقام، كشف المنسِّق الوطني لنقابة المجلس الوطني لأساتذة التعليم العالي عبد الحفيظ ميلاط أن القرار سيمسّ 1263 أستاذًا جامعيًا من بينهم 312 أستاذًا استشفائيًا جامعيًا تعدوا سنّ السبعين، وهي نسبة حسب ميلاط "لا تمسّ سوى 2 في المائة من مجموع الأساتذة الجامعيين المقدر عددهم 64 ألف أستاذ موزعين عبر المؤسّسات الجامعية".
رغم الأرقام البسيطة للأساتذة الذين فاقت أعمارهم العقد السابع مقارنة بالعدد الإجمالي للأساتذة، إلا أنّ عديد الأساتذة دافعوا عن العلم والمعرفة ثم التجربة فالخِبرة، متسائلين هل ترى الحكومة في المؤسّسة الجامعية "خلية وظائف إدارية وليست وظائف علمية؟".
من جهتهت، رافعت الأستاذة حكيمة بن يعلى من جامعة وهران للعلوم والتكنولوجيا عن وظائفية الجامعة وقيمتها المضافة، مؤكّدة على أن الجامعة مساحة مؤطرة ومختلفة تماما عن المؤسّسات الإدارية على اختلاف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، موضحة أنه لا يجب التعامل معها وكأنها "بلدية".
كما ترفض محدّثة "الترا جزائر" ما وصفته بــــ" العشوائية في تقدير مصير الجامعة الجزائرية ودونما التحدُّث عن كيفية التّعامل مع العشرات من الأساتذة من خيرة ما أنجب قطاع التعليم العالي، لافتة إلى تفصيل وجب أخذه بعين الاعتبار -حدّ قولها مفاده أن أغلب الأساتذة الذين وصلوا إلى هذا السنّ هو من أهمّ كفاءات القطاع ممن صرفت عليهم الدولة الجزائرية الملايين من الدولارات منذ سنوات السبعينات والثمانينات إلى التسعينات من خريجي الجامعات الأميركية والبريطانية والفرنسية ودول المشرق العربي.
وشددت أساتذة الهندسة على أن " تنفيذ هكذا قرار يتوجب أن يمرّ عبر آليات تعطي لهؤلاء قيمة وتعتبرهم قيمة مضافة".
تختم المتحدّثة أنه لا يجب أن تتوجّه وزارة التعليم العالي بإرساليات إدارية جامدة، خصوصًا وأن الأستاذ الجامعي الذي سيحال على التقاعد هو قيمة مضافة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر ، فهل بإمكان الجامعة أن تتخلى عن أزيد من 300 أستاذ في المستشفيات فما بالك في التخصصات الأخرى؟
إعادة النَّظر
"ردّ الوزارة، لن يغيّر من الأمر شيئًا" حسب عديد الأساتذة، ففي البداية كانت تعليمة تُجبر الأساتذة الذين بلغوا العقد السابع من الإحالة مباشرة على التقاعد، فقطع حبل الودّ بين الأساتذة والوزارة عبر تلك الإرسالية التي " تبلغهم بضرورة وضع ملفات التقاعد قبل شهر أيلول/سبتمبر المقبل"، ثم الرد عبر وسائل الإعلام بأن الوزارة ستدرس إمكانيات استغلال الأساتذة البالغين هذه السنّ في مجالات أخرى باستثمار كفاءاتهم في مراكز بحثية.
عطفًا على ذلك يرى الأستاذ فارس بلخيري من جامعة جيجل (موظف حديثًا في كلية العلوم الاقتصادية) أن هكذا قرار ينقُل فكرة مخيِّبة لآمال المعنيين ولكلّ الكادر البشري في الجامعات وخاصة الباحثين، حتى أولئك الذين لم يصلوا بعد إلى سنّ الأربعين، مواصلًا في حديثه لـ"الترا جزائر" أن الوزارة لا تعطي قيمة لهؤلاء خاصة منهم من صرفت لتكوينهم في الخارج قبل ستّ عقود من الزّمن.
وأضاف أن معنى الإرساليات السابقة خلال السنوات الماضية بخصوص تقاعد الأساتذة، والقرار الأخير، ثم ردّ وتعليق الوزير حول نقاشات تخص قرار التقاعد، له معنى واحد "التفريط في خبرات ودفنها وهي حيّة"، لافتا في هذا السياق إلى أنه وجب ترك الحرية لمن يريد أن يكمل المشوار أو لديه إمكانيات مواصلة المسير العلمي والبحثي، عن طريق الاحتكام إلى صيغ تعدّها الوزارة سابقًا وليس تصنع بها جدالًا في الإعلام أو في وسائط التواصل الاجتماعي.
في مقابل ذلك، لا يختلف كثيرون حول نصيب الدكاترة البطالين من التوظيف والحصول على منصب، وأن تجديد الوسط الجامعي بطاقات شابة من الضروري بمكان خصوصا بضرورة احتكاكاهم في الوسط التعليمي والبحثي من بوابة مناصب قارة، إذ كشف الأستاذ فريد عطوي من جامعة تيارت (أستاذ مؤقت) لـ "الترا جزائر" أن قرار الإحالة على التقاعد هو فرصة لامتصاص البطالين من حملة شهادات الدكتوراه والماجسيتر، مشددًا على أنّ الفرصة أتيحت للسابقين وهي مواتية الآن لعشرات البطالين من أصحاب الشهادات العليا مدافعا عن "ضرورة تفريغ الجامعة وترك الفرصة للشباب".
إلى هذا الحدّ، طرح عديد الأساتذة الجامعيين، نتائج القرار إذ سيفرغ الجامعة من الكفاءات مقابل توظيف أساتذة جدد، فهل تستطيع الكفاءات الجديدة ملء ذلك الفراغ؟
عدد من الأصوات الجامعية دعت إلى منح خيار للأستاذة الذيبن بلغوا سن التعقاعد بين الوظيفة والتفرغ للبحث العلمي وبين التخلي عن المنصب
بين عدد الأساتذة البالغين سنّ "التقاعد الوظيفي" وعدد الأساتذة الجامعيين في مختلف جامعات الجزائر، وبين عدد الدكاترة البطالين، فرق شاسع، غير أن من الحلول التي قدمتها عديد الأصوات الجامعية، أن تمنحهم حرية العمل والاختيار بين الوظيفة أو التفرّغ للبحث كمستشارين في مراكز بحثية وجامعات بدل مناصب دائمة.