05-يوليو-2024
الحاج محمد العنقى

(تركيب: الترا جزائر)

كثيرة هي الصور التي لازالت عالقة في أذهان الجزائريين بعد مرور 62 سنة من الزمن على استقلال البلاد في 5 تموز/ يوليو 1962، وكثيرة هي الصور التي خلدت تلك اللحظات ووثقتها، فيما حافظت بعض الأغاني على مكانتها على مر السنين وتستعيد ذكريات المجد والفخر لاستعمار ظل مغتصبا للأرض خلال 132 سنة.

حازت هذه الأغنیة الوطنیة على مكانة مرموقة خلال سنوات ما بعد الاستقلال على غرار الأغاني الثورية والوطنية التي رافقت الجزائريين قبل الثورة وبعده

"الحمد لله ما بْقاش الاستعمار في بلادنا"، أغنية نشأ عليها الكبار والصغار، وتغنى بها الفنانون منذ عقود من الزمن، يعيدها الصغار والكبار، الكهول والنساء والشيوخ في كل مناسبة وطنية، وكغيرها من الأغاني الشعبية الثّورية، لكنّها الأقرب إلى القلوب في عيدي التحرير والاستقلال على حد سواء، وتعبر عن إزاحة شوكة الاحتلال بعد ثورات شعبية ممتدة على مر العقود إلى غاية ثورة التحرير الوطني التي امتدت على سبع سنوات ونصف.

حازت هذه الأغنیة الوطنیة على مكانة مرموقة خلال سنوات ما بعد الاستقلال على غرار الأغاني الثورية والوطنية التي رافقت الجزائريين قبل الثورة وبعدها، إذ كانت أغنية" ما بقاش استعمار" للفنان "الحاج محمد العنقى"، في الموعد أثناء فرحة الاستقلال والنصر المجید، فقام الشعراء والمغنيين بالتعبير عن تلك الفرحة العارمة بالحرية، وتقول الأغنية:

"نبدا بسم الله نور القلوب أساس إيماننا

والصلاة على الهادي شفيعنا سيد بن عدنان

الله أكبر، سلاح المجاهدين اسيادنا

تنصر جيش التحرير على العدا من فضل الرحمان

اللي استشهد مرحوم واللي عاش يبقى في أمان

رحم الله الشهداء مسبّلين من أجل وطننا

أكرمهم يا ربي بالقصور في جنة رضوان

أوضع الرحمة في القلوب يترباو ولادنا

والمسلم معروف بالعفو جاء في القرآن

الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا

تكسر سيف الظلم في الحروب هلكوه الشجعان

ضحات الرجال في الغيوب، الصحراء وجبالنا

تحيا الجزائر حرة ويحياو الشبان

جزائر عربية أخضر وابيض معروف علامنا

عليها نجمة وهلال منورة رفدوه الشجعان

الأمازيغية والإسلام نور اعتقادنا

احفظها يا ربي وصونها من كيد الطغيان"

أدّاها عميد الأغنية الشعبية الجزائرية " الحاج محمد العنقى"، الذي وُلد في العام 1907 بحي "القصبة" بالجزائر العاصمة لعائلة تنحدر من منطقة " تيزي وزو" وسط البلاد، واسمه الحقيقي "محمد إيدير آيت أوعراب"، كما يؤكد الباحث في التراث الجزائري عبد الكريم مدني، لـ" الترا جزائر" موضحا أن معلم العنقى وهو الشيخ مصطفى النّاظور، كان أحد أقطاب "الأغنية الحضرية" الآتية من التراث الموسيقي الأندلسي، وهو من أطلق عليه الاسم الفني " العُنقى"الذي عاش به طول حياته.

رغم مرور ستة عقود من الزمن، إلا أن أغنيته وغيرها من الأغاني التي تحتفل بالنصر، مازالت محفورة في أذهان الجزائريين حتى بعد وفاته في 1978، ومازالت تحظى ليومنا هذا باهتمام رسمي وشعبي، وتم إعادة تأديتها من قِبل مجموعة من الفنانين، وتخليدها في العديد من المناسبات أيضا.

النشأة الأولى

كلمات الأغنية انتقلت شفاهيا في ولادتها الأولى، يضيف مدني، إذ تقول الأبحاث -حسب قوله- إلى أنها رأت النور قبل أشهر من الاستقلال، أي في منذ آذار/ مارس 1962. إذ طُلب من عميد الفنانين الجزائريين "محمد العنقى" بتأليف وتأدية عمل فني للاحتفاء بالاستقلال، وهو ما حصل فعلا، إذ ألّف هذه الأغنية وأداها أول مرة في الثالث من تموز/ يوليو 1962، في قاعة صغيرة في حيّ "القصبة" التاريخي بالعاصمة الجزائرية.  

الأغنية رأت النور قبل أشهر من الاستقلال، أي في منذ آذار/ مارس 1962. إذ طُلب من عميد الفنانين الجزائريين "محمد العنقى" بتأليف وتأدية عمل فني للاحتفاء بالاستقلال

مصيرها كان أكبر، فبعد استقلال الجزائر توسّع جمهور الأغنية آنذاك وانتقلت من القاعة الصغيرة إلى قاعة "الأطلس" في احتفالية رسمية هي الأولى من نوعها، عشية عيد الثورة التحريرية المجيدة في الفاتح تشرين الثاني/ نوفمبر 1962، بحضور الرئيس الجزائري آنذاك أحمد بن بلة وعدة شخصيات من بينهم الثوري الكوبي (أرنيستو تشي غيفارا).

وفي إفادته يشير مدني إلى أنه تم تسجيل الأغنية في ألبوم غنائي في الإذاعة الوطنية الجزائرية في عام 1963، لتكون بذلك لاحقا أيقونة الأغاني الوطنية في الإذاعة.

سافرت من مكان إلى آخر، لأنها كانت تعتمد على الشعر الملحون الذي مهّد لها لتحوز على مكان في الفضاء الغنائي الشعبي وطريقا نحو الانتشار والتطور شيئا فشيئا.

ووفقا للباحث في التراث الشعبي الجزائري محمد سلماني فإن أغلب القصائد الملحونة وُظِّفت كأغاني "یعبّر بها المغني عن أصالته وارتباطه الوثیق ببيئته ومجتمعه".

وأضاف في تصريح لـ" الترا جزائر" بأن أغلب الأغاني الشعبية تتميز بأشكالها المتعددة في إطار المجتمع الواحد، فيما يساعدها اللحن في إزالة الحواجز لانتشارها.

ثورة الفن

تشع الخزانة الفنية الجزائرية بالعديد من الطبوع الغنائية التي تمجد الثورة التحريرية وعيد الاستقلال، بغض النظر عن الكلمات، من التراث " البدوي" و" النايلي" و" الشاوي" وغيرهم، إلا أن هذه الأغنية جابت أقطار البلاد وحتى خارجها، باعتبارها تتسم أولا بالمرونة والتي تساعدها على أن تظل محفورة في ذاكرة الناس، ويتم تناقلها شفاهيا، كما أدخل عليها الفنانون لمساتهم من حيث الآلات الموسيقية المستعملة، دون المساس بكلماتها ولحنها، وهذا بغية استمرارها ومواكبة التطور الموسيقي الذي طغي على الأنماط الجديدة في التعبير والغناء والفن والحياة برمتها.

بين الماضي والحاضر

كغيرها من عشرات الأغاني الشعبية التي تصور الوجدان الجزائري بمواضيع متعددة تتراوح بين الفرح والسعادة والحزن أيضا، إلا أنها تغلغلت في أوساط الجيل الجديد؛ ممن لم يذق ويلات الاستعمار الغاشم ولم يعرف الحرب التحريرية، ولكن في المقابل من ذلك يستمتع اليوم بالحرية بفضل مليون ونصف المليون شهيد، وأكثر من خمسة ملايين ممن دفعوا ثمن الاستعمار منذ 1832.

الباحث في التراث الجزائري عبد الكريم مدني، لـ" الترا جزائر": أغلب الأغاني الشعبية تتميز بأشكالها المتعددة في إطار المجتمع الواحد، فيما يساعدها اللحن في إزالة الحواجز لانتشارها

لم يتوقف مصير الأغنية في الطابع الشعبي فقط، بل أعطى جيل الاستقلال نفسا جديدا للأغنية أداها من جديد جيل الشباب بفسحة المعاصرة بعد نصف قرن من استقلال البلاد، عن طريق توزيع موسيقي جديد ومشاهد مصورة من تأدية مجموعة من الفنانين الجزائريين ومن إخراج جعفر قاسم.

ليومنا هذا، وفي مثل تاريخ عيد الاستقلال وفي عيد الثورة التحريرية من كل سنة، تتوقف عقارب الساعة كل سنة، لتعيد المشهد إلى تلك التحديات التي واجهها الجزائريون خلال إعلان الثورة، والدفع بالمستعمر إلى الاستسلام، لتبقى هذه الأغنية وغيرها كُثر، من بين الأغاني التي تحكي الثورة والحرية في آن واحد، وتربط الأجيال بالماضي وكيف كسر الثوار الظلم ونال الشعب حقه، ولو كتب عنها الجزائريون "لعمَّروا ألف كتاب وكتاب" كما يقول المغني "العنقى".