مازال الشاب حسني يغنّي حتى الآن. بعد ثلاثين عامًا، مازال يجلس في المقاهي بعمر السادسة والعشرين، شابًا بشاربين خفيفين ووجه ممتلئ وطلّة مطالعة لجيل التسعينات، ما زال يركب الباصات وسيارات الأجرة ويسافر في حقائب المهاجرين وألبومات صورهم كما كان يفعل قبل ثلاثة عقود.
إن الشاب حسني يشبه ما قاله الفيلسوف إيمانويل كانط "ليس هناك حدّ لحياتي، إنني خالد"
يطالعنا حسني بصوته الساحر، بنبرته الرايوية التي يسحبها مباشرة من الوريد الأبهر. كان يبدو أنه كان يغنّي بحبال قلبه لا بحباله الصوتية، مازال يطالعنا من بورتيرهاته المعلقة في قاعات الشاي وصالونات الحلاقة ودكاكين التبغ والحانات القديمة، ما زال حسني يتجوّل بيننا كأنه لم يغادرنا يومًا.
الشاب حسني، حين نُراجع صوره وفيديوهاته، نتحدث عنه خلسة كما لو أنه كان أكبر من سنّه بكثير. ملامحه كانت توحي بأنه شاب ثلاثيني أو أربعيني، مع أنه حين اغتيل لم يكن يتجاوز السادسة والعشرين من العمر.
لقد كان سابقًا لعصره في كل شيء، في ملامحه وفي أغانية وموسيقاه العصرية، والمواضيع التي غنّاها وألفها وفاتح بها وسطه الاجتماعي، فرغم قصر عمره إلا أن ما تركه الشاب حسني من ألبومات ووصلات خالدة، يحتاج إلى سنوات أطول من عمره بكثير، فكيف فعل ذلك بهذه السرعة المخيفة؟
حين كان الإرهاب يطلق الرصاص على رأس الكلمات في العشرية السوداء، أصابت رصاصتان رأس حسني؛ فهو كان الكلمة التي أحرجت الظلاميين في تلك الفترة
كأنه كان مدركًا لفكرة سرعة الزمن وفلسفلة الموت والخلود، كان يغني وكأنه كان على دراية بأنه سيغادرنا سريعًا، لقد عاش الشاب حسني بالسرعة القصوى، وخلّف في عمره القصير أكثر من 300 أغنية وباع ملايين النسخ، وكتب فصلًا كاملًا من تاريخ موسيقى الراي الجزائرية.
إن الشاب حسني يشبه ما قاله الفيلسوف إيمانويل كانط "ليس هناك حدّ لحياتي، إنني خالد"، وحتى ما يُسمّى بالموت عند كانط فهو "لا يمكن له أن يقطع عملي، لأنه يتعين عليّ أن أقوم بمهمتي"، فبعد ثلاثين عامًا من رحيل أسطورة الراي، لا زلنا نشعر بوجود هذا الفنان بيننا.
"هدرتوا فيا وقلتوا مات.. حرام عليكم يا عدياني"، لقد غنى حسني عن موته ورحيله، فهل كان لشاب مثله أن يدرك هذه الفكرة في أوج عطائه وشهرته وانتشاره في الجزائر؟ وهل بقي شيء لم يتطرق له حسني في أغانيه؟ نعم، لقد ردّ على ذلك بأنه الله كتب له عمرًا طويلًا، حيث قال: "عدويا راح بنالي قيطون وعرض الناس ذيك الليلة.. شدة في الله مول الكون، لي خلا لعمر طويلة".
لا يمكن مقارنة الشاب حسني ببعض المشاهير الذين ماتوا في مثل سنه تقريبًا في التاريخ العربي، فهل يصنع الموت الشهرة أم يقتلها؟ لا هذه ولا تلك مع حالة الشاب حسني، فهو لا يشبه طرفة بن العبد ولا أبو القاسم الشابي ولا الشاب عزيز الذي اغتالته الإرهابيون في الفترة نفسها تقريبًا عن عمر ناهز 28 سنة، ولا حتى الفنان الأميركي توباك شاكور الذي اغتيل بالطريقة نفسها وفي مثل سنه تقريبًا.
فالشاب حسني لم يكن له أعداءٌ ولم تكن له مشاكل مع أحد، لقد كان فنانًا مسالمًا غنّى في الحب والفقر والوجع والألم والغربة والحياة والموت والفقد والوحشة، لقد كان صديقًا لواقعه ومتصالحًا مع نفسه، وكان يسمعه البطال والمشرد والمثقف والهامشي والإطار والأمي والمتعلّم، لقد كان مزقًا من هذا المجتمع وجزءًا من ذاكرته وهو ابن الحي الشعبي قنبيطة بوهران، فعدوّه الوحيد كان الموت والنسيان، وقد انهزم في أولى سنوات رحيله.
حين كان الإرهاب يُطلق الرصاص على رأس الكلمات في العشرية السوداء، أصابت رصاصتان رأس حسني؛ فهو كان الكلمة التي أحرجت الظلاميين في تلك الفترة، وكان نغمة دافئة في بيت مهجور تحيط به غابة موحشة، لقد كان حسني ضمن قائمة من الأسماء التي نافست صوت الرصاص والقنابل لردح من الزمن.
لم يكن حسني إلا واحدًا من الفنانين الذين تحدوا التهديدات الإرهابية وآلة الموت في زمن العشرية السوداء
سكت الرصاص واختفت القنابل ومظاهر الموت والأشلاء. دفع كثيرون أرواحهم في تلك المرحلة، لم يكن حسني إلا واحدًا من عدد محدود من الفنانين الذين تحدوا التهديدات الإرهابية وآلة الموت، أمثال المتمرّد معتوب الوناس والشاب عزيز والفنانة الأمازيغية ليلى عمارة التي اغتيلت رميًا بالرصاص مع زوجها في ضواحي العاصمة العام 1997، ولكنه فنان تفرّد بحضوره وموسيقاه وصوته وترك لمسته على أغنية الراي الجزائرية.
كلّ من كتبوا عن حسني لم يصفوه جيّدًا، لم يستطيعوا بلوغ كنهه وموسيقاه وتحديثاته في فن الراي، حتى من قلّدوه لم يتمكّنوا من فهم قواعد اللعبة، فأغنية الراي لدى الشاب حسني صار لها بعدٌ آخر سماوي، فقد جاوز كل القوانين واستبق السنوات والكلاسيكيات التي كانت تدار بها أوتار الآلات، واستطاع أن يجمع بين النوتات الخافتة والكلمات الثائرة، بين الموسيقى الهادئة ونبرة الصوت الحادة، بين الحب والوجع معًا.
لقد "طال غيابك يا غزالي"، ولكن حسني لم يغب ولم يُطل الغياب أبدًا
لقد "طال غيابك يا غزالي"، ولكن حسني لم يغب ولم يُطل الغياب أبدًا، فهو حاضر في الغياب، وكأنه كان يراسلنا من عالمه الآخر لنهجر غربتنا ونعود إليه كلما طال غيابنا نحن، وهنا نحن نعود.