08-أكتوبر-2024
و

الأواني الفخارية في منطقة الأوراس (الصورة: الترا جزائر)

في بيت ريفي متواضع في قرية سيّار دائرة ششار جنوب خنشلة شرق الجزائر، يداوم السيد مراد محرزي وزوجته على مقاومة ظروف المعيشة القاسية بطريقة فنية بديعة، اعتمادا على مواد محلية من صلصال وتراب وخشب، ليقدما مشغولات فخارية تنم عن حسّ رفيع في صناعة الأواني التقليدية، وبإرادة خالصة هي الحفاظ على الذاكرة التراثية والعبور بها للأجيال الراهنة واللاحقة، لما تحتويه من مهارة في الصناعة وزخرفة لائقة بالرموز المكثفة التي تكتنزها.

وسط طواجين وقصع وصحون وفناجين وأباريق وصحف و"شوقالات"، وكل ما يمكن أن تتخيله من أوان منزلية، متقنه العجن والنحت، والملونة بالأصباغ الدافئة والحارة، يروي فاتح محرزي قصته مع الحرفة فيما تتقرفص زوجته إلى جانبه منهمكة في عجن الطين

تحمل المنتجات العصرية الوسم التعريفي لها، لكن منتجات هذه العائلة تفضل أن توشح كل مشغولاتها الفخارية ببصمة تراثية هي أوشام الأمهات والجدات ذات التاريخ العريق والرموز الدلالية العميقة.

الوشم على الطين

وسط طواجين وقصع وصحون وفناجين وأباريق وصحف و"شوقالات"، وكل ما يمكن أن تتخيله من أوان منزلية، متقنه العجن والنحت، والملونة بالأصباغ الدافئة والحارة، يروي فاتح محرزي قصته مع الحرفة فيما تتقرفص زوجته إلى جانبه منهمكة في عجن الطين، قائلا: " في واقع الحال لا اتقاضى غير منحة تأمين متواضعة من عملي السابق في مؤسسة سيرو أيست، حيث سقطت خلال عملي فأصبت بارتجاجات في عدة فقرات في الصدر والعنق ما أجبرني على التوقف عن العمل، لذا لم يكن أمامي غير الاستنجاد بذاكرتي التراثية، التي ألهمتني ممارسة هذه الحرفة بالاعتماد على موهبة زوجتي الفطرية التي ورثت هذه الجينة العائلية من والدتها و عجائز عائلتها، فقررنا أن نخوض هذه التجربة للتكفل بأطفالنا الأربعة و مجابهة متطلبات الحياة الكثيرة".

ر

وتضيف زوجته بنبرة خجولة: " توقفت عن الدراسة منذ عشرين عاما، ولم أتلق أي تكوين أساسي في صناعة الأواني الفخارية، أذكر أن نساء عائلتي كن يصنعن الطواجين لطهي الكسرة والقصع المعدة لتناول "الكسكس" و "الشخشوخة" و "العيش"، ومن خلال مشاهداتي البصرية وتلقني طرق الصناعة من جمع المادة الأولية وطحنها وعجنها وطهيها وزخرفتها بأوشام العجائز، تكونت لدي مهارة شخصية، لكني أضفت لها صناعة كافة الأواني المنزلية الأخرى المستعملة في المطبخ العصري، مثل الأطقم الكاملة المتكونة من الأباريق والسكريات والفناجين ".

الصلصال و التّفون

تنتشر بوادي بجّر الذي يخترق قرى تبردقة والزاوية والعامرة مرورا بتاغيت وصولا إلى سيّار، على مسافة تفوق الثلاثين كيلومترا، تضاريس عجيبة، جبال حمراء وصفراء مسننة القمم، وصخور عملاقة ذات ألوان غضرية وأرجوانية، وواحات نخيل تنتج تمورا وبساتين تدر تينا ورمانا، كما لو أنك أمام مشاهد ديكورية لأفلام الغرب الوسترن أو الخيال العلمي مثل "ماد ماكس"، بيد أن هذه الطبيعة الخيالية هي منجم طبيعي يوفر أيضا كل ما تحتاجه صناعة الأواني الفخارية من مواد خام، مثل التربة ودهن الصباغة، وحتى ريشة التلوين.

ت

يأمر رب الدار ابنه بإحضار الدقلة واللبن و القهوة من باب واجبات الكرم والضيافة وهو يتمتم " لابد أن تكون المائدة عامرة للضيوف"، ثم يخرج لهضبة مقابلة حاملا معه شكارة سرعان ما يعود بها عامرة بحجارة صلصالية يطرحها أمامي ليقول لـ "الترا جزائر": " كل ما تراه فوق البساط من أوان منشأها هذه الحجارة الصلبة، لا بد أن تكون من هذا النوع الصلصالي، لكننا نرنخه في الماء يوما وليلة حتى يصبح نديا، وهذه أول عملية"، ثم تتدخل زوجته لتشرح لنا المرحلة الثانية موضحة " عندما تتطرى تلك الحجارة نقوم بطحنها مع خليط آخر هو "التَّفُونْ"، و التفون هو مسحوق الأواني الفخارية المتكسرة مثل الطواجين و القصع والجرار وغيرها، حيث نقوم بطحنها حتى تصبح مسحوقا ونثارا دقيقا، وهذا يعني أن الأواني السابقة تكون أيضا مادة حيوية مسترجعة كي تكون مستعملة بطريقة تدويرية في أوان أخرى، تماما مثل البلاستيك المحول من القارورات القديمة. وهذا المزيج المخلوط ما بين الصلصال الطري والتفون هو العجينة الأولية التي سرعان ما تصير مادة متلدنة تشبه عجينة أطفال المدرسة.

شعر الماعز

يحضر الزوج قطع من كرناف النخيل التي تجهز لتكون حطبا للموقد التقليدي، فيما تقوم زوجته الهادئة في تشكيل العجينة بأناملها الرقيقة، لتنفذ رسمها التخيل فوق ذلك الطين المصطبغ بلون رمادي غامق مائل نحو السواد، وما هي غير دقائق حتى تبدأ في تدوير الشكل الخام النهائي قبل المضي في العرك وتليين الاستداريات مع التمليس، وفي ربع ساعة يكون النموذج ماثلا للعيان لكن بلا أصباغ، وهذا يعني أنه سيتحول للطهي في مدخنة تقليدية تستعر نارها من جذوع منتزعة من النخيل وتسمى " الأكرناف".

توضح زوجته أمرا دقيقا يسبق عملية الطهي فتضيف " قبل الطهي لا بد من عملية التجفيف الطبيعي بعرض المشكلات الطينية تحت أشعة الشمس، فضوؤها وحرارتها لازمة لما يمكن وصفه الطهي الطبيعي الذي يتقدم على الطهي الصناعي".

من

يستل مراد آنية مطهية أحرقتها الشمس ونار الفرن، ليتقدم بنا إلى المرحلة الأخيرة والتي تعنى بتزويق وتلوين المصنوعات الطينية، يقدمها لزوجته، قبل أن يتناول قطعة أخرى يبتغي تلوينها شارحا: " عملية التلوين تعتمد على شيئين هما حجرة التلوين وهي مادة أرجوانية مائلة للحمرة، وتسمى هذه الحجرة "أحذير نلوشام"، أي حجرة التوشيم حيث تخلط مع قليل من الماء لتصير صبغية سائلة، أما الريشة فتصنع من شعرات الماعز، حيث نقتطع بعضها ونثبته في "كعبوش لافث"، أي كرية الطين، ليصبح ريشة رسم تقليدية تنفذ فيها الرموز والأشكال فوق كافة المشغولات اليدوية".

اب

تنهمك زوجته في رسم أوشام قديمة تحت نظر ابنهما البالغ 15 عاما، الذي يراقب يتتبع كل صغيرة وكبيرة، فيقول الزوج منبها: " نسيت أن أخبرك بأن زوجتي تعلمت هذه الحرفة في منزلهما الواقع في جبل تفاسور، وقد تلقنت ذلك من أمها، علما أن نساء هذه القرية اشتهرن في السابق بهذه الحرفة المتوارثة من جيل إلى جيل، لكنها تراجعت في السنوات الأخيرة، تحت سيول العولمة والحياة العصرية الجارفة لكل شيء يقف في طريقها".

خبز وهوية

علاوة على وظيفة الاسترزاق وكسب لقمة العيش من الطين والحجر والتراب، حيث تشكل القطع المباعة مصدر دخل يساعد العائلة المتكونة من ستة أفراد، على مجابهة غلاء المعيشة الراهنة، حيث يعترف مراد مبتهجا: " مكنت مبيعات زوجتي في الفترة الماضية بالتكفل بمصاريف ومتطلبات أبنائنا دفعة واحدة، وهذا يعني أن التراث مصدر من مصادر خبزنا اليومي كما يقال" لكنه يقدم من جهة أخرى مبررات ثقافية تصنفه هو وزوجته في خانة ناقلي الذاكرة للأجيال القادمة، ومسعفي تراث يكاد يكون محتضرا في مناطق كانت قبل عقود متصالحة مع بيئتها و تراثها و صناعتها التقليدية التي خذلها غياب السياحة المتطورة الرئة الأساسية التي يتنفس بها قطاع غزته المنتجات الصينية و الأجنبية.

ت

 و لهذا السبب يقول: " خلف معركة القوت اليومية، هناك معركة مهمة بالنسبة لي و لزوجتي، هو الحفاظ على تراث الأجداد كي لا يضيع، و لهذا نحن على أتم الاستعداد لنقل مهارتنا هذه للنساء و الفتيات اللواتي يرغبن في الحفاظ على هذا الموروث الذي يحمل بصمتنا التاريخية و هويتنا الوطنية عبر الأوشام و الرموز وغيرها في حال ما وجدنا مساعدة السلطات العمومية في ولاية خنشلة سواء من مديرية السياحة أو قطاع التكوين المهني كي لا تندثر هذه الحرفة".

دعم مفقود

في واقع الحال تتميز المنتجات اليدوية لمراد وزوجته برونق خاص وتقانة دقيقة، وحس فني رفيع، حيث تبدو كما لو أنها صنعت في ورشة عصرية، وبأجهزة معقدة رغم أسعارها الرمزية، حيث تباع القطع الصغيرة مثل صحف "الحميص" وسلطة الفواكه بمبلغ 200 دج، ويرتفع لـ 600 أو700 دج للقطع المتوسطة مثل الأباريق والقلل متوسطة الحجم، ثم لمبلغ 1500 دج للقطع الكبيرة مثل الطواجين الكبيرة وقصع الكسكس و "الشخشوخة" و "المرمز" و "العيش."

قد تتعجب بأنهما لم يحظيا بأية تغطية إعلامية لائقة، كما أنهما لا يملكان فرنا جديرا بهذه التسمية بل مجرد مدخنة يستخدمانها في طبخ الطين ، ينضجان فيها هذه الروائع الفخارية، ولهذا يبقى حلمهما المشترك هو الاستفادة من قروض مصغرة لإنشاء مؤسسة عائلية صغيرة تعيد لهذه الصناعة تضمن لهذه الحرفة البقاء والاستمرار بدل الموت والاندثار، ثم العودة بها إلى عصرها المزهر، فقبل أربعة عقود كانت عائلات قرى جنوب الأوراس الكبير، أكبر مشتل مفتوح على الهواء الطلق، لصناعة وبيع الفخار التقليدي، المنتج في الديار، وفق شعار من الحوش الضاج بالطين والصلصال إلى السوق العامر بالسياح المحليين والأجانب.