19-يوليو-2024
(الصورة: فيسبوك)

(الصورة: فيسبوك)

في منطقة الزاوية ببلدية بابار ولاية خنشلة، شرقي الجزائر، تحوّل المثل القائل "اصنع من الليمون الحامض شرابًا حلوًا"، إلى حقيقة اقتصادية ماثلة للعيان رغم خطاب السلبية الذي واجهته مشاريع إعداد السلطة المشوية، أو "الحميص" وتجفيف الطماطم وتصبيرها، أول وهلة.

ظن كثيرون أن تصدير هذه المنتجات للخارج ضرب من ضروب الجنون ومجرد تسويق للأوهام وجري وراء أحلام اليقظة

لقد ظن كثيرون أن تصدير هذه المنتجات للخارج ضرب من ضروب الجنون، ومجرد تسويق للأوهام، وجري وراء أحلام اليقظة، قبل أن يستيقظ من استعملوا عبارة "تصدير الروينة" الواردة في فيلم كرنفال في دشرة كنوع من أساليب السخرية وتثبيط العزائم، والتنمر، على قصة نجاح مدوية، بطلتها نسوة ريفيات و كادحات صحراء وجبال خنشلة، جلهن فلاحات بسيطات، و ماكثات بالبيوت، و أرامل ومطلقات و شبان و شابات من ذوي الهمم، صدرن قبل عامين 40 طنًا من طماطم الزنڤوري المجففة، و ها هن يعدن الكرة، مرة أخرى هذا العام بالشروع في تصدير 40 طنًا أخرى إلى دولة فرنسا.  

طماطم مجففة

تراث تحويلي

في الواقع تسود جنوب ولاية خنشلة تقاليد قديمة ومتوارثة في إنتاج سلسلة من الأغذية التقليدية، مثل التين المجفف والمغمس في زيت الزيتون، ومربى السفرجل، وطحن الفريك، وغيرها.

لكن هذه النشاطات ظلت حبيسة نمط الاستهلاك العائلي والجواري، دونما اندماج في عمليات تسويق كبرى تفتح لها طريق الانتشار والاستمرار والمنافسة والدوام والارتقاء لمرحلة إنتاج الثروة المالية من الثروة الطبيعية رغم توفر ميراث المهارة المكتسبة.

طماطم مجففة

 إن البحث عن الحلقة المفقودة وتشكيل السلسلة الإنتاجية، هو ما دفع المهندسة الفلاحية، زليخة خوني رئيسة جمعية أنامل المرأة الريفية للبحث عن الصيغة الملائمة لتطوير قدرات النساء الريفيات وإكسابهن ثقة شخصية تتيح لهن مواجهة معترك السوق وبيع منتجاتهم ذات الجودة الفطرية في الحوانيت والمساحات الكبرى كخطوة أولية تسبق اكتساح الأسواق.

في هذا الصدد تعترف زليخة، التي تملك صفة أستاذة تكوين فلاحي في معهد بابار، في حديث إلى "الترا جزائر": أنها "في الأصل فلاحة بنت فلاح "لطالما رعيت الأغنام، وأكسبني تتبع مهنة والدي رغم قدرتي بعد البكالوريا على اختيار أية شعبة علمية، معرفة دقائق هذا العالم النسوي والقروي والفلاحي، لذلك شجعت جمعيتنا منذ العام 2018 على ولوج النساء المنتجات لمربى السَّفَرْجَلْ إلى مرحلة التسويق".

قبل أن تضيف:" تسنى لنا ذلك عبر الانخراط في برنامج (كابدال) المتعلق بدعم قدرات الفاعلين في التنمية المحلية، المبرم بين الحكومة الجزائرية والاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ومكن ذلك قرابة 20 امرأة وشابين من ذوي الهمم، من اقتناء تجهيزات وعتاد، وتلقي تكوينات في كيفيات الصناعة التحويلية للمربى".

طماطم مجففة

مربّى الفنادق الفخمة

ساعدت الجمعية النساء القرويات على كسر حاجز التواصل مع العالم الخارجي، وتليين العقلية التقليدية، وتدريبهن على كيفيات التسويق في المجتمع التجاري الرجالي والذكوري، بأن اقتنت لهن الأدوات والوسائل وتكفلت بعمليات البيع والتسويق في المحلات والمساحات التجارية، قبل أن توكل لهن مهمة تولي ذلك بأنفسهن، بطريقة تدرجية، انتهت ببناء جسر ثقة مع العالم الخارجي. 

مهد نجاح مشروع مربى السفرجل للبدء في تنفيذ مشروع آخر، في إطار برنامج كابدال، يتعلق الأمر بمربى التفاح انطلاقًا من بلدية طامزة. لقد لاحظت نسوة مشتغلات في المجال كساد كميات كبيرة من ثمرة التفاح ما شجعهن على إيجاد صيغة شراكة بين الجمعية و100 امرأة، تلقين تكوينًا وتأهيلًا مهنيين في صناعة المربى، أُتبع بمعاينة ميدانية لطرق تحويل الفواكه بوحدة (مصبرات نقاوس) في ولاية باتنة، ليتم استغلال الكميات الكبيرة من التفاح الطازج، وشيك التلف، وغير القابل للتسويق كفواكه، في إنتاج المربى.

وفي محصلة نهائية للمشروع الذي بدأ العام 2019، تقول زليخة في لهجة انتصارية في حديث إلى "الترا جزائر": إنها "في ظرف خمس سنوات صار مربى تفاح بلدية طامزة يباع في 12 ولاية جزائرية، وفي مؤسسات فندقية كبرى بالبلاد بعضها من سلاسل عالمية، وهذا يعني أن تحدي أولئك النساء الكادحات حقق هدفه، فأقلهن تحصلن على مدخول لا يقل عن 20 مليون سنتيم، وهو كفيل بمواجهة متطلبات حياتهن الخاصة والأهم من ذلك أنهن صرن نساء منتجات يساهمن في تنمية البلاد".

طماطم مجففة

تصدير الحميص  

في العام 2020 شمل مشروع كابدال تسع بلديات جزائرية بينهم بلدية بابار المعروفة بإنتاج الطماطم والفلافل، وبناء على معاينات ضياع تلك المنتجات غير المسوقة، تقرر الشروع في صناعة السلطة المشوية و المفوّرة و المعروفة محليا بمسمى "الحميص" تلبية لطلبية جاءت من مدينة مارسيليا الفرنسية. يقول السيد سفيان دراهم نائب رئيس جمعية أنامل المرأة الريفية في حديث إلى "الترا جزائر" إنه "تنفيذًا لآليات برنامج كابدال شرعنا في حملة تحسيس لتشجيع النساء و الشباب البطال و ذوي الهمم على اغتنام هذه الفرصة الذهبية.

ودامت حملة التحسيس أسابيع تم إثرها تسجيل 420 راغب في المساهمة في مشروع " الحميص"، ليُصار بناءً على شروط ومعايير، إلى انتقاء 30 مترشحًا جلهن نساء ريفيات وماكثات في البيوت، فاستفدن من تكوين خاص في مجال صناعة السلطة المشوية، قبل أن يثتنى لهم العتاد اللازم لتحضير الوصفة المطلوبة، مثل المواقد والقناصل والثلاجات والطبّاخات، وكللت العملية بتصدير 22.000 علبة و500 علبة هريسة و7500 علبة طماطم مجففة مغمسة في الثوم وزيت الزيتون".

ودلالة على نجاح المشروع تلقت النساء المنتجات إشادة من المورد المارسيلي الذي طالب بشحنات إضافية، غير أن غلاء سعر الطماطم والفلافل في ذلك التاريخ حال دون تكراره لمعطى اقتصادي واضح هو غلاء الكلفة مقارنة بسعر البيع، حيث تزامنت الطلبية مع ارتفاع الفلفل لسقف 100 دج للكيلوغرام، بيد أن الثابت كما يضيف نائب رئيس الجمعية: أن "حصول العاملات والعاملين على دخل مادي من تلك المنتجات، جعلهن ينتقلن من حالة العطالة البيتوتية إلى مصف المُنتجات، ورئيسات مشاريع، ومكونات أيضًا".

طماطم مجففة

المطلقة المستقلة

مسعودة بومعراف 49 سنة، عاشت اليتم منذ الصغر وابتليت بالطلاق في الكبر، غير أن ميلها الفطري للعمل اليدوي مثل نسج الزرابي، وتحضير الوصفات التقليدية في تجفيف الخضار والفواكه، سرعان ما أخرجها من بوتقة الأزمات الاجتماعية، بأن وجدت ضالتها في مشروع تجفيف الطماطم العام 2022، حيث انتقلت، وبتأطير من جمعية أنامل المرأة الريفية مع مجموعة من ثلاثين فردًا من بابار إلى مزرعة سيدي عبد القادر بولاية الشلف لتحضير حمولة 40 طنًا من الطماطم المجففة، خصصت للتصدير عبر شركة وسيطة إلى فرنسا.

طماطم مجففة

عن تجربتها الشخصية تقول في حديث إلى "الترا جزائر" إنه "في ذلك العام ضرب الجفاف محاصيل بابار من الطماطم من نوع الزنڨوري، و هي النوعية الصالحة للتجفيف دون غيرها، فاضطررنا للتنقل إلى مزرعة بولاية الشلف لتحضير الشحنة لتوفر المنتج هناك. وفريقنا يضم 10 نساء ريفيات و8 نساء ماكثات بالبيوت، و8 شبان بطالين و4 أفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة بينهم امرأة، والمجموعة تلقت تكوينات في مركز التكوين المهني وشاركت في ورشات تحضير وإعداد السلعة التي صدرت فور الانتهاء منها، ولقيت استحسان الزبون الأوروبي الميّال للمنتجات الطبيعية الخالية من المستحضرات الكيمائية".

جلبت مداخيل البيع أيام سعد حقيقية لمسعودة التي تلقت حصة مالية، سمحت لها اقتناء تجهيزات تبريد وطبّاخة ولوازم وأدوات رشحتها للمساهمة في تحضير تجفيف 40 طنًا من الطماطم المجففة المقرر تصديرها لفرنسا في الأشهر المقبلة، وفي هذا الشأن توضح: " بفضل ذلك المشروع وغيره أصبحت مستقلة ماديًا، فأنا أتكفل بمصاريف كراء منزل بـ 10.000 دج شهريًا، كما أتدبر في أريحية تامة جميع احتياجاتي المادية. والأهم من ذلك أنيّ انتقلت من امرأة قعيدة في البيت إلى امرأة مقاولة أطمح لتنفيذ مشاريعي الخاصة في القريب العاجل. وحقًا فإن الشعور بالأمل يجلب فرص العمل ".

لم تتوقف عجلة طموح مسعودة عند هذا الحد فحسب، حيث أنها ولحظها التعليمي الذي بلغ مستوى الثالثة ثانوي، انتقلت من مستفيدة إلى مكوّنة خبيرة في طرق تجفيف الطماطم وغيرها، حيث أنها تقدم، اليوم، دورات تدريب لنساء المنطقة ومناطق أخرى في الجزائر، مجانًا، فتعقب في ثقة: " ألقن اليوم النساء الفلاحات والماكثات بالبيوت طرق تجفيف الطماطم، بدء من اختيار صنف الزنڤوري، وغسله وتنظيفه، ثم تقطيعه، وتمليحه، ونشره تحت أشعة الشمس مدة خمسة أيام، فوق شبابك خاصة وتغطيته بستائر بلاستيكية تحميه من الأتربة، و مراقبته باستمرار قبل حشوه في بلورات معقمة و تغميسه بزيت الزيتون و الكمون و الثوم، فيما يمكن تحويل الحبات شديدة النضوج إلى دقاق منثور في علب وهو صالح للاستعمال أيضا مثله مثل نُثار الفلفل".

طماطم مجففة

النجاح المعدي

تحرص مسعودة على تكوين أكبر قدر من النساء العاطلات والماكثات بالبيوت، وكأنها ومن وحي التعاطف معهن عطفا على تجربتها الشخصية، ترغب في أن تحقنهم بعدوى المبادرة والاجتهاد وتحقيق النصر على اليأس.

 عالية بلولة 48 سنة، أرملة، وأم لطفل، واحدة من هؤلاء النسوة اللواتي أصبن بعدوى النجاح فقررن خوض مغامرة النشاط المربح، حيث تقول لألترا الجزائر: " أمارس العديد من النشاطات الفلاحية، مثل تحضير الفريك و الحميص و الطماطم المجففة، و قد استطعتُ بفضل تلك الفرصة من الحصول على مدخول مالي، وهذا أفضل بكثير من الجلوس في البيت بلا شغل أو مشغلة، أو طلب المساعدة أو الصدقة أو المنّة، من الآخرين، و بما أن تلك التجربة نقلتني إلى وضع أفضل، فدائما ما صرت أتصل بالجمعية بغرض إشراكي في مشاريع أخرى مربحة. لن أتوقف عن الكسب الحلال و العيش بعرق جبيني ما دمت حية".

أسألها عن مصير أرباحها المالية فتجيب بنبرة الأم المفتدية: "بصراحة تركتها مدخرة في البنك لأنّي خصصتها لابني".

يبدو أن المثل الصيني " لا تعطي الإنسان سمكة بل علمه كيف يصطاد تلك السمكة"، خلف طاقة إيجابية لدى هؤلاء الكادحات، فأغلبهن صرن يفكرن في الانتقال لإنشاء مؤسسات صغيرة، فمسعودة على سبيل المثال تخطط لإنشاء مؤسسة لصناعة الزرابي التقليدية حماية للموروث وربحًا للمصروف، فيما تفكر زميلة لها في إنشاء مشروع تكاملي معها لنسج أغطية مقاعد السيارات مستوحاة من شكل زربية بابار العتيقة.

طماطم مجففة

زيت التين الشوكي

في بلدية خيران أنشأت الجمعية مزرعة تسيرها أرملتان وشابان بطالان ومطلقة، بمساهمة من شركات كوسيدار عبر فرعها الفلاحي، و أوريدو و سوناطراك، لتربية الدجاج البيوض، و قد باعت هذه المزرعة منذ أكتوبر الماضي 70.000 بيضة، جلبت للمستثمرات ما لا يقل عن 20 مليون سنتيم ربحًا صافيًا.

أما في قرية تقدميت التابعة لبلدية خيران، فقد ساهم مشروع تربية 4 بقرات في إنتاج حليب طازج، من الضرع للمستهلك، في الحد من تنقل سكان الدوار لجلبه من مناطق أخرى مقابل 150 دج، بل صار في متناولهم ي بسعر 100 دج فقط.

وبعض هذه المشاريع أنتج بفضل عملية التشبيك مسارات تكاملية بين نساء من قرى مختلفة، حتى لو تعلق الأمر بتصبير منتجات تأتي من بلديات مجاورة، حيث تكفلت نسوة بابار بعمليتي تصبير يقطين مزروع في بغاي، وجزر قادم من بلدية متوسة، وخصص الأخير عبر إنتاج 500 علبة غير محلاة لفائدة مرضى السكري.

زليخة خوني لـ "الترا جزائر": أحدثت هذه المشاريع نوعًا من الثورة الذهنية لدى هؤلاء النسوة، كما لو أنهم يكتشفون أن نشاطاتهم المنزلية التي توارثوها منذ الأزل يمكن أن تكون موردًا في دورة اقتصادية مصغرة

أما الخطوة التالية، فهي ما تختتم به زليخة خوني حديثها إلى "الترا جزائر" لأنه "أحدثت هذه المشاريع نوعًا من الثورة الذهنية لدى هؤلاء النسوة، كما لو أنهم يكتشفون أن نشاطاتهم المنزلية التي توارثوها منذ الأزل يمكن أن تكون موردًا في دورة اقتصادية مصغرة لكنها مربحة، ومثلما فعلنا مع الفلافل والطماطم والفريك والتفاح سنفعل مع التين الشوكي – الهندي-فهو منتشر بكثافة في مناطقنا، ولذلك نفكر في إنجاز وحدات لإنتاج زيت التين الشوكي، الذي يباع اللتر الواحد منه أكثر من 20 مليون سنتيم".