14-يوليو-2024
(الصورة: فيسبوك) شواطئ معزولة في الجزائر

(الصورة: فيسبوك) شواطئ معزولة في الجزائر

ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، خلال السنوات الأخيرة، في بروز سياحة الشواطئ المعزولة، التي كانت حكرًا فيما مضى على شبان مغامرين، أو أشخاصًا معدودين من أبناء مناطق الشواطئ غير المحروسة لتصبح في الوقت الراهن مقصدًا للأفراد والعائلات على حدّ سواء، فلم تعد تلك الشواطئ معزولة فعلًا بسبب اشتهار ها على مواقع التواصل الاجتماعي.

 أنتجت رغبة الاستكشاف والوصول إلى تلك الأماكن البعيدة عن السواحل المكتظة تجارة موسمية جديدة انخرط فيها صيادون بمراكبهم وموظفون بقواربهم

 أنتجت رغبة الاستكشاف والوصول إلى تلك الأماكن البعيدة عن السواحل المكتظة تجارة موسمية جديدة، انخرط فيها صيادون بمراكبهم، وموظفون بقواربهم، وفق ما بات يُعرف بقوارب النزهة، ولم يبطئ وأن التحق بالخدمة الجديدة فلاحون بجراراتهم.

أما الزبائن من هواة " الخلوي" و " الڤوسطو" فقد وجدوا في ذلك إشباعًا لرغبة الهروب من الشواطئ الشعبية والتمتع بالصمت في شواطئ منسية، نادرًا ما تحط فيها الأقدام.

طفرة " الكورونا"

في أقصى غرب البلاد، يداوم محمد الأمين وهو أستاذ تعليم ابتدائي بالأساس، على ممارسة مهنته الصيفية، انطلاقًا من شاطئ بوزجار حتى بني صاف في ولاية عين تموشنت.

مصطافون

بدأ محمد رحلته مع القوارب رفقة والده الذي اشتغل صيادًا، قبل أن يقرر هو العام 2005 شراء قاربه الخاص من نوع 4 متر في 80، بسعر 17 مليون سنتيم زوّده بمحرك 9.9 حصان، بسعر 7.7 مليون سنتيم، ثم سرعان ما أبدله بمحرك ياماها 15 حصان بسعر 50 مليون سنتيم، ليواكب سوقًا ناشئة، بدءًا من العام 2019.

في هذا السياق يقول محمد في حديث لـ "الترا جزائر"، يُمكن القول إن خدمة نقل الزبائن من المصطافين إلى الشواطئ المتوحشة أو المهجورة بدأت خلال أزمة كورونا، موضحه أنه "شخصيًا سمحت لي تلك الفترة المتميزة بالحجر والغلق باستكشاف شواطئ مجهولة بقاربي لأشاركها عبر الفيسبوك فنالت إعجاب الناس، و هكذا بدأت هذا العمل".

مصطافون

ويردف: "طبعا كنا ننقل مصطافين بطريقة سرية نحو تلك المناطق نظرًا للحظر المسلط على السباحة حذر ما سينجر عنها من تجمعات واختلاط قابل لنشر العدوى. وحتما فإن كثيرًا من الناس لجأوا للسياحة الداخلية نظرًا لتوقف حركة السفر خارج البلاد خلال عامين كاملين.

بيد أن طفرة كبيرة حدثت في خضم ذلك،  يضيف صاحب القارب، عندما أدرك الجزائريون أن لهم سواحل سحرية تجمع بين زرقة المياه وخضار الطبيعة وكثافة الجبال، وهذا "الرأسمال الذهبي" كان جديرًا بالاستغلال الشخصي، وفي المحصلة كان لأزمة كورونا أثر إيجابي من هذه الناحية، كما لو أن بذرة الحياة تزهر من رحم الموت، على حدّ قوله.

إلى ذلك، يواصل ابن بلدة ساسل الساحلية: "طبعًا تعززت تلك الطفرة برغبة فئات من الناس ممن يبحثون عن الراحة النفسية والحرية خلال عطلتهم الصيفية، ويفضلون التمتع بالسلام الداخلي ضد مظاهر الضجيج والموسيقى الصاخبة والرقصات البهلوانية التي تنغص عليهم فترات الإمتاع والمؤانسة".

مصطافون

يوافقه محمد عمر وهو رب أسرة، خمسيني، على ذلك فيعقب: " أقيمُ في بوزفيل بعين الترك قرب شاطئ بارادي لكني لم أعد أحتمل جمهرة المصطافين، و قرع الدربوكة و ترديد الأهازيج، لذا أجيئ إلى عين تموشنت بغرض الاستجمام في الشواطئ المعزولة أو المتوحشة رفقة عائلتي المتكونة من زوجتي وطفلين، نتصل بأصحاب قوارب النزهة في شاطئ السبيعات فيقومون بنقلنا إلى سواحل لاقيتار أو البئر لنستمتع بالرحلة البحرية أولًا قبل الاصطلاء في الشط، ونعود مساء عبر الاتصال بصاحب القارب الذي يتكفل بإعادتنا، وكل ذلك مقابل 2500 دج ذهابًا وإيابًا.

وأردف في حديث لـ "الترا جزائر" أنه يدفع مبلغًا زهيدًا ليشتري به راحته "فكل همي هو تفريغ الذهن من الطاقة السلبية و طرد الضغوط باستحضار النقاهة النفسية و الجسدية، و لا بأس أن أدفع مقابل ذلك مقابلًا ماديًا، لأني لست مستعدًا لقضاء عطلتي السنوية في شواطئ أصبح بعضها محاشر بشرية فوضوية، ومسرحًا لحفلات صاخبة لا تنسجم مع مفهوم الاختلاء مع الذات والأحباب".

مصطافون

قوارب "صيد النزهة"

لا تبدو الأسعار مرتفعة بل في المتناول إذ أنها تصبح 500 دج للفرد الواحد ذهابًا وإيابًا إذا كان الزبائن مجموعة من خمسة شبان، وهو الحد الأقصى المحدد في مراكب ذات محرك 9.9 حصان، حتى لا ينقلب الموضوع لمأساة مثلما يحصل بين الفينة والأخرى جراء حوادث الإنقلاب. وفي هذا الشأن يوضح محمد الأمين الحاصل على شهادة سياقة بحرية ما يلي: "لا وجود لرخصة نشاط نقل المصطافين مسلمة من مديرية السياحة، فكل هذه القوارب هي قوارب نزهة يحصل أصحابها على "رخص تنقل" تسلم لهم من حرس السواحل، مقابل إيداع ملف يحمل الهوية الشخصية والصور والسوابق والرقم التسلسلي للمحرك والمركب ويشهد الموضوع تشديدات من قبل السلطات في المناطق الحدود البحرية الغربية والشرقية، لأن هناك تجارة للبشر عبر تهريب الحرّاقة أو المخدرات، على حدّ قوله.

وأوضح المتحدث أنه "لا تجيز الرخصة سوى نقل أفراد العائلة و الأصدقاء، بيد أن أصحابها وجدوا في هذا القانون مرونة و ثغرة سمحت لهم بتقديم خدمة النقل مقابل عمولة بما أنها ذات محركات ضعيفة 9.9 و بما أن الحد الأقصى المسموح به انطلاقًا من اليابسة هو 9 كلم فقط".

ويعود محمد الأمين ليشرح وضهية مؤجري قوارب الصيد بقوله "إن 80% من ممارسي هذا النشاط هم في الأصل صيادون حصلوا على قوارب نزهة لاستعمالات الصيد، ثم مع تطور السياحة الداخلية وجدت السلطات نفسها ممارسة لنوع من البراغماتية، مادامت الأوضاع تحت السيطرة، لكن هذا لا يعفي هؤلاء من الالتزام بشروط الوقاية".

مصطافون

حيث يضيف محمد الأمين الذي سمحت له هذه المهنة الموسمية على مدار ثماني سنوات، بتحقيق مدخرات ساعدته، قبل أيام من اقتناء زورق غليسار قوة 15 حصان بمبلغ 300 مليون سنتيم منبها: "يجب على ممارسي النشاط التقيد بشروط السلامة مثل ضرورة التزود بعجلة إنقاذ، وصافرة، وصدريات نجدة، والاكتفاء بأربعة أشخاص ضمانًا لتوازن المركب والتزود بـ 5 لتر مياه واحتياط كاف للبنزين، تفاديًا لحوادث انقلاب القوارب حيث توفيت العام الفارط أم وابنها قرب وهران، كما يجب عليه متابعة الأحوال الجوية وعدم المغامرة بالزبائن ".

أساطيل بحرية

الزائر لشواطئ تمنارت الشهيرة، الواقعة على بعد 12 كلم غرب القل ولاية سكيكدة، سيلاحظ بلا شك أن هذا الساحل صار منذ سنوات قليلة ترانزيتًا بحريًا أو محطة خطوط بحرية لا تتوقف فيها قوارب النزهة المملوكة لصيادين عن العمل. فثمة أسطول متحرك لصيادين يمارسون هذه المهنة على مدار اليوم وعينهم على الأرصاد الجوية حيث يقول الرايس بدرو في حديث إلى "الترا جزائر" إن  "عدونا الأول صيفًا هو طلوع موج البحر الذي يوقف نشاطنا تمامًا حرصًا على حياة المصطافين، أما إذا كان الجو ملائمًا فإن نشاطنا يبدأ صباحًا ولا يتوقف سوى عند الغروب، فالنقل الليلي ممنوع وقد يعرض صاحبه لعقوبات صارمة مثل سحب رخصة التنقل".

قبل عامين، تدخّلت مفرزة للجيش الشعبي الوطني بشاطئ الساحل ببني بلعيد في ولاية جيجل لتحرير عائلة كانت نقلت من طرف صاحب مركب دون انتباه الأخير لحالة الجو الذي انقلب مساءً ما تسبب في طلوع الموج الذي أعاقه عن الإبحار، وبقائهم محاصرين بالمياه التي كادت تغمر الشاطئ دون القدرة على فرارهم عبر الجهة الجبلية وعرة التضاريس، خاصة بوجود نساء وأطفال.

مصطافون

في سط تمنار رقم واحد و إثنان طوابير لسياح وعائلات ينتظرون دورهم كما لو أنهم في محطة الخروبة البرية، والوجهة شاطئ لقبيبة المعزول، الذي صار في واقع الحال وجهة عائلية بامتياز، حيث يقول أفراد عائلة قدمت من قسنطينة لـ "الترا جزائر" إنه "من الأجدى الذهاب لقضاء يوم كامل في لقبيبة بحرًا لتعذر ذلك عبر المسلك البري الوعر خاصة مع حلمنا لأغراض الطهي والكراسي والأواني. فالشاطئ يتربع على شطآن صغيرة بعضها على شكل غرف واسعة، يمكننا اختيار أحدها بعيدًا عن ضجيج وازدحام شواطئ تفلزة و عين القصب و عين الدولة بالقل، كما أن السعر مناسب للغاية".

ويعلق الرايس بدرو مفاخرًا: " لا أحمل غير أربعة أفراد في المركب مثلما تنص على ذلك إجراءات السلامة، وللضرورة القصوى خمسة أنفار مع طريقة إجلاس خاصة للحفاظ على توازن المركب، وكل هذا بسعر 1500 دج ذهابا وإيابًا للنقلة الواحدة نحو لقبيبة، أما إذا كانت الوجهة شط بني سعيد البعيد فالثمن هو 5000 دج للمشوار ذهابًا وجيئة".

شواطئ جزائرية

رحلة في مقطورة

إلى أقصى شرق البلاد، وتحديدًا مدينة القالة في ولاية الطارف، ذات البحيرات الخلابة طونغا و أوبيرا و الملاح و السواحل الذهبية، يروج النقل البحري مثل بقية السواحل الجزائرية باستثناء أن الصيادين هنا باتوا يجدون منافسة شرسة من فلاحين أضحوا هم أيضًا يمارسون النقل عبر الجرارات في السنين الأخيرة.

يملك فيصل، 27 سنة، المقيم ببلدية السوارخ أو أم الطبول الحدودية مع تونس جرارًا فلاحيًا يستعمله في مهنته الأصلية بمزارع وحقول السقلاب، لكنه يسخره صيفًا لنقل السياح إلى شاطئ بوطريبيشة المعزول، الذي بات مقصدًا يهواه القادمون من الولايات الجزائرية، وفي هذا الصدد يشرح لـ "الترا جزائر" أنه  يقوم بنقل الزبائن بواسطة هذا الجرار مقابل 4000 دج ذهابا وإيابا. حيث "ساهم الترويج لهذا الشاطئ عبر المؤثرين خبيب والدقس بلفت نظر الناس إليه. وهناك صنفان من المصطافين، الراغبون في تمضية يوم حيث أنقلهم وأعود إليهم لجلبهم وقتما يتصلون بي، وهناك الراغبون في التخييم لعدة أيام والذين أرجع إليهم في يوم العودة، بناء على ما يتم بيننا من اتصال عبر الهاتف، وقد أقدم لهم خدمة إضافية هي نقل ما يعوزهم من مواد غذائية في حال الحاجة".

شواطئ جزائرية

يبدو أن فيصل سيء الحظ مقارنة بفلاحين آخرين جهة شاطئ القالة القديمة، فقد تسبب ظهور ناقلين عبر المراكب من شط لاميسيدا نحو بوطريبيشة في تراجع نشاطه، فالوصول بحرًا أسهل وأسرع وأقل ثمنًا، بيد أن سوق أصحاب الجرارات في الجهة الأخرى لا يزال بكرًا وبعيدًا عن المنافسة إذا ما كانت الوجهة شاطئي مرسى الطليان ومشرح الشعير.

في العادة تتوقف الجرارات وفقًا لاتصال مسبق من الزبائن، لتتكفل بنقلهم وأغراضهم ناحية هذين المقصدين، بعضهم يأتون في رحلات منظمة وبعضهم أفراد يركنون سيارتهم قرب غابة تقع على مشارف بحيرة الملاح، ليشرعوا في السفرية وسط المسالك والأحراش الكثيفة، يقول صاحب جرار في حديث إلى "الترا جزائر" إنه: "صار لدينا زبائن كثر من العاصمة وغرب البلاد، وأغلبهم نساء وشابات وأزواج يصنعن أجواءً خالصة من الفرحة بالغناء والزغاريد إحساسًا بمتعة الذهاب للبحر في مقطورة جرار".

قبل أن يختم: "أما أسعارنا فهي ملائمة جدًا، لا تتعدى 1500 دج نحو مرسى الطليان لأنه أقرب، ولا تربو عن 3000 دج نحو شاطئ مشرح الشعير لأنه أبعد".

نشطاء البيئة متخوفون من تدهور عذرية شواطئ لم تعد معزولة ومتوحشة بل معلومة للجميع وتتعرض لأعمال "وحشية" من قبل مصطافين

بحسب متابعين جددت قوارب النزهة والجرارات طريقة قضاء العطلة ومنحتها نفسًا آخر قد يستمر لأعوام بعدما ألبستها روح المغامرة، لكن نشطاء البيئة متخوفون من تدهور عذرية شواطئ لم تعد معزولة ومتوحشة بل معلومة للجميع وتتعرض لأعمال "وحشية" من قبل مصطافين يتركون النفايات الملوثة ويساهمون في إفقار غطائها الغابي لضرورات الطهي وإشعال المواقد اليومية، وربما يتسببون في حرائق غابية قد تقضي على هذه الأمكنة.