13-أكتوبر-2024
مادة الرياضيات

مادة الرياضيات ( صورة: أرشيف)

لا يُخفي أستاذ الرياضيات في التعليم الثانوي ضياء الدين العمراني، التراجع الذي لاحظه عند عديد التلاميذ في مادة الرياضيات خلال السنوات الأخيرة، كغيره من المدرسين في مختلف المراحل التعليمية، إذ يأمل المهتمون بقطاع التربية أن يساهم الاهتمام الحكومي بهذه المادة في الفترة الأخيرة بمعالجة المشكلة، وجعل "أم العلوم" مادة تعليمية محبوبة من الجميع في الجزائر، وذلك عبر إزالة الرهاب الموجود لدى التلاميذ تجاهها.

كثيرا ما يتمّ التسويق بصورة مبالغة بشأن صعوبة الرياضيات وعدم فهمها

وبالنظر للتخصصات العلمية الجديدة التي فتحت على مستوى التعليم العالي، وبالخصوص في المدارس العليا، فقد أصبح تحسين التعليم التربوي في مادة الرياضيات أمراً ضروريا، لكي يكون الناجحون في البكالوريا في مستوى التخصصات التي تنتظرهم في بعض المجالات، مثل الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني وغيرهما.

تراجع؟

وقال ضياء الدين العمراوي الذي صدر له مؤخرا كتاب "الجهبذ في الدوال الأسية واللوغاريتمية" لـ"الترا جزائر" إن مستوى التلاميذ في مادة الرياضيات في تراجع، وهو ما لاحظه من خلال ممارسته لمهنة التدريس في الطور الثانوي.

وأضاف العمراني أنّ الخلل الموجود في مادة الرياضيات ينطلق من الطور الابتدائي، ثم يستمر في المتوسط، ليجد أستاذ الثانوي نفسه أمام حالة صعبة لتحسين مستوى تلاميذه في مادة أساسية كالرياضيات، مبيّنا أنّ هذا التراجع يعود إلى عدم مساعدة البرامج التدريسية الحالية التلاميذ على تلقينها كمادة مهمة بالمستوى اللازم مثلما كان في السابق.

وبحسب شهادات لأساتذة في الطور الابتدائي والمتوسط، فإنّ المشكل الأساسي مطروح على مستوى الابتدائي، بسبب كثافة المقرّر الدراسي، وتعليم التلاميذ في هذه السنّ العمرية دروساً أعلى من مستوى فهمهم، والتي كانت تدرس سابقا في الطورين الأعلى.

ولفت الخبير التربوي كمال نواري في حديثه لـ"الترا جزائر" أن أهمية إجادة الرياضيات تكمن في أنّها تساهم في " تعليم التلميذ التفكير السليم من خلال مجموعة من الطرق المختلفة من التفكير، وتنمية مهارات الطلاب في استخدام أسلوب حل المشكلات، ومساعدتهم على التعرف على أثر الرياضيات في التطور الحضاري، وزيادة مهاراتهم في استيعاب المواد التي يدرسونها، إضافة إلى مساعدتهم على الاعتماد على أنفسهم خلال التحصيل الأكاديمي في المادة".

مدارس

نتائج جيدة

غير أن هذا الحكم المتعلق بتراجع المستوى في مادة الرياضيات يتناقض أحيانا مع النتائج المحققة في الامتحانات الرسمية، فقد تعدت شعبة الرياضيات لبكالوريا دورة حزيران/ جوان 2024، نسبة النّجاح العامة لتتصدّر ترتيب الشّعب الممتحن فيها بنسبة بلغت 82.25 بالمئة.

وشهدت ثانوية الرياضيات بالقبة نسبة نجاح كاملة بنسبة 100 بالمئة في بكالوريا 2024، وهي النتيجة المنتظرة، بالنظر إلى أن هذه الثانوية المتخصصة لا تقبل إلا التلاميذ ذوي المعدلات العالية على المستوى الوطني، وكانت الوحيدة العام الماضي قبل فتح ملاحق جهوية لها برسم السنة الدراسية الجديدة.

وتُظهر النّتائج المحققة في مسابقة أولمبياد الرياضيات، بأن مستوى الجزائريين في أم العلوم يظل محل تقدير واهتمام، فقد حققت الجزائر نتائج جيدة في الدورة 65 للأولمبياد العالمية للرياضيات التي احتضنتها مدينة باث البريطانية تموز/ جويلية الماضي، بحصول التلميذ دراش شمس الدين عبد العالي على الميدالية الذهبية في منافسة عرفت مشاركة 108 بلدان.

وقالت وزارة التربية وقتها إنّ الجزائر تحصلت "لأول مرة منذ انخراطها في هذه المنافسة الدولية المرموقة على ميدالية ذهبية حازها التلميذ دراش شمس الدين عبد العالي، وجعلت من الجزائر الدولة العربية والأفريقية الوحيدة التي حصدت ميدالية ذهبية في هذه الدورة، فيما تحصل باقي أعضاء الفريق على شهادات شرفية".

لكن الخبير التربوي نواري، قال في هذا الصدد، إنّه "لو نفحص نتائج التلاميذ في امتحان شهادة البكالوريا نجدها ممتازة، لكن بمجرد نهاية السنة الجامعية للسنة الأولى لهم، نجدها لا تعكس المستوى الحقيقي في مادة الرياضيات، والحقيقة أن التدقيق في كيفية وطريقة التحصيل العلمي في مستويات التعليم في المراحل التربوية الثلاث يوضح أسباب هذا الإخفاق".

ويرى نواري أن "المدرسة الجزائرية ببرامجها وطرق التدريس والإصلاحات الكارثية المتعاقبة أصبحت تخرّج لنا تلميذا فاقدا للتفكير والتحليل والاستنتاج العلمي، وحوّلته إلى علبة جمع لمعلومات يختزنها ثم يعيدها عند الطلب".

اهتمام

على عكس ما كان في سنوات وعقود ماضية، فقد أصبح الاهتمام بالرياضيات لا يقتصر على الأساتذة وأولياء التلاميذ فقط، إنّما من الحكومة أيضا، فقد شهدت السنة الدراسية الجديدة فتح فرعين لثانوية الرياضيات بكل من ولايتي قسنطينة ووهران.

وقال وزير التربية عبد الحكيم بلعابد خلال زيارته ثانوية الرياضيات الجهوية المجاهد المتوفي "صادق حماني" بقسنطينة، والتي تعمل بالنظام الداخلي، ويتمدرس بها 112 تلميذاً إنّها تستقبل تلاميذ من 22 ولاية من الشرق والجنوب الشرقي للبلاد، وتندرج ضمن الإستراتيجية الوطنية لتعزيز التوجه العلمي والرياضي.

ويظهر هذا الاهتمام أيضا في تهنئة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون التلميذ دراش شمس الدين عبد العالي لفوزه بالميدالية الذهبية في أولمبياد الرياضيات العالمي، قائلا في هذا السياق إن "دراش شمس الدين عبد العالي .. مثال البذرة الطيبة من شباب جيل الجزائر الصاعد .. ينال البكالوريا بامتياز في دورة هذا العام, ويهدي الجزائر لأول مرة ميدالية ذهبية في أولمبياد الرياضيات التي جرت في بريطانيا العظمى. بك وبأمثالك تفتخر وتعتز الجزائر.. شكرا لك شمس الدين ولوالديك على هذا الشرف الكبير والتاريخي الذي منحته لوطنك".

وفي السياق، أكد نواري "لاحظنا اهتمام الدولة الجزائرية بمادة الرياضيات كتكريم المتفوقين في أولمبياد الرياضيات، وفتح ثانويات جهوية للرياضيات وتوجيه تلاميذ السنة الأولى ثانوي إلى شعبتي الرياضيات وتقني رياضي بمعدل لا يقلّ عن 20% من مجموع التلاميذ وفق ملمحهم الدراسي، وهي إجراءات ستساهم في تطوير المادة والتقليل من خوف التلاميذ والأولياء منها".

وفي هذا المنحى، أشاد نوري أنّ بقرار رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، فيما يخصّ اعتماد المدارس الخاصة، إذ يعتبر –حسبه-"وسيلة لتشجيع الاستثمار في مجال التدريس الخاص كالعلوم الدقيقة مثل مؤسّسات متخصصة في المواد العلمية الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعة والحياة، وتكنولوجيات الإعلام والاتصال والأمن السيبراني".

مقر الوكالة الفضائية الجزائرية (صورة: أرشيف)

ويقرّ أساتذة الرياضيات أنّ من بين أسباب سوء النتائج أحيانا في هذه المادة هو الخوف الموجود لدى التلاميذ وأوليائهم، وكثيرا ما يتمّ التسويق بصورة مبالغة بشأن صعوبتها وعدم فهمها، وهو وضع يحاول مدرسو المادة تجاوزه بشتى الطرق.

وحول هذا الأمر؛ قال الأستاذ ضياء الدين العمراني إنّ الطاقم التعليمي يعمل على تحفيز التلاميذ لدراسة هذه المادة وتطليق الخوف الذي يزرعه الأولياء داخلهم أحيانا، وذلك بتشجيعهم لدراستها، معتبرا أنّ "الاهتمام الحكومي يسهم في التشجيع لدراسة الرياضيات لكن لا يمس ذلك جميع التلاميذ بالنظر إلى أن الثانويات المتخصصة تستقطب أصحاب المعدلات العالية".

ويرى العمراني في تصريح لـ" الترا جزائر" أن الرقي بالمستوى التعليمي لمادة الرياضيات يجب أن يكون شاملا، وينطلق في البداية من تحسين الوضع المهني والاجتماعي للأستاذ ليكون قادرا على إعطاء الإضافة اللازمة ويتفرغ كليا لمهمة التعليم بدون أن ينشغل بقدرته الشرائية.

وبهدف الرفع من المستوى التعليمي؛ يقترح الخبير نواري أن يتمّ "تخصيص أستاذ رياضيات في مرحلة التعليم الابتدائي وعدم الاكتفاء بأستاذ يدرس كل المواد في هذه المرحلة، وإدخال الحساب الذهني في مرحلة التعليم المتوسط، وإدراج مفتش تعليم ابتدائي تخصص رياضيات، وإعادة النظر في البرامج للمادة في كل المراحل الثلاث، وخلق منافسات أولمبياد ولائي جهوي ووطني في مادة الرياضيات وتشجيعهم بجوائز قيمة".

لكن من المؤكد أنّ الاهتمام بتحسين مستوى التلاميذ الجزائريين في مادة الرياضيات يتطلب اهتماما خاصا حكوميا وبيداغوجيا، إلّا أنّ معالجة هذا الإشكال ومختلف القضايا التربوية الأخرى يجب أن يندرج ضمن رؤية إصلاحية شاملة تأخذ في الحسبان جميع المكونات الفاعلة في المدرسة، وفي مقدمتهم الأستاذ والتلميذ.