15-يونيو-2024
(الصورة: فيسبوك)

(الصورة: فيسبوك)

يبدو عيد أضحى 2024 مختلفًا عن سابقيه، فلأول مرّة تطرح بحدة مسألة عجز فئات عريضة من المجتمع عن اقتناء أضحية العيد التي ارتفع ثمنها في سنة واحدة بقرابة 4 ملايين سنتيم.

الأسعار المعروضة تبدو في المتناول، فالتبن يباع بـ 100 دج للكيلوغرام، والخرطال بـ 150 دج، أما الفحم فيباع بـ 250 دج للكيلوغرام

والظاهر أن الارتفاع الفاحش للأسعار الذي مس بروحية هذا العيد وفق متابعين، يقابله من جهة أخرى استمرار كثيرين في امتهان أعمال ظرفية قد لا تكون مجزية ماديًا غير أنها تحافظ، اجتماعيًا، على الذاكرة البصرية التي ترسّخت في المخيال الشعبي عن "العيد الكبير" على مدار أجيال، والذي حولته ظروف مادية لدى البعض إلى عيد صغير مكرر.

 

حد أدنى من العتاد

يداوم الشاب أيوب بَضياف 23 سنة، على مهنته الموسمية التي تعلمها من والده الذي كان يهوى بيع الأدوات والوسائل المرتبطة بعيد الأضحى، من تبن وفحم و مشاوى و أسطوانات خشبية لتقطيع اللحوم وغيرها من المستلزمات الخاصة بالذبح والسلخ وتعليق الأضاحي، لكن طاولته التي أخرجها هذا العام لا تبدو مليئة بتلك الإكسسوارات التي تصنع ديكور عيد الأضحى، وفي هذا الصدد يقول لالترا الجزائر: "فضلت أن تكون طاولتي لهذا الموسم متقشفة للحد الأدنى، فنظرًا لغلاء الكباش وعزوف كثيرين من ذوي الدخل الضعيف والمتوسط عن شراء الأضاحي، أن أبيع بعض المسلتزمات أخذًا بعين الاعتبار للوضعية الاجتماعية الطارئة، فاقتصر نشاطي على التبن والمشاوى المعدنية والفحم و أسطوانات تقطيع اللحم فقط، تخليت عن بيع السكاكين و الخناجر، لأن المواطن ليس مستعدًا لصرف مبالغ أخرى من أجل أدوات يتراوح سعرها بين 700 إلى 2000 دينار جزائري، يكفيه فقط سن آلاته القديمة". 

الأسعار المعروضة تبدو في المتناول، فالتبن يباع بـ 100 دج للكيلوغرام، والخرطال بـ 150 دج، أما الفحم فيباع بـ 250 دج للكيلوغرام، فيما يتراوح سعر المشاوى بين 500 إلى 700 دينار جزائري إلى 1500 دج، أما أسطوانات التقطيع الخشبية فبسعر 400 دج، ورغم ذلك يعقب: " حركة البيع بطيئة، قبل ساعات من عيد الأضحى، ربما تتسارع في اللحظات الأخيرة، والسبب أن كثيرا من المواطنين لم يحسموا خياراتهم بعد بين اقتناء كبش أو شراء جزرة".

وفي مقارنة بين الأعوام الفارطة وهذه السنة يوضح قائلًا: "في الأعوام الفارطة كنت أجني بين 3000 دج إلى 4000 دج، وثمة تراجع ملحوظ حيث بالكاد أربح 1000 دينار جزائري".

أما مبرر ممارسته لهذا النشاط فيوجزه مبتسمًا: "يساعدني هذا العمل على ربح قليل من المال تعينني على التكفل بمصاريفي الخاصة من لباس وأغراض، فأنا متربص في التكوين المهني، عمري 23 سنة لذا لا يمكنني أن أعتمد على والدي كي يتكفل بمتطلباتي الخاصة، صرت رجلًا وعليّ أن أكسب قوتي من عمل يدي وبعرق جبيني".

وهذا الشاب ليس وحده، فعلى طول شارع الكوزينة، المعروف بحيويته الاقتصادية، وسط مدينة باتنة والذي لا تخلو أية مدينة جزائرية من مثيله، هناك دائمًا شبان وكهول يحافظون على مشهدية العيد بمن حضر وبمن قرر التضحية، فمحلّات الجزارة المنتشرة على طول هذه الممرات والمقابلة لطاولات باعة التبن والفحم وأدوات الذبح والسلخ مشاهد غير مألوفة.

رائحة لحم وكفى

تشهد، ومنذ أيام، عدة قصابات توافدًا للرجال والنساء على حد سواء من أجل حجز كيلوغرامات من الذبائح أو الجزرة، فكثيرون على ما يبدو لن يضحوا لأسباب مادية قاهرة، دفعتهم إلى البحث عن البديل الجاهز وبسعر معقول،وفي هذا الصدد يقول عمار بودي 55 سنة، أب لستة أطفال، ببالغ الحرج " قررت أن أشتري حصصًا من ذبيحة، فمن سابع المستحيلات أن أقتني كبشًا يفوق سعره ستة ملايين سنتيم، فأنا موظف بمصلحة إدارية، ومرتبي لا يتيح لي شراء أضحية بثمانية ملايين سنتيم"

وبكثير من التأثر يضيف: " أعلم أن الأضحية سنة مؤكدّة لا يؤثم تاركها عن عجز أو حتى المقتدر حسبما سمعت من فتاوى في التيك توك، لكنها الأحكام الاجتماعية القاهرة، فهذه أول مرة أقرر فيها عدم الإيفاء بسنة النحر، بيد أني من جهة أخرى رغم حرقة الشعور بالعجز، حافظت على الحد الأدنى من العيد، لأسعد أطفالي وزوجتي بتناول اللحم أسوة ببقية المواطنين، فأنا لا أريد أن تترسّخ لدى أطفالي فكرة عدم قدرتي على التكفل بهم خاصة في مناسبة أفراح كهذه".

ويسرّ بائع أدوات مستعملة شيئًا من أساه لـ "الترا جزائر" قائلًا:" تلقيت عروض شراء مبردات وأجهزة تهوية ودراجات هوائية، من أرباب أسر قرروا بيعها من أجل تحصيل مبالغ تعينهم على اقتناء أضحية".

أما الجزار محمد السعدي فيقول لـ "الترا الجزائر: "هناك فئة فضلت اقتناء جزرة بدل كبش، فسعر الكيلوغرام هو 2600 دج، وبالتالي يمكن لهؤلاء التمتع بطهي اللحم وشوائه حفاظا على رائحة العيد بدل الالتزام بالطقس الديني"قبل أن يعقب معاونه منبهًا: "طبعًا لا تلام هذه الفئة المتضررة ماديًا، لكن ثمة حالات لمن فضل عدم التضحية كي لا يضحي بالعطلة الصيفية".

لكن الفرار إلى هذا الخيار الاضطراري قابله ارتفاع في سعر اللحم الذي قفز فجأة من 2600 دج إلى 3300 دج، كما لو الأمر استحال إلى مجرد استجارة من الرمضاء بالنار، أو "الهروب من عزرائيل إلى قبّاض الأرواح" كما يقول المثل. 

ضجيج المَبارد

يقف الشاب علي بن رمضان 35 سنة أمام منزله، عارضًا بالتين من التبن، وأكياس فحم سعة 10 كلغ و20 كلغ، ويمكن أن تلاحظ ذات الأمر أمام محلات بيع خضار وفواكه قرر أصحابها اقتناص الفرصة لغنم دراهم معدودات فيقول لي تاجر: "فضلت أن أحلب في ضرع مناسبة العيد علني أربح مالا يساعدني على دفع بعض مستحقات الكراء، فأنا مؤجّر عتبة لا صاحب دكان"، أما علي فلا يبدو أنه يعول على التبن و الفحم المجلوب من مؤسّسة بولاية سكيكدة بل على حجر الرحى التي يستعملها في شحذ السكاكين و الأمواس والسواطير.

ويبرر لي مهنته الطارئة قائلًا: "أعمل في إقامة جامعية وأنت تعلم أن موظفي الخدمات الاجتماعية هم الأقّل أجرة مقارنة بكافة القطاعات، لذا استغل فرصة العيد لأمارس هذه المهنة التي أداوم عليها منذ 10 سنوات كاملة، فلدي زبائن من أبناء الحي هم رأسمالي الذي يوفر لي مبالغ مالية خلال هذه الفترة، فأنت ترى أن أثمان الخردل و الكوسة تناطحان سعر الموز و الكيوي". قبل أن يضيف: "يساعدني هذا العمل على تدبير أموال لضمان مصروف أيام، بعدما كلفتني الأضحية تسعة ملايين سنتيم، فثمنها ثلاثة أضعاف مرتبي".  

تبدو أحجار الرحى المستعملة في تجليخ الأدوات الحادة معيارًا حقيقيًا على حلول العيد، فضجيجها وشظايا النيران التي تزفر بها وهي تملس أنصال الخناجر يجعلان من تخيل عملية النحر مستساغة بصريًا وسمعيًا، ويخلف ذلك اطمئنانًا بأن هناك من سيضحون مهما تكن الظروف.

الانتشار الملحوظ لأصحاب أحجار الرحى في الزوايا دليل على استمرار السنة دينيًا واجتماعيًا، فقد أخرج طفل آلته الموصولة بكابل كهربائي يتمون من قابس المنزل، قبل أن يشرع رفقة والده في شحذ أمواس الجيران، وبَرْد السواطير التي بدأت تتهاطل عليه محشوة في قطع كتان حتى لا تتسبب في جروح. بمجرد سؤاله عن الطلب رد  لـ"الترا جزائر": " تلقيت في هذه الصبيحة أكثر من 30 طلبية وسترتفع حتما خلال الساعات المقبلة لتبلغ الذروة في يوم عرفة حتى ساعات متأخرة من ليلة العيد".

تبدو أحجار الرحى المستعملة في تجليخ الأدوات الحادة معيارًا حقيقيًا على حلول العيد، فضجيجها وشظايا النيران التي تزفر بها وهي تملس أنصال الخناجر يجعلان من تخيل عملية النحر مستساغة 

الأسعار زهيدة وفي متناول الجميع، فهي تتراوح بين 50 إلى 100 دج لأمواس السلخ، ومن 150 دج إلى 200 دج لسكاكين النحر والسواطير، لذا لن تطرح أدنى مشكلة بالنسبة للزبائن، كما أنها لن تطرح أدنى مشكلة لأصحاب أحجار الرحى المنتشرين في الأحياء إذ يقول علي: "خدمتنا مضمونة لأصحاب الأضاحي وحتى للذين اقتنوا ذبائح، فكلاهما في حاجة لتقطيع اللحم وتصفيفه، إمضاء السكاكين مشهد لازم لطقس العيد، فيما تساعدني الأموال التي أربحها خلال أيام في التكفل ببعض مطالب أسرتي الكثيرة إزاء الغلاء الذي بات ظاهرة وطنية لا بل عالمية".