تعمل الحكومة على إعادة بعث نشاط عدة مؤسّساتٍ عمومية متوقفة منذ سنوات، في محاولة جديدة لتعويض الخسائر التي تكبدتها هذه الشركات جراءَ سياسات التسيير الخاطئة، التي أدت إلى تسريح العمال، رغم الأموال الكثيرة التي أُنفقت لإنقاذها من الإفلاس، فهل يمكن تحقيق ذلك بعد ابتعاد هذه المؤسسات لسنوات عن المنافسة والإنتاج؟.
أنفقت الحكومة على مر السنوات الماضية مبالغ ضخمة لإعادة هيكلة المؤسسات العمومية
تحاول السلطات بكل الطرق تحريك النشاط الاقتصادي خارج قطاع المحروقات، بتوسيع دائرة القطاع الصناعي لتشمل عدة مجالات تشكل قيمة مضافة تصب في رفع مداخيل البلاد من العملة الصعبة.
محاولة جديدة
إلى هنا، أعلن وزير الصناعة والإنتاج الصيدلاني، علي عون، قبل أيام خلال رده على سؤال برلماني شفوي تنصيب مجموعة عمل بالتنسيق مع المجمعات الصناعية والشركات القابضة العمومية التابعة للقطاع مكلفة بدارسة دقيقة لوضعية وحالة كل مؤسسة أو وحدة صناعية اقتصادية متوقفة عن النشاط، بغية اقتراح حلول لإعادة بعث نشاطها من جديد.
وكان الوزير الأول السابق أيمن بن عبد الرحمان قد أعلن في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قد صرح أن الحكومة تبنت عدة قرارات لإعادة بعث المؤسسات العمومية الاقتصادية المتوقفة عن النشاط، حيث ستمكن المؤسسات التي تملك مؤهلات التنافسية من تبوأ مكانتها في السوق الوطنية ولما لا الدولية.
وأشار وقتها إلى أن مجلس مساهمات الدولة قد اتخذ عدة قرارات لوضع حيز التنفيذ مخططات تطوير عدد من المؤسسات المتوقفة عن النشاط في انتظار مواصلة هذه العملية التي ستخص مؤسسات أخرى.
وحسب وزير الصناعة على عون، فإن إعادة بعث المؤسسات والوحدات الصناعية العمومية المتوقفة عن النشاط التي تعرف صعوبات كبيرة يشكل "تحديًا حقيقيًا" لقطاعه باعتباره "محورًا هامًا يكتسي أولوية خاصة".
وبيّن عون، أن مجموعة العمل المعنية كلفت بإعداد دارسة دقيقة لوضعية وحالة كل مؤسسة أو وحدة صناعية اقتصادية على حدى، ومن ثم اقتراح حلول لإعادة بعثها من جديد من خلال الإبقاء على النشاط نفسه مع اقتراح حلول عملياتية، وحتى إمكانية تغيير النشاط والتوجه نحو مجالات واعدة، وعقد شراكات عمومية-عمومية أو فتح رأسمال المؤسسة.
ولفت وزير الصناعة إلى أنه من أسباب عدم استرجاع العقارات المهجورة الموجودة على الواجهة البحرية ببلديات العاصمة، كحسين داي، ومحمد بلوزداد والحراش، العمل على إعادة بعث الوحدات والمصانع في هذه البلديات، والذي يشكل موضوع متابعة يومية من طرف مصالح قطاعه الذين هم بصدد دراستها حالة بحالة نظرًا لمحيطها العمراني وأخذًا بعين الاعتبار تأثير نشاطها على البيئة".
عملية حيوية
في هذا السياق، يرى أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف الدكتور فارس هباش أن إعادة بعث المؤسسات المتوقفة ليست عملية سهلة، كونها تشكل محورًا حيويًا واستراتيجيًا للاقتصاد الجزائري، فإعادة هيكلة هذه المؤسّسات التي تخص منتجات النسيج والميكانيك والبلاستيك والأدوات الكهرومنية، ستلعب في حال نجاحها دورًا حيويًا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وفق ما قاله لـ"الترا جزائر".
وذكر هباش أن توقّف هذه المؤسّسات العمومية عن النشاط مرده الفساد في التسيير وضعف الإدارة التي كانت تشرف عليها، وما صاحبه من نقص في التمويل، الأمر الذي أوصل بعضها حتى إعلان حالة الإفلاس.
وأشار هباش إلى أن أهمية نجاح إعادة هذه المؤسّسات المتوقفة عن النشاط تكمن بالدرجة الأولى في المساهمة التي تنعكس إيجابًا على النسيج الاقتصادي، بتحسين نوعية منتجاتها وتوفير مناصب عمل تساهم في امتصاص البطالة، وهي الأهداف التي لن تأتى إلا بالقدرة على الاندماج في الاقتصاد الوطني للمساهمة في الناتج المحلي الوطني، بالمساعدة في تحقيق رهان الأمن الغذائي والاقتصادي.
ليست الأولى
تشكل عملية إعادة بعث المؤسّسات العمومية المتوقفة تحديًا حقيقيًا للحكومة، بالنظر إلى أنها ليست المرة الأولى التي تُحاول فيها إنقاذ شركات مملوكة للدولة من الوضعية المالية التي تغرق فيها، ولعل مشاريع إعادة بعث مركب الحجار للحديد والصلب أحسن تجربة في هذا المجال، حيث خضع لعدة عمليات إعادة الهيكلة، منها الشراكة مع متعامل هندي، لكن كل التجارب السابقة باءت الفشل رغم استنزافه مليارات الدنانير من الخزينة العمومية، فيما تعول الحكومة على نجاح عملية إعادة بعثه الأخيرة في الفترة الماضية.
ويمكن الإشارة هنا أيضًا إلى مؤسسة "إنيام " للأجهزة الكهرومنزية التي تحاول الحكومة إعادة بعثها للمنافسة في السوق الجزائرية، رغم وجود عدة مؤسّسات من القطاع الخاص أثبتت تفّوقها في هذا المجال.
من جهته، ذكر الدكتور فارس هباش في حديث إلى "الترا جزائر"، أن في سنة 2022 خصصت الحكومة 3300 مليار سنتيم لإعادة بعث المؤسسات العمومية، ما سمح ببعث نشاط 17 مؤسّسة عمومية في العام ذاته و34 نهاية 2023، وفق البرنامج الذي وضعته وزارة الصناعة.
وأنفقت الحكومة على مر السنوات الماضية مبالغ ضخمة لإعادة هيكلة المؤسسات العمومية، اختلفت من حكومة لأخرى، فعلى سبيل المثال صرح وزير الصناعة السابقة محمد بن مرادي المدان بتهم فساد في 2011 عن رصد 16 مليار دولار لإعادة هيكلة وإنعاش القطاع الصناعي العمومي، لكن تلك المبالغ لم تقدم شيئًا وقتها جراء سياسة استباحة المال العمومي التي كانت منتهجة في العقدين الماضيين، الأمر الذي يحتم على السلطة الحالية اتخاذ كل التدابير لتفادي تكرار تلك الكوارث الإصلاحية.
وبالنسبة للدكتور فارس هباش، فإن تفادي ذلك أمر ممكن لأن الوزارة تملك عديد الخيارات في طريقة بعث المؤسسات العمومية المتوقفة إما بإقامة شراكات بين مؤسسات عمومية أو فتح رأسمال هذه المؤسسات لإيجاد مصدر تمويل لها، مع شرط القيام بدراسة دقيقة لطبيعة منتجات هذه المؤسسات العمومية ومتطلبات السوق الحالية، لأنها توقفت عن النشاط لفترة طويلة، وهو ما يتطلب تحيينا لإستراتيجيتها لتحقيق النجاح والاستمرارية وعدم تكرار أخطاء الماضي التي جعلتها تصل حتى الإفلاس.