26-أغسطس-2024
نساء جزائريات

عندما كانت كيليا نمور تعجن بيديها ميداليتها النفيسة بالنط مثل فراشة بين الأعمدة غير المتوازية، ثم لمّا كانت إيمان خليف تلاكم العالم مثل لبوءة في حلبة رولان غاروس، وترد على تغريدات سياسية و جندرية لإيلون ماسك ودونالد ترامب، وجي كي رولينغ كاتبة هاري بوتر، كان الجزائريون مبتهجين بميداليات أولمبية تتبارى فيها الشعوب لإثبات الوجود في اللوح الخالد.

قرأت مئات التعليقات الحزينة لنساء جزائريات، عبرن عن خيبتهن من عدم تحقيقهن لأحلامهن الطفولية التي ولدت معهن في المهد قبل أن تموت و تدفن في لحد تقاليد وأعراف مجتمع لا يعترف بالرغبات الحرة للأفراد

 لكنّي قرأت مئات التعليقات الحزينة لنساء جزائريات، عبرن عن خيبتهن من عدم تحقيقهن لأحلامهن الطفولية التي ولدت معهن في المهد قبل أن تموت و تدفن في لحد تقاليد وأعراف مجتمع لا يعترف بالرغبات الحرة للأفراد، بل برغبته الجماعية، وقد يتفاقم الأمر إلى المنع المقدس، إذا ما تعلق الموضوع بالمرأة لأسباب تتمحور كلها حول العيب الاجتماعي والأعراف والتقاليد.

إن معظم النساء التعيسات خلف ذلك الخبر السعيد، عبرن كما قرأت عن كوابح اجتماعية تأتي في الغالب من الآباء الذين يمنعون بناتهن من الرياضة بعد سن البلوغ، فسعاد تألمت لأنها لم تواصل لعبة كرة اليد، وفاطمة أحبطت عندما تذكرت أنها ضيعت مشوارا كبيرا في كرة السلة، ونهاد عبرت بحرقة تخليهما القسري عن مضامير العدو الريفي، بعدما كانت تحلم بمشوار شبيهة للغزالة حسيبة بولمرقة وتواترت تعليقات أرواح جريحة أنكأت جراحها القديمة كيليا نمور وبدرجة أكبر إيمان خليف التي صارت رمزا مقاوما للتنمر والعنصرية والتفسيرات الجندرية.

لقد احتلت صور إيمان خليف أشهر الجرائد والمجلات الأوروبية و الأمريكية، وطبعا فإن النساء التعيسات بهذا النصر يحركهن عقل باطن هو أنهن كن يحلمن دائما بالبطولة وتحقيق الذات، وخانهم بطلان " حقيقيان" صنعا بطلة شعبية من رحم الهامش والفقر ومعافرة الحياة، هما محمد عم إيمان خليف ثم والدها عمار.

إن البطلين الحقيقين في هذه القصة برمتها من البداية إلى النهاية كانا ولا يزالان هما هذان الرجلان البسيطان، اللذان عاشا في ريف ولاية تيارت، وفي بقعة منسية جغرافيا وتنمويا، لا أحد كان سيسمع بها لولا تلك الفتاة المشاكسة، ابنة قرية بيبان مصباح، حيث لا أبواب حديثة لمنازل بسيطة قريبة من الأرض، ولا مصابيح إنارة " لاد" مثل تلك المنتشرة بأحياء المدن الكبرى.

إن البطلين الحقيقين في هذه القصة برمتها من البداية إلى النهاية كانا ولا يزالان هما هذان الرجلان البسيطان، اللذان عاشا في ريف ولاية تيارت، وفي بقعة منسية جغرافيا وتنمويا

رغم تلك الظروف الاجتماعية التي ألقت بالقرية في غياهيب هامش الحداثة، والتي صنعت من تلك الأنثى العفوية " رجلا" منذ الصغر بالعمل خارج البيت بيعا للخبز والنحاس والبلاستيك، قبل الذهاب للتدرب في قاعة رياضة رجالية بعيدة عن البيت والأعين، هربا من أحكام الناس التي لم تستسغ فتاة تمارس رياضة قتالية عنيفة تسمى الفن النبيل،

وقد كان ذلك حلا للأشكال الاجتماعي ذي الطابع الذكوري الذي نشب بين محمد وعمار حول مصير تلك الفتاة التي لقيت معارضة الوالد وتفهم العم، بيد أن الأب الحريص على السمعة الاجتماعية المُملاة من الضمير الجمعي، سينتهي به المطاف بقبول الأمر إذ أنه لم يشهر سيف السلطة الأبوية القامع لردع حلم طفلته الصغيرة، وما بكاؤه ويقينه من انتصارها وافتخاره بها، غير دلائل ثابتة على معرفته بمعدنها الشخصي قبل الرياضي.

وخبر تتويج إيمان بالمجد الأولمبي المبهج كشف عمّا وراء الخبر من خيبة تعيسة عبرت عنها مئات النساء اللواتي رأين في إيمان امرأة نجحت حيث فشلن، فحققت بالتمثل أحلامهن المحرّمة، والمتكسرة على سفوح ترسانة من التقاليد والأعراف والتأويلات الاجتماعية، التي تعبر بصدق عن واقع الرياضة النسوية التي تدهورت في العقود الأخيرة.

هذا التدهور يكشف بالمحصلة النهائية، لا عن نساء خاضعات بل عن رجال خاضعين لذهنية اجتماعية لا تزال ترى في ممارسة المرأة للرياضة انتهاكا للعيب الاجتماعي والأعراف والتقاليد، فأنت لا تكاد تعثر اليوم عن فرق نسائية في الرياضات الجماعية مثل السلة واليد والطائرة، سوى في مناطق محددة في البلاد، فيما يستحيل أن تعثر على فرق في مناطق شاسعة في وطن بحجم قارة، وحتى لو عثرت على فرق ستلحظ أمرا لافتا هو أنهن طالبات مقيمات قادمات من ولايات أخرى، قررن أن يمارسن هوايتهن في " سرية" كما لو أنهن مهربات أحلام ممنوعة، في مجتمع لم يعد كما كان قبل العشرية السوداء.

 لذا يندر أن تجد فيه ذهنية محمد و عمار اللذان سقيا شجرة إيمان خليف الوارفة، لكن هذه الشجرة تخفي وراءها غابة الرياضة النسوية التي تتعرض للوأد شيئا فشيئا كلما أتجهنا صوب المستقبل.