يتحدّث المؤرّخ والباحث رابح لونيسي، عن أهمية مؤتمر الصومام بالنسبة إلى ثورة التحرير الجزائرية، وسياقه السياسي واللوجستيكي، وأهداف هذا الاجتماع وظروف انعقاده والصراعات والخلافات التاريخية التي حامت حوله، ويعتبر أن أرضيته لم تقل بأولوية السياسي على العسكري كما روّج له.
رابح لونيسي: مؤتمر الصومام شكل نواة الدولة الوطنية ولم يقل بأولوية السياسي على العسكري
ويقرأ لونيسي في حوار إلى "الترا جزائر"، أسباب غياب ممثل الولاية الأولى وممثل الوفد الخارجي، ودوافع إعادة تشكيلة مكتب لجنة التنسيق والتنفيذ في القاهرة سنة 1957، ودور العربي بن مهيدي في المؤتمر، والأفكار التي روّجت لها المخابرات الفرنسية قبيل ثورة التحرير.
- هل يمكن أن تُطلعنا على السياق الأيديولوجي وظروف الثورة المادية والبشرية بعد اندلاع العمل المسلح في الفاتح نوفمبر 1954 وقبيل انعقاد مؤتمر الصومام في 20 آب/ أوت 1956؟
كانت الظروف صعبة جدًا حيث حاصر الجيش الاستعماري كل المناطق، خاصّة الأوراس، كي لا تمر الأسلحة الآتية من مصر عبر تونس وليبيا، ولم يكن يوجد أي تنسيق أو اتصال بين مختلف المناطق، وكانت فرنسا تروج أن الثورة قد انتهت، مما أدّى إلى انحطاط معنويات الشعب، وهو أحد الأسباب التي دفعت الشهيد زيغود يوسف إلى القيام بهجومات 20 آب/أوت 1955 في الشمال القسنطيني في وضح النهار، لرفع تلك المعنويات وفك الحصار عن الأوراس، فأثبت أن الثورة لازالت مستمرة، وأعطى لها دفعا جديدًا، مما جعلني أسميه بـ "منقذ الثورة" في كتاب لي حوله.
- ماهي دوافع انعقاد مؤتمر الصومام؟
اتفق مفجرو الثورة على الاجتماع بعد ثلاث أشهر لتقييم الثورة، لكن الحصار الذي تحدثت عنه آنفًا واستشهاد ديدوش مراد واعتقال بن بولعيد وبيطاط جعل من الصعب الاجتماع، فبعد مرور أشهر وتوفر الظروف ونجاح عبان رمضان وإخوانه في إقناع مختلف الأحزاب بالالتحاق بالثورة (الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لفرحات عباس وجمعية العلماء والحزب الشيوعي وكذلك المركزيين)، إضافة إلى هيكلة مختلف شرائح المجتمع (الطلبة، العمال ، التجار، النساء) جعلت قيادة الثورة تفكّر في عقد الاجتماع الذي قرره أصلًا مفجرو الثورة عشية اندلاع الثورة.
- لماذا وقع الاختيار على منطقة إيفري أوزلاڨن الخاضعة لسيطرة الولاية الثالثة؟
تم اقتراح عدة أمكان بما فيها الشمال القسنطيني، لكن في الأخير تقرر عقده في قلعة آيث عباس ببجاية، لكن تم تغيير المكان مرة أخرى إلى إيفري أوزلاقن بعد ما حامت شكوك بأن الاستعمار يمكن أن يكون قد عرف بعقد اجتماع في القلعة.
أخذ بعين الاعتبار الموقع الجغرافي للمكان بصفته يقع وسط الجزائر، مما يسمح لكل الوفود الوصول إليه سواء الآتية من الغرب أو الشرق أو الوفد الخارجي وبقطع مسافة معقولة نوعًا ما، كما أن المنطقة كانت محاصرة بشكل كبير بالجيش الاستعماري، وهو ما يجعل العدو لا يفكر إطلاقًا في انعقاد اجتماع في مكان تحت سيطرته كليًا، إضافة إلى تجنّد الشعب في المنطقة إلى جانب الثورة، وهو ما يصعب عملية حدوث أيّة وشاية كما يقول المجاهد أجاوود الذي شارك في تأمين الاجتماع تحت قيادة عميروش آيت حمودة.
- ما هي أهم مخرجات مؤتمر الصومام؟
نجح المؤتمر في تنظيم وهيكلة الثورة عسكريًا وسياسيًا، كما شكل نواة للدولة الوطنية من خلال حكومة مصغّرة تسمى بلجنة التنسيق والتنفيذ التي ستتحول بعد سنتين إلى الحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية، وكذلك تشكّل مجلس وطني للثورة يشبه المجلس التشريعي، وله السلطة العليا كما يضم كل المناطق والاتجاهات السياسية، كما فصل المؤتمر في شروط التفاوض مع فرنسا التي لا تختلف مع الشروط التي وضعها نداء أول نوفمبر، كما أعطي للثورة أرضية سياسية، وهو في الحقيقة تفصيل وشرح لما ورد في نداء أول نوفمبر الذي لم يكن يتجاوز صفحة واحدة، كما قرر المؤتمر مبدأين أثارا ضجة وخلافات حولهما فيما بعد، وهما أولوية الداخل على الخارج وأولوية السياسة على العسكري.
- هناك بعض التحفظات حول شرعية قرارات مؤتمر الصومام من بينهم عدم حضور ممثل الولاية الأولى وغياب ممثل الوفد الخارجي، ما رأيك؟
هذا مبرر اتخذه معارضو قرارات الصومام لإفقاده أيّة شرعية، ومنهم بن بلة ومحساس، وهو موقف يعود في الحقيقة إلى صراع حول السلطة، وليس خلاف حول الأرضية أو القرارات المتخذة، يجب أن نعرف بأن في سنة 1956 كانت أغلب قيادات الثورة بما فيها عبان رمضان في الداخل وبن بلة في الخارج، يعتقدون أن استرجاع الاستقلال قد اقترب بسب بعض الاتصالات الواقعة مع وفود فرنسية سواءً في الداخل أو الخارج كالقاهرة وبريوني وغيرها.
هذا الشعور هو الذي دفع إلى وجود صراع حول السلطة والتفكير في مرحلة ما بعد استرجاع الاستقلال، وهذا يمس كل الأطراف، خاصة عبان رمضان الذي يشعر بدعم داخلي قوي وكذلك بن بلة الذي له أيضًا أنصاره، ويحظى بدعم مصري كبير، فهناك ملاحظة لابدّ أن نسجلها، وهي أنه كلما شعرت مختلف الأطراف بقرب استرجاع الاستقلال يحتد الصراع حول السلطة، فتنشب أزمات، فهذا ما وقع مثلًا عشية اتفاقيات إيفيان الذي أنتج أزمة صيف1962.
أما بخصوص غياب الأوراس، فالمؤتمرون لم يسمعوا بأن بن بولعيد قد استشهد، لأن قيادة الأوراس أخفت السر على الجميع كي لا تحط معنويات الشعب، وقد أرسلت دعوة له، لكن جاء أخوه عمر بن بولعيد في مكانه كي يأخذ الشرعية من المؤتمر، لأن الأوراس آنذاك كان يعيش نوعًا من الفوضى والصراعات حول خلافة بن بولعيد.
أما الوفد الخارجي، فقد أرسلت لهم الدعوة أيضًا، وهي منشورة في كتاب "رسائل الجزائر-القاهرة 1956" ، نشرها مبروك بلحسين، وطُلب منهم إرسال إثنين على الأقل لحضور المؤتمر، وتم التفاهم معهم على كل شيء، لكن بن بلة وخيضر لم يتمكنا من تجاوز الحدود، أكيد لهم أسبابهم، فلم يُقصٍ المؤتمر لا منطقة ولا الوفد الخارجي، لكن من المؤكّد أن عدم حضورها أضرّ بالإجماع وببعض قرارات الصومام.
- من بين التحفظات على شرعية مخرجات المؤتمر، هي أن وثيقة الصومام تم تحريرها من عناصر لم تنتمي إلى التيار الاستقلالي، على غرار عمر أوزڨان الذي كان عضوًا بارزًا في الحزب الشيوعي الجزائري، ما رأيك؟
استقال عمار أوزقان من الحزب الشيوعي منذ فترة طويلة بسبب بعض مناورات الحزب التي رفضها، ويمكن لنا القول إنه اقترب من التيار الاستقلالي لأن الاختلاف الأساسي بين الحزب الشيوعي والتيار الاستقلالي هو في تحديد الأولويات؛ فالتيار الاستقلالي يُعطي الأولوية للمسألة الوطنية واسترجاع الاستقلال على حساب المسألة الاجتماعية على عكس الحزب الشيوعي الذي كان أيضًا تابعًا للحزب الشيوعي الفرنسي، ويعمل حسب مصالح المعسكر الشرقي الشيوعي حتى ولو كانت على حساب مصالح الجزائر.
فلا ننسى أن نجم شمال أفريقيا في البداية كان فرعًا للحزب الشيوعي الفرنسي مهمته تنظيم عمال شمال أفريقيا، فهو قريب نوعا ما من اليسار ومتأثر به إلى حدّ ما، كما أن عمار أوزڨان اقترب أيضًا من العلماء، وكان يكتب مقالاته دوريًا في مجلة "الشاب المسلم"، التي تصدرها جمعية العلماء بالفرنسية ويرأسها أحمد طالب الإبراهيمي.
فقد كان أوزڨان شديد الانتقاد للحزب الشيوعي الجزائري الذي كان أمينه العام، لكن لعلمك لم يكن أوزڨان هو الوحيد الذي كتب أرٍضية الصومام، فهناك آخرون مثل عبان رمضان وبن خدة وعبدالرزاق شنتوف وغيرهم، وقد كان عبان حريصًا على تنقية الأرضية من أيّة تأثيرات شيوعية يمكن أن تكون من بصمات أوزڨان الذي يبدو أنه بقي مأثرًا بالأدبيات الماركسية، ونشير هنا، بأن الذين يركزون على أوزقان لم يكن هدفهم إلا إعطاء صبغة شيوعية للأرضية، وكأنه انحراف عن نداء أول نوفمبر.
لكن في الحقيقة هذه الأرضية لا تختلف إطلاقًا عن أدبيات الاتجاه الاستقلالي، خاصّة المنبثقة عن مؤتمر 1952 للحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية، فللعلم كل مواثيق الجزائر حتى 1988عام كلها كانت استمرارية لهذه الأدبيات، ولا تختلف كثيرًا عن أرضية الصومام بداية من برنامج طرابلس وميثاق 1964 وميثاق 1976 وكذلك ميثاق 1986، فهي في الحقيقة تعبير تام عن أدبيات الاتجاه الاستقلالي انطلاقًا من نجم شمال أفريقيا ثم حزب الشعب الجزائري ثم الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية.
- هل التغييرات في تشكيلة لجنة التنسيق والتنفيذ وإلغاء أولوية المدني على العسكري ولا فرق بين الداخل والخارج بعد اجتماع الأول للمجلس الوطني للثورة في20/27 آب/ أوت سنة 1957 بالقاهرة تَعُدُ تغييرًا في موازين القوى أم استجابة إلى واقع الثورة؟
أكيد هذه المنطلقات والمبادئ أثارت خلافات غذتها مصر عبد الناصر كثيرًا، طبعًا بعد خروج لجنة التنسيق والتنفيذ أصبح لا معنى لأولوية الداخل على الخارج، أما أولوية السياسة على العسكري، فلم تقل الأرضية ولا المؤتمر بأولوية المدني على العسكري، ولم تقل أيضًا أولوية السياسي على العسكري، فهي قالت في الحقيقة أولوية السياسة (le politique) على العسكري أي أن الهدف سياسي تستخدم فيها الوسائل العسكرية كأداة لتحقيق الهدف السياسي كما يقول الألماني كلاوزفيتز، فلم يكن هناك تمييز بين سياسي وعسكري، فقائد الولاية مثلًا سياسيي وعسكري في نفس الوقت، لكن وقع تلاعب عند ترجمة هذا المبدأ من الفرنسية إلى العربية بتحويل كلمة "سياسة" إلى سياسي، وكأن العسكريين يجب أن يخضعوا للسياسيين.
ونعتقد أنها لعبة لإثارة هؤلاء العسكريين ضد عبان الذي فقد نفوذه في مؤتمر القاهرة 1957 بسبب الانتقادات الكثيرة التي وجهت له، ومنها تحميله مسؤولية اتخاذ قرار إضراب الثمانية إيام 1957 الذي أعتبر خطأ فادحًا لأنه كان سببًا في تفكيك تنظيم جبهة التحرير الوطني في العاصمة برغم أن بن مهيدي كان مصرًا على إضراب شهر، وليس ثمانية إيام، كما كان معهم كريم بلقاسم الذي انقلب على عبان بحكم سوء تصرفات عبان معه والصراع حول السلطة والنفوذ بينهما.
- في مذكرات لخضر بن طوبال يرفض هذا الأخير رفقة أحمد بن بلة صيغة أولوية المدني على العسكري، في رأيك ما هي القراءة الصحيحة لهذا القرار؟
لا نعتقد أن بن طوبال كان يرفض ذلك في قرارة نفسه، لكن هذا لا يمنع وجود شكوك لديه بأن عبان وبن مهيدي يريدون السيطرة على الثورة، لكن ما رفضه بن طوبال ومعه زيغود يوسف في المؤتمر، هو إصرار عبان وبن مهيدي على إدخال عناصر من خارج المنظمة الخاصّة التي أشعلت فتيل الثورة، ليس كمشاركين، لكن رفضوا إعطاءهم مسؤوليات قيادية خوفًا من اختراق الثورة والسيطرة عليها.
فمثلًا بن بلة يلوم عبان رمضان في رسالة منشورة على إدخاله العلماء قائلًا له "لم يبق إلا هؤلاء المعممين إدخالهم إلى الثورة"، فبن بلة كان ينظر إلى جمعية العلماء بنفس نظرة عبد الناصر إلى الإخوان المسلمين في مصر.
هناك تقرير لبن بلة أرسله إلى لجنة التنسيق والتنفيذ يصف فيه عبان بأنه "هضيبي"، وهي إشارة منه إلى مرشد الإخوان المسلمين حسن الهضيبي، كما كان لبن بلة الموقف نفسه من كل قيادات تيارات الحركة الوطنية مثل فرحات عباس، وهو ينطلق من نفس نظرة عبد الناصر الذي أراد التخلص من السياسيين القدماء.
فمثلًا يروجون أن زيغود قال إن الثوة انتهت بعد مؤتمر الصومام، ويعتقدون أنه يقصد وجود انحراف في المجال الأيديولوجي، فهذا ليس صحيحًا، ويتطرق إليه بوضوح بن طوبال في مذكراته، فما قصده زيغود يوسف هو صعود أعضاء من المركزيين والعلماء وجماعة فرحات عباس إلى مقاليد السلطة في الثورة، منها لجنة التنسيق والتنفيذ والمجلس الوطني للثورة وغيرها.
- كثيرًا ما يُسلط الضوء على دور عبان رمضان في مؤتمر صومام، غير أن العربي بن مهيدي كان الشخصية الأقوى والأقدم سياسيًا، ما كان دور العربي بن مهيدي في المؤتمر؟
بن مهيدي هو الذي ترأس المؤتمر، أما عبان فكان المقرّر، لكن التركيز على عبان دون بن مهيدي هدفه أيديولوجي، ورغبة في إعطاء صبغة للمؤتمر
تخدم معارضيه، كل هذا الكلام عن مؤتمر الصومام وعداء البعض له مصدره في الحقيقة كتاب لصحفي فرنسي يعمل مع المخابرات يدعى سرج برومبرجر (Serge Bromberger ) عنوانه "المتمردون الجزائريون"، فهو الذي نشر فكرة أن المؤتمر هو "انقلاب قبائلي"، وتم الترويج لذلك بشكل كبير، وكل هذا في إطار سياسة "فرق تسد" التي لم تتخل فرنسا عنها قط طيلة الثورة.
رابح لونيسي: المخابرات الفرنسية روّجت لكتاب "الجزائر المقبلجة" قبيل الاستقلال يحذر فيه من سيطرة مجاهدي منطقة القبائل على الثورة
فحتى عند قروب استرجاع الاستقلال روجت المخابرات الفرنسية لكتاب خطير يحذر فيه من سيطرة مجاهدي منطقة القبائل على الثورة وعلى الجزائر بعد استرجاع استقلالها، فعنوان الكتاب هو "الجزائر المقبلجة L’Algerie Kabylisée" من تأليف جون موريزو ( Jean Morizot ) نشره عام 1962، فهو نفس الكلام الذي يروجه اليوم البعض في وسائط التواصل الاجتماعي، فالكثير مما يروج عن تاريخ الجزائر منذ القديم إلى تاريخ الثورة وما بعدها تدخل في إطار الأيديولوجية الاستعمارية الفرنسية، فهؤلاء يكررون نفس مقولات هذه الأيديولوجية الاستعمارية للأسف الشديد، فهذا موضوع يطول ليس هنا مكانه.