09-ديسمبر-2019

ما تضمنته المحاكمات من أرقام يعبر عن مرحلة كاملة عاشها النظام الجزائري (Getty)

قبل عشرين سنة بالتمام والكمال، جاء الرّجل حاملًا في يده اليمنى مشروعًا اسمه "المصالحة الوطنية" هتفت له الجموع الغفيرة، وصفقت له الأيادي، وذرف الرجال قبل النساء الدموع، وما أغلاها دموع الرجال ممن ذاقوا ألم همجية الإرهاب، وما أصعبها أن تطلب امرأة الموت على أن تتعرض للاغتصاب أو السبي. قبل عشرين سنة، كنت وقتها تلميذة في كرسي قاعة التحرير تتعلّم، لم أفهم وقتها كيف انسحب المرشحون الستة من سباق رئاسيات 1999 قبل سويعات من انطلاقها وبقي الرجل وحيدًا.

لا يبعث حجم الأرقام التي ذكرها الموقوفون على ذمة التحقيقات على المفاجأة، فهي الشجرة التي تخفي غابة الخراب الذي تركته مجموعة من المسؤولين في أعلى هرم الدولة الجزائرية

بعيدًا عن خلفيات تلك الاستحقاقات، تذكّرت ما قاله أحد رموز جبهة التحرير الوطني، الرجل الحكيم، عبد الحميد مهري رحمه الله، في ندوة في آب/أوت 2011، عن شهوة السّلطة، إذ هي أقوى من أي شهوة بشرية أخرى، فيما معناه أن "السلطة لها شهوة تدفع بالإنسان إلى الإقبال عليها والتمسك بها وحماية نفسه بها ومحيطه أيضًا. يصبح الإنسان بعد فترة من انغماسه في شهوة السلطة غير قادر على التخلص منها ويعتبر أن بقاءه فيها مسالة وجودية، وحتى وإن خرج منها، تسبب له ألمًا قد يطول لسنوات أخرى، فكيف له أن ينسى مكانته عند الآخرين، طبعًا مكانته الصورية".

اقرأ/ي أيضًا: قضية تركيب السيارات.. رجال أعمال ووزراء بين الاعتراف والتنصّل من المسؤولية

عندما يستقيل من المنصب أو يُدفعُ دفعًا لترك الكرسي، يجد نفسه كالهائم في الصحراء القاحلة الجرداء، يطلب شربة ماء فلا مجيب، كأن يتلقى تحية ممن كانوا بالأمس القريب يتهافتون لزيارته وتقديم له المزايا والهدايا بالمليارات، ومن يتقربون إليه فقط من أجل كسب رضاه، ومن يبجلونه ويوسعون له المجلس ويرفعون صورته عاليًا في التجمّعات وبين الحشود حتى وإن كانت صورته عبارة عن إطار خشبي.

شهوة السلطة والكرسي سِيان، فمن جلس على كرسي المسؤولية، تجده يتلذذ بتلك "الهيبة" التي يعطيها له الكرسي الفاخر، بل ويضيف إليها البعض من توابل حركات الجسد، والتركيز على اليدين لإعطاء الأوامر أو اللّعب على وتر إنزال الرأس وتقريب الأذن لسماع من يكلموه، في إشارة إلى تواضع كاذب، والترويج  لصورة أنه هو الآمر والناهي، والكلّ يتسارع للمس يديه وتحريك الرأس بإماءة الاتفاق مع ما يقوله سرًا وعلانية، بينما هو يتلذذ بإعطاء الأوامر، وتقليم الأظافر لكل من تسوّل له النفس بالتحرك عكس تياره.

شهوة السلطة والكرسي لا تختلف باختلاف المناصب من أعلى الهرم إلى قاعدته، وهنا أتذكر أنني يومًا دخلت إلى مؤسسة عمومية من أجل مقابلة مسؤول ليجيب على تساؤلاتي الأكاديمية، فوجدت نائب المدير وليس المدير. بعد ساعة من إجراء المقابلة، تفاجأت بسماع صوت خافت يرحّب بي من الخلف ويقول لي أنا المدير فلِم أجريت معه المقابلة؟ مشيرًا بيده إلى زميله نائب المدير. ابتسمت طبعًا فمن حقّه أن يحتجّ، لكن قفزت إلى ذهني فكرة واحدة: "مشكلته أنه المدير وليس ما قاله نائبه من معلمات عن تلك المؤسسة".

شهوة الكرسي حماية لصاحبه ومحيطه، فكيف يمكن له أن يستمر في المنصب، دون أن يحيط به أتباعه ومريدوه، وأحبابه وأصدقاؤه وأقاربه، حتى يخاف الكل من زوجته وأبنائه ومن يحملون لقبًا مثل لقبه، وحتى هناك من يستعمل ذلك اللقب لترهيب الآخرين لقضاء مصالحه، لكنّ كل الأمثلة في التاريخ وعلى مر العصور والأزمان، خلصت إلى نتيجة واحدة وهي أن من أحاط نفسه بزمرة من الرجال، هم أنفسهم من سيطيحون به، طال الزمن أو قصر.

شهوة الكرسي تُعمي الأبصار والبصيرة وتُذهِب العقل والضمير، وتجعل من المتمسك به يتغير نفسيًا وسلوكيًا، يحاول كل يوم أن يستزيد ثراء، فتغيب عنه الأهداف الحقيقية المدرجة في نطاق مسؤوليته، وتبتعد عنه رسالته الأسمى من اعتلاء ذلك المنصب، بل ويصبح شكل الكرسي وديكور المكتب هو همّه الوحيد، فتتعاظم الإغراءات، وتتوسّع معها "العين" لرؤية المال "السّايب" حالها مثل حال ذلك المثل القائل: "لذة الأكل تأتي ونحن نأكل"، هكذا هي شهوة السلطة والمسؤولية، وضع الكرسي الذي كان باردًا فصار ساخنًا.

في الجزائر يُحاكم اليوم من عرفوا للكرسي معنى ومن خَبَروا لذة المنصب، من رموز نظام بوتفليقة. من منظوري لا يبعث حجم الأرقام التي ذكرها الموقوفون على ذمة التحقيقات على المفاجأة، فهي الشجرة التي تخفي غابة الخراب الذي تركته مجموعة من المسؤولين في أعلى هرم الدولة الجزائرية.

حجم المدخرات في الحسابات البنكية للموقوفين لا يبعث على المفاجأة أيضًا، بقدر ما يعبّر عن ذلك العطب الذي افتعلوه في نفوس كل جزائري، وتلك الخدوش التي أصابت روح كلّ جزائري، وما خفي كان أعظم.

حجم الحقائق والتصريحات التي بدأت تتساقط من ألسنة الموقوفين، تؤكد مرة أخرى الحكمة الصالحة في كل مكان وزمان: "من يسرق بيضة يسرق ثورًا، ومن يسرق دينارًا يسرق مليارًا".

حجم الجرح الذي فتحته العدالة الجزائرية بما لها وعليها، وبما نتفق معها ولا نراه موائمًا في هذا الظرف السياسي الحساس، يبعث على مراجعة القيم التي باتت هي اللّوح المنقذ، في كل زمان ومكان، فعندما نتّفق على القيم كشعب، يمكننا أن نلجأ إلى طوق النّجاة، المتوفر دومًا، فقط علينا بأن نحترِس من شهوة الكرسي، إلا من يرفع صوته عاليًا ويقول "نقدِر عليها".