يُشبه طمعُ الصّهاينة في الاحتفاظ بفلسطين طمعَ الفرنسيّين في الاحتفاظ بالجزائر، خلال سنوات ثورة التّحرير، ويُشبه إيمان المقاومين الفلسطنيّين بطرد المحتلّ الصّهيونيّ إيمان المجاهدين الجزائريّين بطرد المحتلّ الفرنسيّ.
إنّ للشّعوب منطقًا غير منطق الأنظمة والمخابر، يجعلها تدرك عفويًّا صديقها من عدوّها
وتشبه عرقلة مسار المقاومة من طرف خونة فلسطينيّين، عرقلةَ مسار ثورة التّحرير الجزائريّة، من طرف "الحركى"، ويشبه قول البعض إنّ هجمات المقاومة في فلسطين جرّت الويلات على المدنيّين، ويوغلون في نشر وذكر مشاهد الخراب النّاتج عن القصف العشوائيّ قولَ البعض في جزائر خمسينيّات القرن العشرين إنّ جبهة التّحرير لم تفكّر في العواقب، ويشبه انحياز الدّول الغربيّة إلى الاحتلال الفرنسي انحيازَها، اليوم، إلى الاحتلال الصّهيوني.
ويشبه ذهاب بعض الكيانات الدّينيّة، اليوم، إلى القول إنّ الجهاد في فلسطين مفسدة، قولَ البعض بالأمس إنّ ثورة الجزائريّين على الفرنسيين معارضة لأقدار الله، ويشبه الخلاف الفصائليّ بين الفلسطنيّين، اليوم، خلافًا فصائليًّا جزائريًّا قبيل الثّورة وبُعيدها.
بل إنّ قيام دولة الاحتلال الصّهيونيّ لفلسطين ارتبط بنهاية الاحتلال الفرنسيّ للجزائر، فالفارق الزّمنيّ بين النّكبة في فلسطين واندلاع الثّورة في الجزائر ستّ سنوات فقط؛ فكأنّ الاحتلال الأوّل كان خليفةً للثّاني، فالتقيًا على مشروع القنبلة النّوويّة عام 1956. ولم يتخلَّيا عن بعضهما إلى غاية اليوم، حتّى أنّ فرنسا ضحّت بصورتها الدّيمقراطيّة، وجرّمت حمل العلم الفلسطيني في الفضاءات العامّة.
انطلاقًا من هذه السّياقات، وغيرها كثير، فَهِمَ الفلسطينيّ أن ليس هناك مسار ثوريّ في التّاريخ جدير بأن يتّخذه نموذجًا للإيمان بإمكانية الانتصار، في ظلّ سحائب من اليأس والتّيئيس، حتّى من طرف المحيط العربيّ، مثل النّموذج الجزائريّ. وفهم الجزائريّ أنّ تحرير فلسطين هو استكمال لتحرير الجزائر، وإن قراءةً لخلفية نصرة الجزائريّين للحق الفلسطيني، رسميًّا وشعبيًّا، لا تراعي هذه المعطياتِ التّاريخيةَ هي قراءة ساذجة وغير فقيهة في تشعّبات التّاريخ التّحرريّ المعاصر.
إنّ للشّعوب منطقًا غير منطق الأنظمة والمخابر، يجعلها تدرك عفويًّا صديقها من عدوّها
إنّ للشّعوب منطقًا غير منطق الأنظمة والمخابر، يجعلها تدرك عفويًّا صديقها من عدوّها. ومن يشبهها من الشّعوب ممّن ليس كذلك. ومن هو صادق معها في التّضامن والتّعاطف ومن يتاجر بذلك، فتنشأ بينها وبين الشّعوب الشّبيهة شبكةُ علاقاتٍ غير قابلة للاختراق والاحتراق، مهما اجتهدت المخابر المنزعجة من تلك العلاقات في تشويهها والتّشويش عليها. وتأتي علاقة الشّعبين الجزائريّ والفبسطينيّ في طليعة هذا النّوع من العلاقات.
هل ثمّة مناصرون رياضيّون في القارّات الخمس يهتفون، حين يُسجّل الفريق الخصم في مرمى فريقهم؟ لقد فعلها الجزائريّون، حين واجه فريقهم وديًّا الفريق الفلسطينيّ؟ ولم يتركوا مقابلةً كرويّةً، ضمن البطولة الوطنيّة، أو ضمن التّظاهرات الكرويّة العالميّة، كانت آخرَها تظاهرة كأس العالم في قطر، من غير أن يهتفوا لفلسطين. وقد قاطع الرّياضيّون الجزائريّون كلّ المنافسات التّي جمعتهم برياضيّين إسرائليّين، حتّى إنّ بعضهم ضحّوا بمساراتهم الرّياضيّة في عزّ العطاء والنّجوميّة؛ في المقابل، لم يترك الفلسطينيّون مناسبةً بما فيها تلك التّي يواجهون فيها جيش الاحتلال، من غير أن يحملوا فيها العَلَم الجزائريّ.
هل ثمّة مناصرون رياضيّون في القارّات الخمس يهتفون، حين يُسجّل الفريق الخصم في مرمى فريقهم؟
وقد انتشرت فيديوهات في مواقع التّواصل الاجتماعيّ، والأمر رامز جدًّا وليس عابرًا، عُرضت فيها مبالغُ مغرية على فلسطينيّين، مقابل حرق العلم الوطنيّ الجزائريّ، وعُرضت أخرى على جزائريّين، مقابل زيارة إسرائيل، فثار الشّباب المستجوَبون من الطّرفين، في وجه المنابر التّي استجوبتهم، بمن فيهم الأطفال القصّر، رغم حاجاتهم الواضحة إلى المال! إذ تصّرف الواحد منهم عفويًّا بصفته ينتمي إلى الطّرف الثّاني، لإدراكه أنّه شبيهه الحقيقي في التّاريخ والمخيال، تمامًا مثلما يشبه الاحتلالُ الصّهيونيّ الاحتلالَ الفرنسيّ.
فمثلما تترك لطخةُ الحبر نقطةً منها في الثّوب الأبيض، بعد غسلها، صنع الغربُ الكيانَ الصهيونيَّ، مع بداية المدّ التّحرّري في العالم، ليحفظ ذاكرته الاستعماريّة. وما العدوان الثّلاثيّ منه فرنسا على مصر في خمسبنيّات القرن العشرين إلّا دليل صارخ على ذلك.
غير أنّ ما يغيب عن هذا الغرب الذّي يرعى هذا الكيان، أنّ دوله جميعَها لم تستطع ان تستمرّ في مستعماراتها، رغم القرون التّي قضتها فيها. وهو المعطى التّاربخي والإنسانيّ الذّي على الكيان أن يستوعبه، مثلما استوعبته جيّدًا المقاومة الفلسطينيّة، فراحت تدفعه بذكاء وشجاعة وروح تضحية عالية، إلى ما آلت إليه الاحتلالات السّابقة.
علينا أن ننتبه إلى أنّ الكيانات السّياسيّة والفكريّة العربيّة التّي تدعم الكيان الصهيوني أو تسكت على مجازره في فلسطين، هي الكيانات التّي نشأت تاريخيًّا ضمن الحاضنة الاستعماريّة الغربيّة
هنا علينا أن ننتبه إلى أنّ الكيانات السّياسيّة والفكريّة العربيّة التّي تدعم الكيان الصهيوني، أو تسكت على مجازره في فلسطين، هي الكيانات التّي نشأت تاريخيًّا، ضمن الحاضنة الاستعماريّة الغربيّة. فهي منسجمة، في موقفها السّلبي من خيار المقاومة، مع طبيعة نشأتها، مثلما سيكون مآلها منسجمًا مع مآل هذا الكيان.