17-أبريل-2022
(الصورة: أحسن وجهة في الجزائر)

(الصورة: أحسن وجهة في الجزائر)

تجتمع غالبية العائلات الجزائرية حول مائدة الإفطار خلال شهر رمضان، وفي العادة يرتشفون القهوة أمام التلفزيون لمشاهدة برامج رمضانية مختلفة أغلبها ينقسم بين ما هو ديني أو ترفيهي، خاصة عقب آذان المغرب، غير أنّ أعينهم تكون موجهة إلى شاشة التلفزيون تارة، وإلى شاشة الهاتف الجوال تارة أخرى.

باتت السّهرات الرمضانية محكومة بالتّرفيه الذي تبثه القنوات التلفزيونية

في خضّم كل هذا، تكاد ما يُسمّى محليًا بـ "القعدة" أو اللمّة الجزائرية، تغيب عن بيوت الجزائريين، وإن حاولت بعض العائلات إحياء عادات الشهر الفضيل، إلا أن "القعدة" أصبحت ثقافة قديمة أو بالأحرى عادة غير متاحة اليوم في زمن "السوشيال ميديا" وزمن المسلسلات سريعة الاستهلاك.

تغلّبت وسائل التواصل الاجتماعي أو"القعدة" الافتراضية، أو "القصرة" والمحادثات الجماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي على القعدة الحقيقية الواقعية، التي كانت تمارسها النساء في البيوت والرجال في المقاهي خلال سهرات رمضان، وباتت هذه اللحظات المقتطعة من زمن الشهر الفضيل عبارة عن وقت هلامي أو زئبقي لا يمكن الإمساك به إلاّ مع النوم أو انتظار فترة السحور.

"القصرة" أو " القعدة" أو " الجلسة"، عدة تسميات تطلق على الجلسات النّسوية الخاصة، إذ هي إحدى عادات رمضان خلال الزّمن الجميل حسب سكينة مزهود من منطقة "سيدي بويحي بولاية ميلة شرق الجزائر، مؤكّدة أنها تتذكّر رمضان في الماضي بالحنين إلى تلك السهرات الرمضانية التي تتخلّلها الضّحكات والنّكات وحتى الغناء الشعبي الذي تستعمل فيه الطّبلة، وتؤدّي فيها رفقة أترابها من الفتيات أغاني شعبية خاصة بمنطقتها.

تلك المشاهد والذكريات صارت عبارة عن أفكار أو "كليشيهات" حسب تعبير المتحدثة لـ "الترا جزائر"، اختفت مع مرور الزمن، ففي ذلك الزّمن كان التلفزيون فيه أمر ثانوي وقليل العائلات التي تمتلكه، وكانت فيه "قعدات زمان تعادل العرس المليء بالبهجة والفرحة الفرحة والسعادة والتّسامر فيما بين الأحبة".

تعتبر "القعدة" حسب السيدة مزهود، أمر ملازم لسهرات رمضان في الجزائر، وتسمى بـ"القعدة" لأن النساء يجلسن في وسط البيت على الزرابي إذ تتميز بيوت " ميلة القديمة" حسب السيدة مزهود ببناءاتها العثمانية وعمرانها الذي تتخلله " زنقات" في شكل دروب صغيرة تؤدّي لمختلف السكنات بالحي العتيق.

وتتميز البيوت بفناء الدّار أو " السّْحين " أو وَسط الدار" كما يطلق عليه في مختلف اللهجات الشعبية الجزائرية، إذ في كلّ يوم تزور النساء بيتًا محدّدًا لتقام فيه السّهرة حول صينية الشاي والقهوة والزلابية والمقروط المطهي في الفرن، يطلق عليها أيضا جلسات " القسرة"، مشدّدة على أن " حلاوة سهرات رمضان ونكهته تكون في تلك اللمة التي لا تخلوا من الترفيه النسوي" حدّ تعبيرها.

بهجة السّهرة

تعتبر "البوقالة" زينة "القعدة" خلال السّهرات الرمضانية في تلك الفترة، إذ لفتت سميرة آيت حمي التي تقطن بالعاصمة الجزائرية أن " البوقالة هي عبارات تراثية موزونة المعنى، وفيها الكثير من الحكم وورثتها النساء من أفواه الجدات من خلال تجاربهم اليومية".

وبذلك، لا تخلو البيوت من " البوقالة" التي تعتبر بهجة " القعْدة" أثناء لمّة التّسامر فيما بين النّساء، إذ يتمّ إحضار إناء فخاري وتضع فيه كل واحدة من النّساء خاتمًا مصنوع من الذّهب ويشترط أن تقوم المرأة الكبيرة في السن بتمرير الإناء على الحاضرات لسحب خاتم من بين الخواتم، وبالتالي سيكون من حظّ صاحبته أن تنوي وتعقد عقدة النية في لباسها، بأن تكون الحكمة التي ستقال هي المقصودة بها، وتكون فأل خير عليها، في لعبة ترفيهية مشوّقة وترفع المعنويات وترتفع معها الضحكات أيضًا.

فُسحة

طيلة السّهرة وعلى هذا المِنوال، يتمّ تمرير الإناء والأدوار من امرأة إلى أخرى ومن فتاة إلى نظيرتها في الجلسة، وتأخذ كلّ واحدة من الحاضرات حظّها من الحكم التراثية والأمثال الشعبية التي تحتفظ بها "البوقالة"، لتتواصل السّهرة ليلة كاملة تتخلّلها الأحاديث الجانبية والأمثال الشعبية، وتستأنس بتجاذب أطراف الحديث حول مستقبل الفتيات والخطبة والزّواج والمشاغِل الاجتماعية اليومية، في أجواء من الأُلفة والحب والإخاء بحكم علاقات القرابة والجيرة.

علاقات جامِدة

هذه الإطلالة التي ميّزت ذلك الزّمن الجميل، بكل لمساته وعاداته، تعيد الكثيرين إلى حقيقة يشهدها زمن اليوم، يومنا هذا، تملِك شطرا إيجابيا يتمثّل في سرعة الاتصال والتواصل بسبب التّكنولوجيا، أما الشطر الثاني فهو سلبي أثّر على الروابط العائلية والسعادة التي تغمر أفرادها والعلاقات الإنسانية عموما. 

صارت الرّمزية الاجتماعية لـ"القعدةّ الرّمضانية"، بعيدة كلّ البعد عن الطابع الاحتفالي البهيج، بسبب جهاز الهاتف النقّال ومنصّات التواصل الاجتماعي التي عوّضت اللقاءات الحقيقية وأعطتها بعدا آخر، عنوانه لمة الكترونية.

لا تقتصر " القعدة" على النساء، حتّى بالنسبة للرجال تغيّرت جلساتهم في المقاهي، إذ بات المقهى كفضاء مادي يجمعهم حول طاولة واحدة، أو على مستوى زوايا الأحياء بين لعبة " الورق" أو" الدومينو"، بينما "تجدهم غارقون في بحور لا مواقع التواصل الاجتماعي أو متابعة فيديوهات أو أغاني".

المكان واحد بينما العقول في شاشة الهاتف، هكذا وضف وليد محمودي صورة جلسات الرجال في السهرات الرمضانية، قائلًا لـ"الترا جزائر" "بعيدًا عن العبادات وصلاة التّراويح فإن لغة السوشيال ميديا هي عنوان سهرات بعض الرجال أيضًا، تجدهم قريبون في المكان الواحد لكنهم بعيدون في عقولهم"، حدّ تعبيره.

وأكد أستاذ علم النفس بجامعة البليدة السعيد مصمودي لـ"الترا جزائر" على أن الهاتف الذكي ومنصات الشّبكة الاجتماعية أحد عوامل "إبعادنا عن بعضنا البعض، حتى ولو كنا في المكان نفسه وبالبيت الواحد وفي الغرفة نفسها ،ونتناول الطّعام على الطاولة نفسها".

ومن ناحية أخرى، تختلف "القعدة" المخبأة في ذاكرة الزمن الجميل وجلسات اليوم عن المواضيع المطروحة واقعيًا وافتراضيًا، وقال الأستاذ مصمودي في هذا الإطار إن التكنولوجيا غيّرت نوعية الأحاديث وبدّلت زوايا الاهتمامات، وأغرقت الكثيرين في مواضيع سطحية وصارت الخصوصية منعدمة تمامًا.

هنا، يعترف المتحدّث أن كثيرًا من الناس يحنون إلى ذلك الزّمن الجميل، إذ تسبّبت المواقع الافتراضية حسبه "في استِباحة الخصوصية العائلية وصار الجميع يطلّ على الجميع من بوابة  فيسبوك وتيكتوك وانستغرام"، حسب قوله.

جلسات افتراضية

بين "القعدة" التي سافرت لسنوات طويلة عبر الزّمن الجميل الذي زار البيوت الجزائرية، باتت السّهرات الرمضانية محكومة بالتّرفيه الذي تبثه القنوات التلفزيونية، فيما لا يمكن لأي شخص أن يستغني عن هاتفه، والاطّلاع على المنشورات والتعليق أيضًا أو الإبحار في المواقع والفيديوهات، والمشاركة أيضًا في جلسات افتراضية تلتهم الزمن وتمنع عن رواد المنصّات الإلكترونية قيم اجتماعية باتت آيلة للزّوال لولا أن شهر رمضان وحّد الجميع أثناء الإفطار، وجمعهم على لقمة واحدة.

حوّلت منصات التواصل الاجتماعي العالم إلى قرية صغيرة، تربطها شبكة واحدة عبر الفضاء الرقمي كما قالت نادية بن زيان الباحثة في أثر الفضاء الافتراضي على الثقافة الجزائرية، كما ألغت فيه الحدود الزمانية والحواجز المكانية، ومكّنت من نقل المعرفة وتبادلها فيما بين البشر.

صارت الرّمزية الاجتماعية لـ"القعدةّ الرّمضانية"، بعيدة كلّ البعد عن الطابع الاحتفالي

وبالرغم من الخدمات التي منحتها المواقع الاجتماعية للأفراد، قالت بن زيان في إفادتها لـ"الترا جزائر" أنها تهدّد ثقافات بأكملها، وتجعلها في خانة الماضي والذّاكرة فقط، إذ انتجت مجتمعات افتراضية بلا روح ويصعب التحكّم فيها، أو مراقبتها وانسلاخها من القيم الخاصة بكل مجتمع، في مقابل أنها تعيد تشكيل ثقافات وهويات جديدة، تمحو ثقافات بلدان، على حدّ قولها.