19-نوفمبر-2019

ريما سلمون/ سوريا

تعود مسألة الأنتليجنسيا المغاربية إلى النقاش، مع كتاب جديد صدر عن دار ميم الجزائرية بعنوان "الأنتليجنسيا المغاربية، المثقفون: أفكار ونزاعات"، لصاحبه فلاديمير ماكسيمينكو، ترجمه من الروسية إلى العربية، الأكاديمي والصحافي الجزائري عبد العزيز بوباكير.

التمس فلاديمير ماكسيمينكو أن النخبة المغاربية مرت بثلاث مراحل، مرحلة اندماجية ومرحلة ثورية ومرحلة البقرطة

لم يطرح الكتاب النقاش السائد عند المفكّرين العرب والمستشرقين والمستعربين، حول حضور أو غياب الأنتليجنسيا في العالم العربي عمومًا والمغاربي خصوصًا، فهذا النقاش عرف تموّجات ومنعرجات كثيرة أدّت في نهاية المطاف إلى طريق مسدود، ويعود سبب هذا الانسداد إلى أنّ نفي الأنتليجنسيا كفئة أو كطبقة أو كجماعة سوسيولوجية، يعدّ ضربًا من ضروب إسقاط سياقات غربية على عالم يختلف في تركيبته الاجتماعية وفي سيرورته التاريخية عن العالم الرأسمالي.

اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والتاريخ: العروي يتأمَّل نفسه

لقد توصل مثلًا المفكران الجزائريان الراحلان عبد القادر جغلول وعمار بلحسن، إلى أن التاريخ يشهد على غياب أنتليجنسيا جزائرية، بسبب غياب الحواضر العلمية والاستعمار والشعبوية التي سادت بسبب تواجد شبه دولة ذات توجّه بيروقراطي بعد الاستقلال.

حاول فلاديمير ماكسيمينكو أن يطرح مسألة الأنتليجنسيا من منظور مغاير، فبعيدًا عن منطق النفي والإثبات راح يبحث الظاهرة من زاوية التكوّن، فأهمّ فكرة طرحها الكتاب، تكمن في أن الكثير من الدارسين، حسب الكاتب، قاربوا الأنتليجنسيا كحالة قبلية وموجودة ومكتملة، ونسوا أن هذه الفئة الاجتماعية لا يمكنها في سياق الدول النامية إلا أن تكون بصدد التكوّن والتبلور والانوجاد.

لم يرد فلاديمير ماكسيمينكو أن يعطي تعريفًا قاطعًا للأنتليجنسيا، فحسب رأيه، كل المحاولات التي رامت مفهمة هذه الفئة باءت بالفشل بسبب التعقيد الذي يكتنف الظاهرة، خاصّة عندما يتمّ التركيز على البعد الاجتماعي التاريخي وتغيب آلية الوصف كوسط سوسيو-ثقافي، ولكن من جهة أخرى، لم يتوان الكاتب في ربط نشوء ملامح الأنتيليجانسيا المغاربية بظهور الاستعمار كسياق أساس في ذلك. ونستشعر هنا رائحة الجدلية الماركسية في مقاربة الاستعمار؛ بحيث ساعدت كثيرًا البنى الحداثية الرأسمالية على تفجير البنى التقليدية للمجتمعات المستعمَرة، فاندحرت الأنتليجنسيا التقليدية لتترك مكانها لأنتليجنسيا قيد النشوء.

جاء في الصفحة 11 من الكتاب: "ويرتبط وصف الأنتليجنسيا كوسط سوسيو-ثقافي بالدرجة الأولى بكون هذه الأنتليجنسيا لم تبرز، سواءً في البلدان المغاربية أم في أيّ بلد آخر من بلدان آسيا وإفريقيا كنتاج أهلي صرف للبني الاجتماعية المحليّة، والصراع الاجتماعي الذي ولدت في خضمه يمثّل في كل مكان احتكاكًا للعناصر الاجتماعية بالعنصر الثقافي للتأثير الغربي الأوروبي، من الأفكار التنويرية البرجوازية حتّى المعتقدات الاشتراكية المعاصرة".

إن مقولة ردّ اللحظة التنويرية العربية إلى التلاقح مع البنى اللبيرالية أو الاشتراكية في سياق الاستعمار فقط، تتغافل وتكاد تنفي الملكة الإبداعية التي جعلت مجتمعات الأهالي تعطي لمستها في بلورة مبادئ عن الحريّة تختلف نوعًا ما عن مفهوم الأنوار الأوروبي، وكدليل على ذلك دأبت الدراسات الكولونيالية وما بعدها وانتقادات العقل الاستشراقي ودراسات التابع على متابعة والحط من غلواء العقل الأوروبي المتعجرف والملوّث بالكونيات، مبينة بأن العقل المحلّي والثقافة الأهلية كان لهما دورٌ بارز في الفاعلية الاجتماعية.

حينما دخلت الأنتليجنسا في مرحلة الاستقلال فقدت بريقها بسبب انتفاء السياق الاستعماري الذي كان مؤججًا لتواجدها

التمس فلاديمير ماكسيمينكو أن النخبة المغاربية مرت بثلاث مراحل، مرحلة اندماجية ومرحلة ثورية ومرحلة البقرطة. ففي الفصل المعنون بـ"رواد الأنتليجنسيا الحديثة"، اختار صاحب الكتاب النموذج التونسي في القرن التاسع عشر، واعتقد بأن المدرسة الصادقية التي امتازت بمحاولة الجمع بين روح التراث والحداثة الغربية بطريقة تلفيقية مثلت نموذج الأنتليجنسيا الاندماجية أحسن تمثيل، فلم يكن غرض هذه النخبة، بسبب رقيّها الاجتماعي، نقد المستعمر أو مقاومته بقدر ما كان غرضها الأساس إيجاد مناطق تلاق بين الثقافتين: الأهلية والاستعمارية.

فرانس فانون، طبيب نفساني وفيلسوف اجتماعي فرنسي

لم يقلّل ماكسيمينكو من قيمة هذه الأنتليجنسيا، فحسب رأيه، تكمن قيمة هذه النخبة في خلق توترات سوسيو-ثقافية وضعت العلاقة المتواجدة بين الأهالي و"المعمرين" في حالة اختبار للاندماجية باء بالفشل.  تعود قيمة الفتيان إلى تعبيد الطريق أمام أنتليجانسيا صاعدة من جيل آخر امتازت بالقطيعة والثورية العاطفية: "إن الفتيان التونسيين والجزائريين والمغربيين هم رواد الأنتليجنسيا المعاصرة، وكانوا قليلي العدد ومليئين بالأوهام، لكن منهم ومعهم ولد في تونس والجزائر والمغرب نموذج حركة اجتماعية جديدة وغير معروفة من قبل، حركة من أجل إصلاح منظم وموجه للمجتمع في أبعاده الوطنية الشاملة وكانوا هم الأساس البشري والاجتماعي الجديد الذي دفع بحياته ونشاطه بالدرجة الأولى تلك المجموعات المتأخّرة في تطورها نحو التاريخ العالمي، مكسرًا الانغلاق ومتجاوزًا الإقليمية، وممزقًا التصورات البالية والعلاقات الاجتماعية الصلبة". (ص47)

نفهم من هذا القول بأن هذه النخبة، على الرغم من طابعها الكومبرادوري، ساهمت بشكلٍ مباشرٍ في توليد نخبة استراح أصحابها من طرح مسائل تتعلق بقيمة التحديث بين مؤيدين وخصوم، وراحوا يطرحون بعمق أكثر مسائل الحداثة الغربية ويستفيدون كحالة بروميثيوسية من الفكر الغربي الحرّ ليقلبوا الطاولة على الاستعمار.

لم يغادر الكاتب النموذج التونسي، على الرغم من بروز النموذجين الجزائري والمغربي، لكي يحلل الطريقة التي تشتغل بها الأنتليجنسيا الراديكالية الديموقراطية، ورأى بأن نموذج الدستور الجديد بقيادة أفكار بورقيبة شَكَّل سيمياء دالة على النخبة التي ساهمت في بلورة وعي بالكفاح استغلّت فيه كل الطرق لتصفية البلد من الاستعمار. إن الفرق بين النخبة التنويرية والنخبة الراديكالية المتحرّرة يكمن، حسب الكاتب، في البعد الاجتماعي، وبالضبط، في التمايز الطبقي بين النخبتين: "لقد كان الفتيان التونسيون يمثلون حركة الفئات العليا من المجتمع التونسي القديم التي لامست الثقافة الجديدة، أما الدستوريون الجدد، فهم أنصار للعناصر البرجوازية اللبيرالية واللبيرالية الشعبوية". (ص58).

لم تكن الأنتليجنسيا الراديكالية، كما فهمها الكاتب، بعيدة عن البرجوازية الوطنية، ولكن، لكيلا نقع في التطرّف الذي سقطت فيه الفانونية (نسبة إلى فرانز فانون) حيث وُصفت هذه البرجوازية بالتقاعسية وبالانتهازية، فإنّه يجب أن نفرق بين نوعين من البرجوازيات الوطنية، واحدة تتّسم بأنها تشبّعت بروح التحرّر وراحت تطالب بالاستقلال رغم لاثوريتها، وثانية سقطت في الكومبرادورية، وراحت تترصّد كفة الميزان لكي تتخندق وتتموضع مع الحالات التي تخدم مصالحها الطبقية ورغباتها.

عمار بلحسن، باحث سوسيولوجي جزائري

حينما دخلت الأنتليجنسيا في مرحلة الاستقلال فقدت بريقها بسبب انتفاء السياق الاستعماري الذي كان مؤججًا لتواجدها، فراحت تتراجع ثوريتها لتسقط في عملية بقرطة، اتسمت بالروتين والخمول الفكري. في هذا السياق يتطرّق ماكسيمنكو للبرجوازية البيروقراطية محلّلًا وراميًا بكل ثقل الكتاب على هذا النوع من الأنتليجنسيا.

لم يكن الكاتب ضدّ المثقّف العضوي الذي شكّل ظاهرة أخذت حصة الأسد من الدراسات الاجتماعية، فطبيعة المجتمع النامي الجنيني المتكون اقتضت الإسراع في الاستفادة من النخبة التي تمتاز بكونها احتياطًا خامًا وبكونها تنتج أفكارًا تقسم، بذلك، العالم ما بعد الاستعماري إلى تزايد في العمل اليدوي وتكاثر في العمل غير اليدوي (الفكري).

 ولكن لو عدنا إلى الواقع التاريخي، لوجدنا بأن المثقّف العضوي بالمعنى الغرامشي ما فتئ يتراجع بسبب صعود سياسات شعبوية ترفض النخبوية وتكرّس التقليدوية المقيتة، في هذه اللحظة عرفت البلدان المغاربية نزيفًا فكريًا تجسّد في هجرة أدمغة كانت إحصاءاتها دالة جدًا. وعرفت نشوء حالة إفراغ النخبة من وظيفتها التاريخية  فتولدت عدمية انبثق عنها: "المثقف الراديكالي الخالي من أية نزاهة مهنية، ومن أيّة روح لأداء رسالة غير مغرضة يشعر بنفسه مغبونًا ومهانًا. وهو يشبه ذلك الموظف البيروقراطي الحامل للمزايا بالقوّة، ويعتبر نفسه حاملها بالفعل".(ص100)

في سياق إفراغ النخبة من التزاماتها ومسؤولياتها التاريخية، بسبب السياسة الشعبوية المتّبعة من طرف النخب الحاكمة، يتم الانتقال من العالم الأنتليجنسي إلى العالم البيروقراطي ويتحول المثقّف إلى باحث عن المزايا والمصالح الضيقة. لم تعرف الأنتليجنسيا تآكلًا مثلما عرفته في هذه الفترة، وامتاز هذا التآكل بأنه ذو طبيعة فوقية وتحتية، ساهمت في اعتواره السياسات عن طريق الدولنة المبقرطة، والشعبويات التي أصبحت مطية ووسلية سهلة لامتطاء صهوة المناصب العليا.

عبد الله العروي، مفكّر ومؤرّخ مغربي

لم يتوقّف صاحب الكتاب عند هذا الحدّ، بل راح يعطي مثالًا على بعض القضايا التي تبين وضعية الأنتليجنسيا في مرحلة بناء الدولة القومية؛ فمسألة الثقافة الوطنية كما طرحها فانون وقضية تصفية الاستعمار في التاريخ كما جاءت في أفكار محمد شريف ساحلي وقضايا التقليدوية والفرق بينها وبين التقليدية كما جاءت في كتابات مصطفى لشرف وعبد المجيد مزيان وعبد الله العروي، ومفهوم القابلية للاستعمار كما أثثه مالك بن نبي، كل هذه التمظهرات بينت بأن الأنتليجنسيا مركبة ومعقدة وبينت بأن عقم هذه الجماعة الفكرية لا يعود فقط إلى مثالية وأوهام النخب، بل يعود كذلك إلى نمط إنتاج كولونيالي خلق حالة تبعية شملت كل المجتمع بكل أشكاله وأطيافه.

إن كتاب الأنتليجنسيا المغاربية رسم بطريقة أصيلة مسارات تكوّن النخب في الدول المغاربية النامية

إن كتاب الأنتليجنسيا المغاربية رسم بطريقة أصيلة مسارات تكوّن النخب في الدول المغاربية النامية، مبيّنًا شكلًا متفردًا من حفريات الثقافة، تم فيها الانتقال من التنويرية إلى البقرطة مرورًا بالراديكالية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

طبعة جديدة من "السياسة" لأرسطو

الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن