بقي الناقد مخلوف عامر، أستاذ الأدب في جامعة سعيدة، 500 كيلومتر غرب الجزائر العاصمة، وفيًا لمشروعه النقدي الّي باشره في سبعينيات القرن العشرين، هادفًا إلى مواكبة جديد الأدب الجزائري شعرًا وقصّةً وروايةً، إذ يُعدّ من النخبة النقدية القليلة التي ساهمت في تكريس أقلام كثيرة، خاصّة قبل الانفتاح الإعلامي، حيث كانت الجرائد الجزائرية تُعدّ على أصابع اليد الواحدة.
"ألوان من الحكي" يقارب الناقد مخلوف عامر 10 مجموعات قصصية و28 رواية
في كتابه الأخير، "ألوان من الحكي" (دار القبية، 2016) قارب تسعة عشرة إصدارًا قصصيًا وثمانيةً وعشرين روايةً، لأقلام توزعت على مختلف أجيال السّرد الجزائري المعاصر، واشتركت في كونها تكتب باللغة العربية، ما عدا سليم باشي الذي يكتب باللغة الفرنسية، وقد سبق للباحث أن نشر بعض هذه المقاربات على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تحت عنوان "جدير بأن يُقرأ"، أي أنها قراءات تستند إلى الذوق أكثر من استنادها إلى المنهج، وهو ما جعلها تلقى ترحيبًا واسعًا من الكتّاب الجزائريين، بوصفها تزكيةً من ناقد يُعرف بنزاهته ونأيه عن الصّراعات الشللية التي باتت تنخر المشهد الجزائري.
اقرأ/ ي أيضًا: عفيفي مطر.. جائزة للشعراء الشباب
في باب القصة القصيرة، يقول الباحث إنه بات رائجًا أن الفن القصصي بات في أفول، ومردّ ذلك إلى أن الرواية قد اكتسحت المشهد الأدبي، وأصبحت مركبًا للعبور إلى شاطئ الشّهرة، "وقد انساق الباحثون أنفسهم مع الموجة الروائية، إذ يكفي أن نراجع ما أُعدّ من دراسات أكاديمية لنتأكد من هذه الحقيقة، فضلًا عن أن معظم الدراسات تتناول أعمال أسماء مكرّسة محدودة".
هذا الوضع، يقول مخلوف عامر، هو ما دفعه إلى أن ينكبّ على رصد جديد المنجز القصصي الجزائري، ومحاولة رصد مواطن الإضافة والتقليد فيه، "فتبيّن لي أن هناك أقلامًا جادة، تبشر بمستقبل واعد لهذا الفن، بامتلاكها أحدث التقنيات في الكتابة السردية بما تستوجبه الكتابة الأدبية من بعد تخييلي، في مقابل تجارب أخرى لم تخرج من الدائرة التقليدية".
ويلاحظ الباحث أن المتون القصصية التي اختارها، مهما تفاوتت في مستويات لغتها، وفي خصوبة خيالها أو فقره، وفي بنيتها السردية تقليدًا وتحديثًا، "إلا أنها تنطوي جميعًا على هاجس عميق يحضر في قلب الكتابة وهو الانشغال بالوطن". يشرح هذا المنحى: "سواء انطلقت القصة من مكتب أو قرية أو شارع، ولو ناجت الذات أو البحر، إلا أنها تتمدّد لتطال ما هو أوسع".
نجد من الجيل القديم بشير بويجرة وعبد الحميد بورايو وبشير خلف ومحمد مفلاح، ومن الجيل الوسيط سعيد بوطاجين وعبد العزيز غرمول وعبد القادر زيتوني وعلال سنقوقة وسعيد موفقي وقلولي بن ساعد وزين الدين بومرزوق، ومن الجيل الجديد خليل حشلاف وعمّارة كحلي وعبد الباقي كربوعة وعبد الكريم ينّينة وعبد الله كروم وحفيظة طعام.
عن تجربة هذه الأخيرة في مجموعتها "وشوشات منتصف الليل" (2008)، يقول عامر "إن القصة القصيرة ومضة من الحياة، وهي أقرب إلى اللحظة الشعرية، يُستغنى فيها عما يمكن الاستغناء عنه، وإن حفيظة طعام، لديها قدرة واضحة على الاقتصاد في اللغة، واختيار العناوين المعبّرة". في المقابل يقول عن تجربة بشير بويجرة في مجموعته "في يوم الجب": "فإذا ما علمنا أن المجموعة كتبت في فترات متباعدة ثم لم تصدر إلا عام 2004، أدركنا أنه كان في وسعه أن ينظر إلى ما بلغته الكتابة السردية من الاستثمار في الأدوات الفنية المستجدّة".
في باب الرواية، يشير الكتاب إلى أن فترة سبعينيات القرن العشرين، هي التي شهدت ميلاد الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، من خلال رواية "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة، ورواية "رمّانة" للطاهر وطار عام 1971، مسبوقة بالرواية المكتوبة باللغة الفرنسية، من خلال العديد من التجارب، خاصة تجربتي محمد ديب وكاتب ياسين الذي أصدر رواية "نجمة" عام 1956.
ويرى الباحث أن انخراط هذه الفترة في المقولات الأيديولوجية المختلفة، خاصة اليسارية منها، على حساب الرهان الجمالي، بالنسبة لكثير من التجارب، جعل قطاعًا واسعًا من الروائيين الجدد، يآخذونها على هذا الأساس، من غير أن يأتوا بالجميل والجديد من جانبهم. "كان أحرى بهؤلاء أن يلتفتوا إلى ما ظهر من إنتاج أدبي طيلة هذه المدة خاصة من خلال ممارسة النقدية التي ظلت شبه غائبة إلى اليوم".
القصة القصيرة ومضة من الحياة، وهي أقرب إلى اللحظة الشعرية
اقرأ/ ي أيضًا: رحيل عبداللي.. همزة وصل مع الثقافة التركية
من الأسماء التي تضمّنها الكتاب ربيعة جلطي وعبد الرزاق بوكبة وإسماعيل يبرير وأحمد حمدي ومحمد جعفر وفيصل الأحمر، وتشترك في أن بداياتها كانت شعرية، وتختلف في المبررات الموضوعية التي كانت وراء هذا الانتقال الذي وقف عنده الباحث مطولًا، بحكم أنه بات يشكل ظاهرة في المشهد الجزائري، بشكل يجعلها جديرة بالانتباه والدراسة.
ولم يخلُ الكتاب من ملاحظات ساخرة وطريفة، من ذلك "الغريب أن بعض الذين يكتبون قد فاق إنتاجهم أعمارهم، فلا ندري كم من الوقت يخصّصونه للمطالعة، أما إذا كانت لهم أسر يقومون عليها، ويشاهدون التلفزة، ويستعملون وسائل التواصل لاجتماعي، ويقضون حاجاتهم الطبيعية، فإن الأمر يحتاج إلى جرعة مضاعفة من الدهشة".
اقرأ/ ي أيضًا: