عقب مدّ وجزر في ملف الذّاكرة بين الجزائر وفرنسا، عادت الجهود الرامية للمصالحة لتعود إلى نقطة البداية، وسط توقّف أعمال اللجنة التاريخية المشتركة بين البلدين، التي كان من المنتظر أن تضع خارطة طريق للتفاهم حول الملفّات العالقة.
أطراف فرنسية تحاول تزييف ملف الذّاكرة أو إحالته على رفوف النسيان
توقّفت الاجتماعات بقرار جزائري، تعبيرا عن الاستياء من عدم تحقيق تقدّم ملموس والخلافات السياسية المحتدمة مؤخّرا بسبب انقلاب السياسة الفرنسية في ملفات ثنائية وإقليمية حسّاسة تتجاوز هذا الملف الحارق.
وعلى الرّغم من نجاح أعمال اللجنة في استرجاع نحو مليوني وثيقة أرشيفية من فرنسا وإثارة مسألة إعادة مقتنيات شخصية للأمير عبد القادر الجزائري، فإنّ الوصول إلى حلّ قضايا مركزية، كملفات المفقودين خلال الثورة الجزائرية، وبيانات التّجارب النووية ومواقع دفن النفايات وخرائط الألغام لا يزال بعيد المنال.
فالجانب الفرنسي، الذي يشير إلى غياب إطار تشريعي واضح يعرقل الاستجابة للمطالب الجزائرية، يتبنّى مقاربة "التنازل المتدرّج" في معالجة القضايا التاريخية. وقد شهد هذا المسار المخطّط له، اعترافات جزئية بمسؤولية فرنسا عن إعدام قادة من الثّورة التحريرية الجزائرية ومسانديها من غير الجزائريين، مع تداول أنباء عن إمكانية الاعتراف بمسؤوليتها في إعدام الشّهيد الرمز العربي بن مهيدي، بعد 67 عاماً من الإنكار، رغم أنّ الرواية الرسمية الفرنسية لا تزال تصر على أنّه انتحر في زنزانته بعد توقيفه إثر عملية تمشيط بوسط العاصمة الجزائرية في خضم " معركة الجزائر".
وخلال اجتماع له بفريق المؤرخّين الفرنسيين في أيلول/ سبتمبر الماضي، لم يعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن قرارات جديدة على الرغم من تلقيه لائحة مطالب من فريق المؤرخّين، مكتفيا بتكرار الخطاب نفسه الذي دأب عليه مند إنشاء لجنة المؤرخين قبل 27 شهراً، معربا عن رغبته في نجاح العمل الذي تجريه هذه اللجنة دون تقديم أي ضمانات عملية.
خيبة
وأعرب رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون-في تصريحات أدلى بها في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 - عن خيبة أمله من تعثّر العلاقات الثنائية، وعدم اتخاذ فرنسا خطوات ملموسة تؤكد التزامها بمسار المصالحة. ودعا تبون الجانب الفرنسي لإثبات حسن النية للمضي قدما في العلاقات الثنائية عبر خطوات تتضمن معالجة آثار التجارب النووية والكيميائية في الجنوب الجزائري، محملا من وصفها بأطراف فرنسية تحاول تزييف ملف الذاكرة أو إحالته على رفوف النسيان، مؤكداً أن الذاكرة المشتركة تتطلب "جرأة ونزاهة" لكسر قيود الماضي الاستعماري، وترك الإرث الأليم من الحقد والكراهية، والنّظر نحو المستقبل، كما وضع الكرة في مرمى الجانب الفرنسي كإظهار لحسن نيته.
ويشعر الجانب الجزائري أنّ الرئيس الفرنسي صار أسيرا لتحالفه مع اليمين، الذي يقود سياسة تشدد تجاه الجزائر في ملف الهجرة والذاكرة.اذ يتبوأ رموز هذا التيار مناصب حساسة في منظومة القرار كوزير الداخلية برونو روتايو.
ويُجاهر روتاريو ونخبة من قيادات اليمين بمعارضة السياسات التي اعتمدها ماكرون تجاه قضايا الذّاكرة منذ وصوله للحكم، حيث أصدر ابن العسكري السابق في الجيش الفرنسي بالجزائر تصريحات مستفزّة، مطالبا الجانب الجزائري بخطوات مماثلة بإقرار من الضحية (الجزائري) بأنه أخطأ في حق الجاني (الفرنسي).
ولن يكون مفاجئًا تعثّر المساعي بخصوص مصالحة الذّاكرة كما فشلت المحاولات التي بذلت في عهدة الرئيس الفرنسي الاسبق فرنسوا هولاند في ملف التجارب النووية و المفقودين، في ظل رفض الجانب الفرنسي الإقرار بماضي بلاده من جرائم في الجزائر ومحاولته تجريد الجانب الجزائري من ورقة المطالبة بتعويض ضحايا التجارب النّووية و مسح الذاكرة المتعلقة بالماضي الاستعماري او بالسعي لتوظيف قضية مصالحة الذاكرة لأغراض تتعلق بتأمين الجبهة الداخلية وتطويع قطاع من أبناء أجيال الشباب الفرنسي من أصول جزائرية المشبعين بآلام أجدادهم حول ممارسات الاستعمار. عوض الذهاب لمصالحة فعلية تفتح الباب امام اقامة علاقات سياسة على اسس متينة وسليمة.
إنجازات رمزية
يرى الأستاذ مولود قرين من جامعة المدية (وسط الجزائر)، أنّ العمل التّشاركي على الذّاكرة مُثمر، وفي هذا الصدد قال:" بفضل هذا المبادرة تمكنا من استرجاع مليوني وثيقة، هذا كنز للباحثين". ودافع الباحث في إفادته لـ"الترا جزائر" عن إصرار الجانب الجزائري على استرجاع مقتنيات شخصية للأمير عبد القادر الجزائري الذي يقدم بكونه مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، تضم سيفان وخيمة ورداء رسمي (برنوس).
في حين يعتقد المؤرخ الجزائري محند أرزقي فرّاد أنّ السلطات الجزائرية لم تُدر ملفّ الذّاكرة على مرّ العقود بالكفاءة المطلوبة في وجه عمليات التلاعب بذاكرتها من الجانب الفرنسي ، وقال لـ الترا جزائر: "زار الرؤساء الفرنسيون الجزائر مرّات عدة، وبدل أن تبرمج زيارات لهم إلى مواقع شهدت فظائع خلال فترة الاحتلال الطويلة كمواقع التجارب النّووية أو موقع محرقة أولاد رياح بجبال الظّهرة بوسط البلاد التي أُبِيد فيها أكثر من 700 شخص، برمجت لهم جولات سياحية إلى مواقع ثقافية وأثرية، مثل مبنى دار الموسيقى "ديسكو ماغراب" التي لعبت دورا كبيرا في الترويج لـ "فن الراي"، وهو من الطبوع الموسيقية الجزائرية.
وأضاف فراد، وهو ابن شهيد، "إنّ أي عمل في مجال الذّاكرة يجب أن يتمّ بمعزل عن الأجندات السياسية الفرنسية التي لا تراعي المصالح الجزائرية"، وختم بالقول:'' إنّه لا يؤمن بوجود ذاكرة مشتركة، فهناك جلاّد وضحية".
جرح الماضي
اللاّفت أنّه الموقف نفسه الرّاسخ لدى الكثير من الجزائريين الذين لا يؤمنون بإمكانية بناء ذاكرة مشتركة بين من يتنكّر لجرائمه وبين من نال استقلاله بعد تضحيات جسام، ويرون أنّ طيّ صفحة الماضي، وتحقيق مصالحة حقيقية يتطلّب الاعتراف التام وغير المشروط بمختلف الممارسات الاستعمارية، وخطوات عملية تُلبّي تطلعات الأجيال في الجزائر، التي ما زالت ترزح تحت وطأة الذّكريات الأليمة.