10-أغسطس-2020

الفنانة نورية قصدرلي (الصورة: الآن نيوز)

حين ولدت الممثّلة خديجة بن عايدة، المعروفة فنيًّا وشعبيًّا بنورية عام 1921 بمنطقة تيارت، 600 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، كانت الجزائر المحتلّة من طرف الفرنسيّين لا تعرف من المسرح إلا أشكالًا بدائيّة، في الأسواق والسّاحات العامّة. فقد كانت العروض التّي قدّمتها فرقة "جورج أبيض" المصريّة عام 1923 المنصّة التي مهدت لنشر الوعي المسرحيّ في الشّمال الجزائريّ.

تجاوزت نوريّة في ستّينيات القرن العشرين عقدًا كثيرة منها عقدة كونها امرأة

في بقيّة النّصف الأوّل من القرن العشرين، ظهرت وجوه كابدت لأجل الممارسة المسرحيّة كتابةً واقتباسًا وإخراجًا وتمثيلًا وتكوينًا وتوزيعًا، في ظروف صعبة ومتعبة وخاضعة للجهود الفرديّة.

اقرأ/ي أيضًا: رحيل الفنان المسرحي موسى لكروت

من هذه الوجوه مصطفى قزدرلي الذّي التقى، في مدينة مستغانم، فتاة في التّاسعة عشر من عمرها؛ لا تقرأ ولا تكتب، وتمارس الخياطة، فتزوّجها للقيام على شؤونه وشؤون البيت. ولأنّه احتاج مرّةً إلى مبلغ من المال للقيام بجولة مسرحيّة إلى الشّرق الجزائريّ، فقد لجأ إلى زوجته الخيّاطة والماكثة في البيت.

انتهزت خديجة بن عايدة الفرصة، فاشترطت مرافقة الفرقة المسرحية في رحلتها مقابل منحها المال فكان لها ذلك، وحدث أن تغيّبت إحدى ممثّلات العرض؛ فتمّ اللّجوء إليها هذه المرّة لتخلفها في التّمثيل، بموافقة زوجها ظنًّا منه أنّ الأمر مؤقّت.

غير أنّ رفاقه الفنّانين، خاصّة مصطفى بديع وبوعلام رايس وعبد الرّحمن عزيز، اكتشفوا فيها ممثّلة موهوبة وعفويّة ومهيّأة للتّمثيل بالفطرة، فأصرّوا على أن تواصل التّجربة، في ظلّ افتقاد المشهد المسرحيّ الوليد إلى ممثّلات، بالنّظر إلى حداثة التّجربة المسرحيّة من جهة؛ ومن جهة ثانية إلى  النّظرة الاجتماعيّة الدّونيّة إلى اللّواتي يمارسن الفنّ، حتّى أنّ المخرج المسرحيّ كان يضطرّ إلى منح الأدوار النسائيّة للرّجال.

لم تترك خديجة بن عايدة، التّي أطلق عليها بوعلام رايس ومصطفى بديع الذّي سيصبح لاحقًا عرّابًا للدراما في الجزائر اسم "نوريّة"؛ موهبتها في حدود الصّدفة التّي اكتشفتها، بل راحت تجتهد لأجل صقلها ولأجل فرض ذاتها في محيط مضادّ لبروز المواهب النّسائيّة.

وإذا عدنا إلى ذلك السّياق التّاريخيّ، فإنّنا سنجد أنّه كان من الصّعوبة والجرأة بمكان أن يقف ممثّل أمام قامة فنّية، مثل محيي الدّين باشطرزي، فكيف بممثّلة غير معروفة؛ وهذا ما فعلته نوريّة التّي فرضت عليه تبنّيها، مثلما فعل قبلها مع الممثلتين كلثوم ولطيفة. وفي نيّته تكوين وإبراز نخبة مسرحيّة نسائيّة، في مسعى نضاله من أجل مسرح جزائريّ متكامل العناصر والأركان.

تجاوزت نوريّة في ستّينيات القرن العشرين عقدًا كثيرة منها عقدة كونها امرأة، فقد افتكّت اعتراف كبار المشهد الفنّي، وعقدة كونها قادمة من خارج المركزيّة العاصميّة، فقد فرضت نفسها في منابرها، مثل المسرح الوطنيّ والإذاعة، وعقدة كونها لا تقرأ ولا تكتب، فقد كانت تحفظ أدوارها بسلاسة، وباتت مستعدّة لأن تتسيّد على المشهد.

تجسّدت تلك السّيادة الفنّيّة في حوالي 200 عرض مسرحيّ و170 عملًا تلفزيونيًّا وخمسة أفلام روائية طويلة، بالإضافة إلى روح الأمومة والرّعاية اللّتين منحتهما لأجيال متعاقبة، إذ ظهرت بسببها أسماء كثيرة، علمًا أنّها كانت أصلًا تميل إلى دور ربّة البيت الخدومة والبسيطة والحنون، عكس زميلتها فريدة صابونجي التّي اشتهرت بدور ربّة البيت البرجوازيّة والمتسلّطة.

جسّدت نورية أدوارًا في حوالي 200 عرض مسرحيّ و170 عملًا تلفزيونيًّا وخمسة أفلام روائية طويلة

يقول عقباوي الشّيخ؛ وهو من المخرجين المسرحيّين الذّين التحقوا بالمشهد المسرحيّ الجزائري، بعد اعتزال نوريّة بحكم السّن، إنّها تجسّد فعلًا نموذج الممثّلة المتكاملة بممارستها للمسرح والدراما والسّينما؛ "ولم تستطع ممثلات تخرّجن لاحقًا من معاهد مختصّة في هذه الحقول أن يتجاوزنها أو يُنسين الأسرة الجزائريّة فيها". ويختم محدّث "الترا جزائر": "إذا كانت لثورة التّحرير لبؤاتها، مثل جميلة بوحيرد وحسيبة بن بوعلي؛ فإنّ للثّورة المسرحيّة لبؤاتها أيضًا، منهنّ كلثوم ونوريّة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الترا جزائر" تقف على تفاصيل انتحار الممثّل هيثم حساسني

حوار | صبرينة قريشي: هزيمة الوطن حضاريًا هي هزيمة نكراء لفنّانيه