لم يكن سليمان عازم يعلم أن ذهابه إلى فرنسا عام 1942 للعمل ككهربائي في محطة مترو، سيقوده نحو مصير آخر تمامًا، فقد قدر له أن يعيش ما تبقى من حياته هناك في منفاه الاختياري بباريس، أين سطع نجمه بعيدًا عن عالم الكهرباء، حين صار أيقونة المهجر ومطرب المهاجرين الأول، فأصبحت أغانيه أنيس آلاف الجزائريين الذين هجروا نحو فرنسا بحثًا عن فرص عمل.
على خطى سليمان عازم ومعطوب الوناس، تشكلت فرقة أمزيك من المهجر بالموسيقى الحديثة، لكن بعبق الأغاني القديمة
اليوم، من نفس المكان، بدأ نجم صغير في السطوع، وفي نفس المجال الفني. بدأت فرقة متكونة من توأم وصديق لهما، في كسب الاهتمام من طرف الجزائريين، فرقة كان وقود غنائها الحب والمهجر، إنها فرقة "أمزيك".
اقرأ/ي أيضًا: سولكينغ ستايل.. مزيج بين موسيقى الراب والأنمي الياباني
صوت المهجر
تقول فرقة "أمزيك" في مطلع أحد أشهر أغانيها "أم المهاجر": "يا أم المهاجر، كفكفي دمعك، فاليوم أو غدًا سيعود لحضنك، رغم المحن التي يعيشها، لم تغادري يومًا باله، آه كم يتمنى أن يكون في حضنك، ليرتاح من مرارة الحياة".
ربما يكون الاغتراب نقطة تقاطع رئيسية بين التوأم بلقاضي وعظيم الأغنية القبائلية سليمان عازم، ففي عام 2003 انتقل كريم وعبد النور المعروف بـ"نونور" للعيش في باريس رفقة والدهما. فقد قدر للشابان الرحيل من قرية إفرحونن بولاية تيزي وزو بمنطقة القبائل، إلى عاصمة الأضواء، في رحلة والدهما للبحث عن حياة أفضل.
وهناك نشأ الأخوان على سماع أغاني سليمان عازم وإيدير ومعطوب الوناس. وكان من المنطقي أن يتأثرا بأغاني قامات الأغنية الأمازيغية، مثلهم مثل باقي المهاجرين الجزائريين، حيث نجد لكل جيل من المهاجرين فنانًا محبوبًا، وكان سليمان عازم يطرب الجيل الأول في ساعات ما بعد الدوام داخل المقاهي والحانات الباريسية، كما كان معطوب الوناس يملأ أكبر قاعات فرنسا في حفلاته، فهل تكون أغاني "أمزيك" صدى الجيل الجديد من المهاجرين، وهمزة الوصل بينهم وبين الوطن؟
يقول عبد النور لـ"الترا جزائر": "اخترنا اسم أمزيك لأن الأغاني القديمة التي تعودنا على سماعها في المنزل، هي المصدر الأول للإلهام، فبمجرد سماع نغم لعازم أو معطوب أو أي فنان من الزمن الجميل، تدخل في رحلة نحو تلال منطقة القبائل وأزقتها الضيقة، تسمع صدى الجبال وتتذكر أيام الطفولة. لقد تأثرنا كثيرًا بما كان يغنيه هؤلاء".
لا يتوقف الأمر عند إعادة التوأم غناء أغان الجيل الذهبي للأغنية الأمازيغية الجزائرية، وإنما يتجاوز الأمر بـ"إضافة اللمسة الخاصة قدر المستطاع"، كما قال عبدالنور، موضحًا: "لمسة الشباب وبصمة الحداثة؛ نحن نوظف معارفنا لنفتح للفن القبائلي نافذة على العالم، خاصة من حيث الموسيقى، مع المحافظة على نفس الروح التي نقلها إلينا الآباء والأجداد".
ويخلص عبدالنور للتأكيد على: "نحن لا نقلد بل نضفي صبغة أخرى على الأغاني. نحن نتعامل معها كما يتعامل عالم آثار مع منحوتة قيّمة".
الشعبي.. القاسم المشترك
كان لقاء التوأم كريم ونونور مع عازف الموندول خيرالدين كاتي، بداية قصة فرقة "أمزيك". كان خيرالدين في الـ25 من عمره، طالبًا جامعيًا قادمًا من مدينة بجاية شرق الجزائر، لمواصلة دراسته الجامعية في علم الأحياء بإحدى جامعات باريس.
لكن لم يكن علم الأحياء اهتمامه الوحيد، فقد كان شغوفًا كذلك بالعزف على آلة الموندول، معشوقة مغنيي الفن الشعبي في الجزائر، ولديه إلمام واسع بقواعد الموسيقى، وهذا ما كان ينقص التوأم بلقاضي؛ شخص يأطر موهبتهما موسيقيًا، ويتكفل بمهمة التوزيع الموسيقي للكلمات التي كتبها عبد النور.
يروي كريم لـ"الترا جزائر" قصة لقائه مع خير الدين ونشوء الفرقة: "كان أول لقاء لنا في سهرة فنية عام 2015 داخل منزل صديق لنا يدعى رابح. كنّا نعرف خير الدين من قبل عبر فيديوهاته على يوتيوب. قمنا بالغناء معًا تلك الليلة، وكلمناه عن مشروعنا. وجدنا أننا نشترك في الكثير من الأمور، وكان القاسم الأكبر بيننا هو عشقنا الكبير للفن الشعبي".
رغم قصر تجربة الفرقة متمثلة في إصدار ألبوم غنائي واحد، إلا أنها نجحت في أن تصنع لنفسها اسمًا في سماء الأغنية القبائلية المعاصرة. نجح الشباب الثلاثة في إعداد طبق قبائلي ببهارات عالمية، محافظين على نفس الذوق الجزائري الأصيل والحضور الملحوظ لآلة الموندول الشعبية.
وحمل الألبوم الأول والوحيد حتى الآن الذي أصدروه، اسم "صرخة الطفولة"، يضم عشر أغنيات، أشهرها أغنية عن الحب والأمل، دون أن ينسوا الموضوع الرئيسي للفرقة، وهو الغربة.
نافذة على العالم
تحاول فرقة أمزيك أن تخلق لأغانيها بيئة خاصة، ممزوجة بين النغم القديم والمناخات الموسيقية الجديدة، فأعضاؤها يحملون نفس الفكر والرسالة والنظرة للموسيقى القبائلية: "علينا أن ننقل الفن القبائلي من المحيط الضيق للقرية والمنطقة، إلى الفضاء الأرحب للعالم"، يقول كريم.
لذا تسعى الفرقة جاهدة لوضع بصمة جزائرية خالصة على أعمالها، حيث تتجلى بوضوح في سلطة آلتي البانجو والموندول (مندولين)، كما أنها تولي أهمية كبيرة لانتقاء الكلمات التي تعتبر الميزة الأساسية للأغاني القبائلية التي يعتبر أغلب مغنييها شعراء.
يقول كريم: "نحرص على إظهار هويتنا في أغانينا. بمجرد أن تسمع النغم الأول، تدرك أنك بصدد سماع أغنية جزائرية قبائلية"، مضيفًا: "نحن نسعى لأن نجسد معاني الحب والأمل والحنين للوطن، والتي طالما اشتغل عليها الفنانون القبائليون. كما نحاول دائمًا أن تتأقلم موسيقانا مع العالم الذي نعيش فيه اليوم، دون إهمال الخلفية الثقافية والحضارية التي تربينا فيها".
يعمل مع الفرقة موسيقيوم غربيون، انسجموا مع النغم الجزائري، عن هذا يقول كريم: "نشكل فريقًا متجانسًا. كل واحد منّا لديه بصمته الخاصة. نمتلك في فرقتنا عازفًا نمساويًا يُدعى مارتان. كما أن عازف البيانو الخاص بنا هو ديميتري فونسيكا من سيريلانكا، وهنام هوغو وساشا من فرنسا"، ومن الجزائر إضافة للثلاثي مؤسس الفرقة، هناك: رابح خالفة، أحد أشهر عازفي الدربوكة في الجزائر، ومالك كروش وعمر شاوي.
تسعى الفرقة جاهدة لوضع بصمة جزائرية خالصة على أعمالها، حيث تتجلى بوضوح في سلطة آلتي البانجو والموندول
"حين نصعد جميعًا إلى المنصة، فإننا ننصهر في جو واحد؛ نغني ونرقص ونصرخ، ونجعل جماهير من دول مختلفة تنسجم معنا، وهذه هي روح أمزيك التي تتجدد مع كل أغنية"، يختتم كريم حديثه لـ"الترا جزائر".
اقرأ/ي أيضًا: