يكفي أن تصادف صورة واحدة له بين مئات الصور، لتدرك من الوهلة الأولى، أن تلك الصورة الفريدة هي صنيعة حسين عماري، هذا الرجل الذي عشق التصوير في سن مبكرة، فألتقط الوجوه الباسمة والقلاع المتروكة بين الجبال، وجدران البيوت الألفية العتيقة، تاركًا فيها بعضًا من روحه.
حسين عماري لـ "الترا جزائر": اليوم يقرأ الناس الصور ويتفرجون على الكتابات ولهذا كثيرًا ما أنشر صوري على فيسبوك، و أتبادل الأفكار و النقاش مع المتابعين
الراغبون في الثراء يجوبون الوديان الغرانتية بحثًا عن كنوز، أما، ابن قرية تيفلفال، جنوب ولاية باتنة شرق الجزائر، فيجوب الوديان والجبال، بحثًا عن كنوز لا تقدر بمال وليس لها ثمن، يتعقب عن جذور الأجداد، وينقب عن جوهر فرد الهوية، كي يصادق عليها بزر الكاميرا، ويخلد تلك البصمة الوراثية المهددة بالتفسخ والاندثار إلى الأبد. يقال إن الصورة تأريخ للحظة، لكنه يؤرخ للتاريخ في كل اللحظات.
سلاح الهوية
منذ قال كونفشيوس جملته الشهيرة " صورة خير من ألف كلمة" وهذا التأبيد للأشياء والموجودات يحظى، منذ الأزل بأهمية قصوى لدى الشعوب والأمم التي تركت آثارها في الصخور و المغارات، بيد أن حسين المعتنق لفكرة التطورات المذهلة للميديا والرقمية، اغتنم مجال ثورة التواصل الاجتماعي، كيف يعرف بنفسه و يسهم في نشر صوره المتعلقة بالمناظر الطبيعية، و الوجوه، و المخازن القلاعية.
و لهذا السبب يقول لـ "الترا جزائر": " اليوم، يقرأ الناس الصور ويتفرجون على الكتابات، ولهذا كثيرًا ما أنشر صوري على فيسبوك، و أتبادل الأفكار و النقاش مع المتابعين، لأني أشعر بأن لدي رسالة في تبليغ جمالية هذه المناطق، و أن أروج لها دفاعًا عنها مما لحقها من نسيان أو تشويه أو تصوير غير أمين مع الحقيقة التي تبدو لي كإبن لها، و هكذا تحولت الكاميرا من هواية إلى سلاح هوية".
شرع منذ سنوات طويلة، في التوثيق عبر جمع الآلاف من صور الوجوه والبيوت القديمة والقرى المنسية، بحماسة لا تضاهى وبألوان متدفقة ينجح دائمًا في قنصها ما بين الظلّ والنور، يجيب "الترا جزائر" شارحًا سر نجاحه في نقل تلك الروائع فيقول: "ربما لكوني ابن قرية تفلفال الجميلة و الهادئة، فقد حافظت كأي قروي على العفوية و البساطة و حب الألوان و الفرح، ولهذا السبب لا يعني لي عمري البيولوجي شيئًا، فأنا لا أزال طفلًا متعلقًا بالمدخنة و حكايا الجدات و الحياة النقية و الصافية و كل تلك التفاصيل البسيطة، و ربما هذا الذي دفعني للانغماس في مهنة التصوير التي تنقل ما انطبع في الذاكرة للأخرين من حولي".
يتذكر ويضيف: " الأمر شبيه لأي شخص عندما يشاهد صور القرى والوجوه والقلاع التي التقطتها جيرمان تيون وتيريز ريفيار في الأوراس خلال ثلاثينيات القرن الماضي، ينتابك شعوران الأول حزن ملفوف بالحنين لأن أجزاء من تلك الأشياء المثبتة عبر الزمن بآلة التصوير لم تعد هنا فإما اندثرت أو شوهت، والثاني مناقض يحمل غبطة واعية بقيمة تلك الأشياء التي بقيت محفوظة بالذاكرة، وأظن أن تلك الصور التي رأيت هي التي تدفعني كي أمارس هذه الهواية الحافظة للهوية كي أنقلها عبر الزمن للأجيال القادمة".
الرحّالة الهائم
تحمل صور دا الحسين كما يلقب روحًا متدفقة، وأنوارًا خاصة، كما لو أنها تروي سردية يبذل جهدًا كبيرًا في تحصيلها، ولهذا لا يفرط في أية تظاهرة، سواءً كانت في أعياد الخريف أو الربيع أو التفاح أو التمور، لا بل تراه حاضرًا في كافة النشاطات الرياضية والفنية، وقد يقطع المسافات تاركًا أعماله الحرة خلف ظهره كي يعود كما صياد بفريسة واحدة في الجعبة.
وإلى ذلك يكشف لـ" الترا جزائر": " أفضل أن أتيه في الشعاب والوديان من أجل تصوير باب قديم في قرية "ورقًا" أو قلعة متوارية مهددة بالضياع في هابندوت، أو قرية حمراء في تاقوست، بدل أن أشارك في معرض مليء بالبروتوكولات التي لا تقدم و لا تؤخر شيئا، فهذه سنوات لا أشارك في المعارض الفنية، حتى لو حضرت في القليل منها، فمن أجل التقاء الأصدقاء و تبادل الأرقام الهاتفية في مهرجانات لم تعد سوى حفلات للعلاقات العامة، و قد أترك الرواق المفروش بالقطيفة الحمراء لأتفرغ لالتقاط صور للمرأة الوحيدة "سعيدة" التي تحمل الحطب، أو علف الشياه على ظهرها باتجاه بيتها الطيني العالق في مدرجات غوفي الطبيعية".
ولا يعتبر المتحدث هذا تمردًا بل طبعًا قريبًا من شخصيته فيوضح: " أتمثل جيّدًا مقولة الفنان جمال صابري دجو الذي يردد، النسر يحلق وحيدًا، والغربان تحلق جماعة، وفي وعيي الذاتي أعتبر أن تخليد التراث البشري والمادي واللامادي للأوراس الذي يعيش داخلي قبل أن أعيش فيه، أهم من كل هوامش الحياة الأخرى، ولأن مهنة التصوير منحتني أكثر مما منحتها وعليّ أن أحترمها إلى آخر رمق في حياتي العابرة".
تبعًا لذلك تجد صوره طريقها للنشر عبر فيسبوك موقعة باسمه، راغبًا في أن تكون ملكًا عموميًا للجميع لرؤية ما تزخر به مناطق الأوراس، بلا مقابل مادي، وفي هذا الصدد يشير: " في واقع الحال أنا أطرح صوري عبر الفضاء الأزرق، كي أنقل المشاهد المحيطة بي، سواء أكانت وجوها أو قلاعا أو قرى، و لا أمانع في أن يشاركها المعجبون و حتى الإعلاميون في مقالاتهم و تقاريرهم، يسهم النشر على النطاق الواسع في بعثها للحياة من جديد، فأمنحها عمرا آخر كي تتجدد لدى الآخرين، فلا شيء يضاهي موت الأشياء غير التجاهل والنسيان، و الثمن الحقيقي الذي أتلقاه مقابل ذلك محبة الناس و احترامهم الكبير لي، كلما صادفتهم في الأسواق و الشوارع و في دروب القرى المنسية".
أسرار الصنعة
انتقلت أعماله لعوالم رحبة حينما تحولت إلى الفن التشكيلي وأغلفة كتب الروايات، وقد مُنحت لها بذلك حياة أخرى، نقلتها من آلة التصوير إلى المكتبات والصالونات الكبرى في الجزائر وخارجها، وهذا اعتراف صميم بتميزها على صعيد الزاوية والألوان والزمان الملتقطة فيها، لا بأزرار الكاميرا بل بعينه الثالثة، تلك العين التي لا يعني أي فنان شيئَا دونها.
فيعقب قائلًا: "يتطلب فن التصوير موهبة فطرية وهذه الموهبة منحة ربانية لا تباع في الأسواق، و ليست هناك وصفة تمكن شراءها بمال الدنيا، غير أن المصور مطالب بممارسة الفن الحياتي كي يلتقط الصورة المثالية" أسأله عن مغزى فيرد كاشفا أسرار مهنته ضاحكًا: " حسنًا، المصور مثل الفلاح الذي يلتزم بتحضير التربة الجيدة حتى تكون بذوره و غرسه قابلة لتكون ثمارًا شهية، كذلك أنا ليست الصورة هي مجرد ضغطة سريعة على زر آلة رقمية، فعندما أرغب في تصوير شخص فإني ألتقط له صورًا عدة، و عندما يعتقد أني انتهيت ويعود لسجيته الطبيعية أمطره بالصور التي أرغب فيها على وجه الحقيقة".
توصف صور الأطفال الذين ثبتهم في لحظاتهم الأكثر عفوية وبراءة بالبساطة، لكنه يعقب بوجهة نظر أخرى مدققًا: "بالعكس إن صور الأطفال البسيطة هي أعقد ما يمكن التقاطه، فالأطفال في حاجة لسيكولوجية خاصة أمارسها معهم، فأنا لا أظهر لهم الآلة أبدًا، بل أصادقهم أولًا ثم ألاعبهم كصديق، قبل أن أتجرأ بالصورة الأولى.
وفي مرحلة ثانية أظهر لهم تلك الصورة كي يروا ذواتهم ولأعبر بهم للمرحلة الثانية، فأشجعهم وأنا أمطرهم بصور بعبارات لكل واحد منهم مثل هيا اعتدل، ابتسم، أنت أنيق وجميل، ولا ينتهي الأمر هنا، بل يستمر في المرحلة النهائية، فحينما يعود الطفل لطبيعته ظنًا أن العملية انتهت، تكون تلك هي الفرصة الذهبية، كي أضغط على الزر. وهكذا أمارس الحيلة والتمويه من أجل تلك اللحظة التي يعود فيها لحالته الطبيعية، فأضغط على الزر، ولذا فتلك الصور الأخيرة، هي الأكثر عفوية. هذه هي التفاصيل التي أحرص عليها، وكما أن الشيطان في التفاصيل، يكمن الملاك أيضا في تلك التفاصيل".
لوحات وكتب
يشعر حسين بفخر ممزوج بالرضى، بعدما انتقلت عديد صوره إلى واجهة أغلفة كتاب جزائريين وأجانب مثل جون فرونسوا غارد، ونصيرة بلولة، ومحمد ساري، ويعقوب بن صغير، وسعيدة عبوبة وحياة مسعودة بوعلي، حيث يقول: " كل هؤلاء الكتاب أدرجوا صور لي عن الطبيعة الأوراسية والوجوه في مؤلفاتهم، مثل كتاب في لقاء الأوراس خمسون عامًا من الصداقة لفرنسوا غارد، ونساء أوراسيات لسعيدة عبوبة".
لم يتوقف هذا الاعتراف التكريمي هنا بل امتد إلى صوره لعالم الفن التشكيلي وصارت مخلدة في لوحات فنانين، بعدما صارت مصدر إلهام لفنانين تشكيليين، أبرزهم الرائع ياسين مغناجي، ونورالدين كيشو، وصالح بوزيد، وحسام لعلي، وجلول مرحاب، و أوزيد رانيا، ورجاء الصغير، وعادل جساس، وشعبان رزايقية، وميلود موالدي، ومداني ميلود، ونورالدين حسينات، ومحمد وليد شمام، واسلام ساي، وسليم بوهالي.
وفي هذا يقول: " هي أجل اللحظات عندما ترى صورًا لك مرسومة بأنامل فنانين كبار، و حتما ينتابك إحساس بالرضى لأن تعبك لم يذهب سدى، و بأن نضالك ذو قيمة، فأصعب تساؤل وجودي مربك لأي فنن هو ما قيمة أعماله؟. رغم هذا المكسب الإيجابي، فإني أعترف لك بأني لم ألتقط بعد الصورة التي أريد، ويعني ذلك أني مواصل في هذا المسار، مسار مطاردة الأنوار والألوان والحجارة إلى أن ينطفئ وهج جمرتي لشغف الفن أو تنطفئ شمعتي في هذه الحياة".
حسين عماري لـ "الترا جزائر": هي أجل اللحظات عندما ترى صورًا لك مرسومة بأنامل فنانين كبار، و حتما ينتابك إحساس بالرضى لأن تعبك لم يذهب سدى
وفي انتظار تلك الصورة التي لم تلتقط بعد، يعد صائد الوجوه والقلاع والقرى لمعرض كبير في تونس، كما يحضر لكتاب مصور يلخص مساره الحافل عنوانه " الأوراس بعيون عاشقة".