ثمّة جيل روائيّ جديد في الجزائر، يتميّز عن الأجيال السّابقة بانفتاحه على اللّغات الأجنبيّة والتكنولوجيّات الحديثة والاهتمام بالثقافات المختلفة، فكأنّه يريد أن يفعل كلّ شيء. غير أنّ قلّةً منه وظّفت هذه الحظوظ/ المزايا في كتابة روايةٍ تملك القدرة، لغةً وهواجسَ ومعمارًا، على تجاوز ما أنجزته المدوّنة السّرديّة الجزائريّة.
ظهر هذا الشّغف بالميثولوجيا ومقارنة الأديان جليًّا لدى أمين بن باطة في رواية "أوفردايف"
يقول الرّوائيّ أمين بن باطة (1995) لـ"الترا جزائر" إنّ الجيل السّابق كان يتعلّم ليتثقّف، بالنّظر إلى أنّ السّياق العامّ كان يُصارع من أجل نشر قيم التّعليم، بعد عقود من الاحتلال، الذّي جعل من تجهيل الجزائريّين منهجًا له، بينما يتعلّم الجيل الجديد ليعيش. فهو خرّيج سياق تهيمن عليه الثقافة الاستهلاكيّة، "وهو سياق قلّما يعلّم النّاس كيف يستفيدون من خبراتهم في أفعالهم، لأنّه سياق يتميّز بالتّظاهر والتّهافت والتّسارع".
ويتدارك بن باطة الفائز بجائزة "الجزائر تقرأ" للرّوائيّين الشّباب، عام 2018، عن روايته "أوفردايف" بالقول: "إنّه من التعسّف مواجهة الجيل الجديد من الرّوائيّين بحكمٍ جاهزٍ يقوم على أنّه جيلٌ هشّ سرديًّا. فمن حقّه منحه وقتًا ليُبلور تجاربه ويُغربل مواهبه، فسوف لن يبقى في النّهاية إلّا القلم الحقيقيّ والأصيل".
وجد أمين بن باطة نفسه مبكّرًا وسط حقلٍ من اللّغات، مثل الأمازيغيّة والعربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة والألمانيّة والرّوسيّة، وهو بصدد تعلّم اليابانيّة والأكرانيّة، "وقد برمجني هذا التعدّد في اللّغات، على التعدّد في الاهتمام. فأنا شغوف بالميثولوجيا وعلم التّشفير وعلم الكريبتوزولوجيا (علم دراسة الحيوانات الخفيّة)، بالإضافة إلى معارف أخرى".
كان كتاب "مساعد الإنسان في كلّ امتحان" أوّل تجربة لأمين بن باطة في مجال الكتابة والنّشر. وهو كتاب يعالج المشاكل النّفسيّة التي تصيب المقبلين على الامتحانات كالخوف والضغط والإحباط. ثمّ كتاب "لغز راسبوتين" الذّي يتناول تاريخ روسيا الحديث، فكتاب "الذّكاء الجهويّ"، الذّي يقوم على نظريّة في التّنمية البشرية، هدفها القضاء على المفهوم السّلبيّ والاستغلال السّيِّئ للجهوية، والمساهمة في تعزيز التّماسك السوسيو ثقافي. وكتاب بالرّوسيّة عن الآلهة في الميثولوجيا السّلافيّة. ورواية "زاغادكا" التي اقتحم فيها علم التّشفير.
غير أنّ الشّغف الأوّل لأمين بن باطة يظلّ مقارنة الأديان والميثولوجيا، "فهُما تدرسان حياة البشر الرّوحيّة الموازية تمامًا للحياة الدّنيويّة في الأهمّيّة. وتطرحان تساؤلاتٍ كثيرةً عن عقائد القدماء وأساطير الأوّلين". ويُرجع بن باطة خلفيّة هذا الشّغف إلى البيئة الأمازيغيّة التّي ولد فيها، "فهي بيئة طقوسيّة بامتياز، وتقوم على احترام الموروث، خاصّة في شقّه العقائديّ والرّوحيّ"، ممّا وضعه مبكّرًا أمام هذا السّؤال: كيف كان يعييش ويُفكّر ويتعبّد القدماء؟
ظهر هذا الشّغف بالميثولوجيا ومقارنة الأديان جليًّا، لدى أمين بن باطة، في رواية "أوفردايف"، التّي تذهب بنا إلى عام 2137، حيث يستقبلنا عالم فيزياء روسيّ ملحد يرغب في الوصول إلى حقيقة الأديان، متجرّدًا من الأحكام المسبقة عنها، ذلك أنّ هناك رصيدًا كبيرًا من المعاداة المجّانيّة للأديان.
في المقابل يستقبلنا شخص يهوديّ، في القرن الثالث قبل الميلاد، كان يخوض رحلة صيد. وآخر مسيحيّ فلسطينيّ في القرن الثّاني للميلاد، كان يخوض معركة لإنقاذ النّسخة الأصليّة الأخيرة من الإنجيل، رفقة شخص فارسيّ في القرن الثّامن الميلاديّ، كان يقوم برحلة إلى بلاد العرب ليلتقي شخصًا معمّرًا يملك معلوماتٍ مهمّةً وحصريّة عن أصول الدّيانات.
أمين بن باطة: "علينا أن نعود إلى الماضي، حتّى نفكّك جملة من الفخاخ، التّي أسّست لصراع المنتمين إلى ديانات مختلفة اليوم"
يقول أمين بن باطة إنّه علينا أن نعود إلى الماضي، حتّى نفكّك جملة من الفخاخ، التّي أسّست لصراع المنتمين إلى ديانات مختلفة اليوم، "فالشّابّ المسيحيّ الذّي، قتل المسلمين مؤخّرًا في نيوزيلاندا الجديدة برّر فعلته بالانتقام من العثمانيّين، الذّين غزوا أوروبّا الشّرقيّة قبل قرون. وأرى أنّ الفنون والآداب تملك التّأثير في هذا الباب أكثر من الدّراسات والبحوث العلميّة لأنّها ذات تأثير نخبويّ محدود".