هل كان المخرج المسرحي ربيع قشّي، حين زار مدرسة "الإخوة نبّاش" في مدينة برج بوعريريج، 250 كيلومترًا إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، في النّصف الثّاني من تسعينيات القرن العشرين، ليختار من تلامذتها نخبة يكوّنهم مسرحيًا وفق منهج قسطنطين ستانيسلافسكي (1863-1938)، يُدرك أنه بصدد اكتشاف ممثّل سيبرع بعد عشر سنوات؟
إدريس بن شرنين: جئت إلى المسرح عن طريق الموت. وهي الخلفية التي جعلتني أعتنق قناعة لم تزل تتلبّسني
لم يتمّ اختيار إدريس بن شرنين ضمن تلك النّخبة من التّلاميذ، "فحزّ في نفسي ذلك. ودفعني إلى أن أقتحم قاعة التّدريبات، وأنخرط فيها من غير أن أستشير أحدًا. طلب منّا مؤطّر الورشة أن نمثّل دور شخص يُضرب بخنجر، فحدث أن أعجبته طريقة موتي وتبنّاني على الفور". يضيف: "لقد جئت إلى المسرح عن طريق الموت. وهي الخلفية التي جعلتني أعتنق قناعة لم تزل تتلبّسني حتّى اليوم: عليّ أن أموت في المسرح حتّى أستطيع أن أصل إلى سرّ الحياة".
اقرأ/ي أيضًا: محمد لحواس.. أن يلعب الممثّل دوره مضاعفًا
"لقد علّمتني تلك اللّحظة التي تجرّأت فيها على أن أقتحم قاعة التّدريبات"، يقول إدريس بن شرنين، "روح المبادرة من أجل أحلامي المسرحية، فأتعامل مع كلّ مشكل أو تثبيط أو عَوَزٍ أو تهميش على أنّه فرصة لأكتسب خبرة جديدة. سواء في الواقع أو فوق الرّكح، الذي هو عشّ الخيال".
أولى المشاكل التي واجهها محدّث "الترا صوت" أنّ أباه رفض مسعاه المسرحي، "أرسلتك لتدرس لا لتمثّل في المسرح" قال. ورغم أن ربيع قشّي زاره رفقة أعضاء الفرقة ليثنيه عن رفضه، إلّا أنّه تمسّك به وطالبهم بالابتعاد عنه. وهو الواقع الذي جعل قشّي يرفض دخوله إلى التّدريبات احترامًا منه لقرار الوالد.
"لو أتيح تصويري في تلك الأيّام لرأيتني أسرق نفسي من المدرسة والبيت لأتلصّص من خلف الزّجاج على الفرقة وهي تتدرّب من غير أن يروني. وأخلق دورًا لي داخل العرض وألعبه لنفسي من خلف الزّجاج. وحين كبرت والتقيت بعض الذين كوّنوني وقالوا لي إنّه عليّ أن أفهم المسرح على أنّه سرقة النّفس من الواقع، والتمثيل لها قبل الجمهور، وجدتُني قد جسّدت تلك الرّؤية في بداياتي".
يئس إدريس بن شرنين من الانضمام إلى فرقة "منال" التّابعة لمسرح "التّاج". وتفرّغ للدّراسة. لأنه فهم أنّ أباه ينتظر منه أن يمنحه الفرحة بالشّهادة الأهلية/ البكالوريا، فكان له ذلك عام 2007 في تخصّص الرّياضيات. يقول: "آمنت بحقّه في أن أمنحه ذلك الفرح، الذي ينتشر بين العامّة، كأن ينجح ولده في الدراسة أو يتزوّج أو يحصّل وظيفة، من غير أن أنسى حقّي في الفرح الذي ينتشر بين النّخبة، كأن يصعد الممثّل فوق الرّكح".
"كانت شعلة المسرح متّقدة في أعماقي. فقرّرت أن أتناساها مؤقّتًا بالابتعاد عن العلوم الإنسانية والتخصّص في العلوم الدّقيقة، وإذا بهذه الأخيرة تمنحني رؤية خاصّة في فهم الفنّ وممارسته، حتّى أنّي بتّ أومن لاحقًا بصعوبة الإبداع الفنّي إذا لم يكن لدينا تفكير رياضي. ما جدوى الحركة فوق الرّكح إذا لم تتمّ وفق روح الإحداثيات؟".
مكّن الالتحاق بالجامعة إدريس بن شرنين من العودة إلى المسرح. لينتقل من سلطة الوالد إلى سلطة المخرج حليم زدّام. لكنّ السّلطة الجديدة هدفت إلى أن يفجّر طاقاته المسرحية لا أن يقمعها، وهو ما تفرّغ له على حساب الدّراسة الجامعية في العلوم والتّقنيات. يقول: "كنت أواجه هذا السّؤال يوميًا: حلمي أن أكون فنّانًا محترفًا، بينما تخصّصي الجامعي يجعلني عالمًا. فهل أحتكم إلى حلمي أم إلى تخصّصي الجامعي؟ وحتّى أحمل نفسي على الانتصار للخيار الأوّل رحت أتغيّب عن الدّروس وأستهين بها".
استمرّ هذا الصّراع الدّاخلي لدى إدريس بن شرنين أربع سنوات، قبل أن يفصل في الأمر، فيقرّر التّضحية بأربعة أعوام جعلته على أبواب التخرّج والالتحاق عام 2011 بـ"المعهد العالي لمهن فنون العرض والسّمعي البصري" بالجزائر العاصمة. "الحلم الفنّي كائن حيّ. وهو لن يمنحنا بركاته وأسراره إذا لم نضحِّ من أجله".
بين دراسة المسرح في المعهد بصفته علمًا وممارسته بصفته فنًّا، تألّق إدريس بن شرنين في عروض حملت بصمات مخرجين شباب سكنتهم أسئلة وهواجس ورؤى جديدة، فعمدوا إلى تكسير السّائد والنّمطي في المسرح الجزائري. حدث ذلك في مسرحية "الجدار" لعقباوي الشّيخ، و"أنثى النّص" لأحمد مدّاح، و"هاملت" لوليد بوشباح". يقول: "كان جنوني في التمثيل محتاجًا إلى جنون في الرّؤية الإخراجية، حتى يجد له الإطار الواعي به بصفته فعلًا لا ردّ فعل".
بين دراسة المسرح في المعهد بصفته علمًا وممارسته بصفته فنًّا، تألّق إدريس في عروض حملت بصمات مخرجين شباب
شكّل إدريس بن شرنين بصفته ممثلًا مع سفيان عطية بصفته مخرجًا ثنائيًا يقوم على إيمان كلّ طرف بحقّ الآخر في أن يشغل الحيّز الخاصّ به انطلاقًا من رؤيته الشّخصية. حيث يبتعد الإخراج المسرحي عن الهيمنة على الممثل، ويبتعد التّمثيل عن الحرّية العمياء. وتجسّدت هذه الفلسفة في العديد من العروض، التي شاركت في مهرجانات وطنية وعربية، منها "ليلة إعدام" و"أكلة لحوم البشر" و"لحظة من رحيل". وهو ما أهّله لأن يفتكّ جائزة رئيس الجمهورية في التّمثيل المسرحي عام 2015. وجائزة أحسن ممثل في مهرجان "طقوس مسرحية" بالأردن في العام نفسه. كما اختير ضيفًا في الملتقى العالمي لـ"الهيئة العالمية للمسرح" بإسبانيا عام 2017. حيث قدّم عرضًا باليونانية القديمة والأمازيغية مع الممثلة الإيطالية جيورجيا سيامبي والفرنسية آموندين أودينو.
اقرأ/ي أيضًا: أحمد رزّاق.. في هموم المسرح الجزائري
جرّب إدريس بن شرنين هذه الرّؤية بصفته مخرجًا هذه المرّة، من خلال العديد من العروض، منها "اللّحاد" عام 2012 و"كشغل" عام 2016 و"تردّد" عام 2018، معتمدًا على التّقنيات البصرية في استثمار جسد الممثل. وهو الخيار الذي اكتسبه من خلال اشتغاله في السّينما بصفته مساعد إخراج ومخرجًا للعديد من الأفلام القصيرة، منها فيلم "عيد ميلاد" الحائز على جائزة رئيس الجمهورية في الإبداع السّينمائي.
اقرأ/ي أيضًا: