لا تمثّل الأرض في المخيال الشّعبي الجزائري بقعة للإقامة فقط، بل تدخل في مفهوم الشّرف والسّمعة أيضًا. "ورغم التحوّلات التّربوية والثّقافية، التي عرفها الشّارع الجزائري، على مدار ستّة عقود من الاستقلال الوطني، إلا أنّ المحاكم الجزائرية لا تزال تستقبل قضايا تتعلّق بالقتل والجرح، اللذين تسبّب فيهما الشّجار على الأراضي، سواء بين الأفراد أو القبائل"، يقول المحامي عقبة بوشاقور لـ"الترا صوت". وقد كان تحرير الأرض الشّعار الأبرز في أدبيات ثورة التّحرير (1954 ـ 1962).
رحيل بومدين ومجيء الشّاذلي بن جديد، كان مقدّمة للتخلّي تدريجيًا عن الخيار الاشتراكي، والانفتاح على اقتصاد السّوق
مباشرةً بعد الاستقلال الوطني مطلع ستّينات القرن العشرين، بادر أوّل رئيس للبلاد أحمد بن بلّة (1916 ـ 2012) بإطلاق مشروع "التّسيير الذّاتي"، الذي قضى باسترجاع الأراضي، التّي كانت في عهدة المستوطنين الفرنسيين، ووضعها تحت التصرّف الجماعي للفلّاحين الجزائريين، غير أنه اعترف في مذكّراته بفشل المشروع لأنه، بحسبه، لم يكن مرفوقًا بزرع ثقافة العمل والتّنمية في أوساط الجزائريين، "وكأنهم كانوا يريدون من المسؤولين أن يأتوا من الحواضر لخدمة الأرض بدلًا عنهم".
اقرأ/ي أيضًا: حصاد البلح في مصر.. بهجة وصعوبات
بعد ما عُرف بـ"التّصحيح الثّوري"، الذي أطاح بالرئيس أحمد بن بلّة وجاء بهوّاري بومدين إلى سدّة الحكم، أطلق هذا الأخير مشروعًا شبيهًا هو "الثّورة الزّراعية"، حيث عمد إلى انتزاع الأراضي من الملّاك الجزائريين، وجعلها ملكًا عموميًا في متناول تجمّعات عرفت بـ"القرى الزّراعية"، في خطوة لتحقيق الاكتفاء الذّاتي غذائيًا. لكن المشروع اختفى بمجرّد رحيل عرّابه الرّئيس عام 1978.
رحيل هواري بومدين ومجيء الشّاذلي بن جديد، كان مقدّمة للتخلّي تدريجيًا عن الخيار الاشتراكي، والانفتاح على اقتصاد السّوق. وقد كان التخلّي عن الملكية العمومية للأراضي الفلاحية لصالح شخصيات متنفّذة باسم الشّرعية الثورية في صدارة القرارات المتخذة، إذ انتشرت سياسة التنازل مقابل الدّينار الرّمزي، ممّا مهد لنزيف كبير في العقّار الفلاحي، تواصل في تسعينيات القرن العشرين، في ظلّ الفوضى الأمنية، التّي عرفتها البلاد.
كتب الإعلامي والنّاشط عبد الوكيل بلّام: "كانت تلك بداية الانحراف الصّارخ فيما تعلّق بسنّ القوانين التّمييزية المانحة لامتيازات مهمّة لبعض المجاهدين، دون عموم المجتمع الجزائري. فقد عرفت عموم بلديات الجزائر توزيع الأراضي الخصبة المسترجعة من المستوطنين على المجاهدين دون زملائهم من أبناء الشّعب الفقير".
حسب إحصائيات "الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين"، الذي تأسّس عام 1974، فإنّ الجزائر تملك 30 مليون هكتار من الأراضي القابلة لأن تكون فلاحية، غير أنها لا تستغلّ منها إلا خمسة ملايين. هنا يبادر النّاشط عبد الرزاق سلّام إلى السّخرية من هذا المعطى في منشور فيسبوكي: "الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك 2 مليون هكتار، مداخيلها من هذه الأرض 600 مليار دولار سنويًا، وتملك إسبانيا 1.5 مليون هكتار مداخيلها 400 مليار دولار، الجزائر تملك 32 مليون هكتار ومداخيلها صفر دولار".
لم تخطُ الحكومات الجزائرية، خلال السّنوات التي تلت مرحلة العنف والإرهاب خطوات ناجعة في اتجاه حماية الأراضي الفلاحية من زحف الإسمنت عليها، إذ أدّت البحبوحة المالية، التي عرفتها البلاد نتيجة ارتفاع أسعار النّفط إلى غاية عام 2015 إلى أن أصبحت ورشة بناء مفتوحة، بعيدًا عن أيّ تخطيط عمراني يحقق الجماليات العمرانية من جهة، ويحفظ سلامة الأرض الفلاحية من جهة ثانية، خاصّة في الشمال الذي يمثل 17 بالمئة من إجماليي المساحة العامّة المقدّرة بـ2.4 مليون كيلومتر مربّع، ويقيم فيه 94 بالمئة من إجماليي عدد السكّان البالغ 40 مليونًا.
يقول المستثمر الفلاحي بوعلام مسكي لـ"الترا صوت" إنّ سهلًا كبيرًا وخصبًا مثل سهل المتّيجة كانت فرنسا تطعم منه شعبها، يكاد يتحوّل إلى تجمّعات إسمنتية، "فلا نحن حافظنا عليه للفلاحة، إذ بتنا نستورد القمح من فرنسا والثوم من إسبانيا والبطاطا من البرازيل، ولا نحن أنجزنا فوقه مدنًا حقيقية". يسأل: "هل تنطبق صفة المدينة على ما بني في سهل المتّيجة وغيره من السّهول الصّالحة للفلاحة؟".
جمال ضو: "لماذا فشلت الفلاحة في بلادنا؟ كيف سلّمنا أمننا الغذائي ومن دمّر البذور بشكل منهجي في الجزائر؟
هنا يدق الكاتب رابح خدّوسي، في منشور فيسبوكي، ناقوس الخطر، بخصوص استمرار "أسْمنة" الحقول والسّهول الجزائرية بالقول إنّ مزرعة في سهل متّيجة، 20 كيلومترًا إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، ستتحوّل إلى كتل إسمنتية بعد أسابيع، "رغم أن الدستور الأخير يمنع البناء في الأراضي الفلاحية، وأن المكان فيه رطوبة كبيرة تسبّب الحساسية التنفسية". ويبدي اندهاشه: "يضعون دستورًا في الصّباح ويدوسونه في المساء".
اقرأ/ي أيضًا: السلطة الفلسطينية.. فشلت حتى في زراعة البطيخ
في كلام الكاتب رابح خدّوسي إشارة إلى أن المادة التاسعة عشر من التعديل الدّستوري الجديد، نصّت صراحة على حماية الدّولة للأراضي الفلاحية. وفي كلمة لوزير الفلاحة ألقاها، حسب وكالة الأنباء الجزائرية، أمام كوادر وزارته في أيلول/سبتمبر 2016 ورد أن مصالحه "ستعمل مع الجهات المعنية - في اقرب وقت - للنظر في كيفيات تجسيد هذه المادّة في شكل نصوص قانونية تكون ردعية لكل من يتعدّى على العقار الفلاحي"، غير أن ذلك لم يتمّ إلا في حدود ضيّقة بعد مرور عامين.
ممّا يجعل جملة من الأسئلة الملحّة تطارد الحكومات المتعاقبة، والتي لم تخلُ منها حكومة من وزارة للفلاحة، من قبيل تلك التي طرحها الناشط جمال ضو: "لماذا فشلت الفلاحة في بلادنا؟ كيف سلّمنا أمننا الغذائي ومن دمّر البذور بشكل منهجي في الجزائر؟ لماذا لا نزرع إلا نسبة مهملة من أراضينا الصّالحة للزّراعة؟ لماذا كنّا نصدّر وأصبحنا نستورد؟
اقرأ/ي أيضًا:
الاحتياج والخضوع للموردين يجبران مصر على القبول ببذور الخشخاش مع القمح