21-فبراير-2020

ساحة الجمهورية في العاصمة الفرنسية باريس (تصوير: فرانسوا غيلوت/أ.ف.ب)

تعتبر "ماريان"، إحدى الرموز التاريخية في الجمهورية الفرنسية؛ تظهر صورتها في الشعار الوطني لفرنسا، وعلى الوثائق الرسمية والنقود، كما نجد تماثيلها في الكثير من المدن الفرنسية. يعتلي تمثالُها النصفي مبنى مجلس الشيوخ، ويتصدّر ساحة الجمهورية في باريس، لكن القدر شاء أن تعيش ماريان حالة استثنائية حين اكتست ألوانا غير ألوان العلم الفرنسي. لم يكن أحد ينتظر أن تتزّين ماريان بألوان العلم الجزائري أو أن تتوشح نجمة وهلالًا، لقد حدث ذلك حين وصلت أمواج الحراك السلمي في الجزائر إلى الضفّة الأخرى من المتوسّط، على يد أبناء الجالية الجزائرية في فرنسا.

عند بداية مسيرات الحراك الشعبي في الجزائر، أصبح مبنى البريد المركزي معلم الحراك الأبرز في الجزائر

حالة استثنائية

قبل ثلاثة سنوات، سافر الشاب مولود إلى فرنسا، وقد ترك منصب عمله في شركة وطنية تشتغل في ميدان الأشغال العمومية، حيث التحق بها مباشرة بعد تخرّجه من الجامعة بشهادة مهندس دولة. كانت بدايات مولود صعبة في العاصمة الفرنسية خاصّة أنّه بدون وثائق نظامية، بعد أن دخل فرنسا بتأشيرة سياحية، انتهت صلاحيتها منذ ثلاثة أعوام خلت.

اقرأ/ي أيضًا: نشطاء يقرّرون عقد مؤتمرٍ جامع للحراك الشعبي في ذكراه الأولى

في كل يوم أحدّ، يستيقظ مولود باكرًا كي يقصد باريس، فهو يقطن في مدينة تبعد عن باريس بحوالي 90 كيلومترًا. أصبح هذا من الطقوس المقدّسة لديه منذ قرابة العام، وتحديدًا منذ انطلاق المسيرات السلمية التي أسقطت نظام بوتفليقة في الجزائر.

يتحدّث مولود عن مشاركته في الحراك بعاصمة الجن والملائكة، فيقول: "لم أكن أتصوّر أنني سأعيش هذه الظروف، أخرج كل يوم أحد، ألبس سترة برتقالية، وأقوم رفقة بعض الأصدقاء بتنظيم مسيرات يحضرها الآلاف في قلب العاصمة الفرنسية، لقد جعلنا من ساحة الجمهورية بباريس، وقفًا جزائريًا كلّ يوم أحد".

يسترسل مولود في الحديث "لم أخرج يومًا للتظاهر في الجزائر. لقد نجح نظام العصابات الذي كان يقودها بوتفليقة في عزل الشعب سياسيًا، وخلق حالة تصحّر سياسي. الآن بدأ الجزائريون في استرجاع وعيهم وأظهروا رفضهم للأمر الواقع، ونحن كجزائريين مقيمين بالخارج، لا نستطيع أن نبقى خارج دفتر التاريخ، الذي بدأ الشعب الجزائري في تدوينه منذ 22 شبّاط/فيفري من العام الماضي".

يوضّح محدّث "الترا جزائر"، أن "الحراك الشعبي أحدث استفاقة نوعية في نفوسنا، بل وأثبت لنا درجة ارتباطنا بأرض الوطن. أنا شخصيًا أكاد أنسى وضعيتي كمهاجر سرّي في فرنسا، وأسلّم نفسي للمشاعر الجيّاشة التي تنتج عن هتافات الحناجر، وتلك الخطابات التي يلقيها النشطاء. الكثير من الجزائريين أعادوا اكتشاف علاقتهم مع الوطن. إنه أمرٌ رائع حقًا".

معلم الحراك

عند بداية مسيرات الحراك الشعبي في الجزائر، أصبح مبنى البريد المركزي معلم الحراك الأبرز، بل منحه الحراك تاريخًا جديدًا. بعد أن كانت ساحتا الشهداء وأوّل ماي، حضنا لعدّة حركات احتجاجية.

على النهج نفسه، اختار الجزائريون المقيمون في فرنسا ساحة الجمهورية في قلب باريس، لتحتضن مظاهراتهم ومدّ أيديهم لإخوانهم في الداخل، والمساهمة في بناء جزائر جديدة، بواقع مغاير للظروف التي حتّمت عليهم مغادرتها.

هنا، يرى الصحافي الجزائري المقيم في باريس، حسين قاسم، في حديث إلى "الترا جزائر"، أنّه "في باريس، كانت ولا تزال ساحة الجمهورية واحدة من أهم المعالم في التي يلتقي فيها الجزائريون، ويتفاعلون ويظهرون حبهم لبلدهم الأصلي. فقد أصبحت تجمّعات الأحد في باريس ثابتة بين الجزائريين القاطنين في العاصمة الفرنسية والمدن المجاورة لها".

ويضيف قاسمي "يلتقي الكثير من الجزائريين كل يوم أحد بشكٍل عام، عن طريق إنشاء مجموعات على فيسبوك أو استجابة لنداءات تنشر على صفحات الناشطين، أو ببساطة عن طريق تبادل الرسائل النصيّة فيما بينهم".

ويؤكّد الصحافي الذي حضر غالبية مسيرات الأحد، ووثّقها على مواقع التواصل الاجتماعي، أنّ "الشعارات التي تطغى على مسيرات الجزائريين في باريس، هي نفسها في مدينة قالمة أو وهران أو تيزي وزو أو في الجزائر العاصمة، حيث يردّ المتظاهرون شعارات "دولة مدنية ماشي عسكرية"، "نعم للتغيير الجذري"، "تحرير سجناء الرأي". فهو يرى أن حراك الجزائريين في فرنسا، يستمدّ شعاراته من مسيرات الولايات في الجزائر، على حدّ قوله.

من جهة أخرى، فإن هذا الزخم الذي باتت تمتاز به مسيرات الجزائريين في باريس، جعل أبناء الجالية في موقع قوّة، بل كان ردًا على كل تلك الشبهات التي طالما حامت حول جزائريي المهجر. كما كانت أيضًا رسالة للأنظمة الأوروبية في عقر دارها، هنا يعلّق حسين قاسمي قائلًا: "الرسالة الأساسية للجالية الجزائرية في باريس، موجهة إلى السلطات الفرنسية بدعوتها إلى البقاء بعيدًا عن الشؤون الداخلية للجزائر، كما أنّ هذه المسيرات، تستنكر أيّ تواطؤ الذي قد يحدث بين الجزائر وفرنسا. المسيرات التي يحضرها الآلاف في فرنسا، تقول لماكرون وللطبقة السياسية في فرنسا أنّهم مجبرون على التضامن مع الشعب، لا مع من جعل الجزائر تحت حكم ديكتاتوري".

رسائل الأمل

لقد مكّن الحراك الشعبي للعالم، من رؤية أنّ الجزائريين يستطيعون أن يملؤوا شوارع باريس وبروكسل ومونتريال ونيويورك، في مسيرات من أجل بلدهم، وأنّ هذا الحبّ المتّقد الذي يحمله كلّ جزائري لبلده، لا يُختصر فقط في مباريات كرة القدم، التي طالما أخرجت الجزائريين عبر ربوع العالم. إنها قصّة الحب التي تربط الجزائري بوطنه الذي يأمل أن يصبح أفضل.

هنا، يتحدّث حسين قاسمي عن أمل المغتربين في جزائر جديدة، ويبدي تفاؤله بأن "الجزائريين في باريس وكل المغتربين، جعلوا من هذا الحراك فرصة للتعبير عن حبهم لوطنهم، ورغبتهم في العودة من جديد إليه، لكن في ظروف أكثر وضوحًاوحرّية، وأكثر ديمقراطية وأكثر ترحيبًا بهم، فكثير من الجزائريين الذين خرجوا في شوارع باريس، لم يزوروا بلدهم منذ عقود".

حسين قاسمي: هناك من يريد حقّا العودة إلى الجزائر للعيش مع أسرهم وأصدقائهم، ولكن ليس في ظلّ الظروف الحالية

ويختم قاسمي كلامه "هناك من يريد حقّا العودة إلى الجزائر للعيش مع أسرهم وأصدقائهم، ولكن ليس في ظلّ الظروف الحالية. إنهم يعيشون على أمل جزائر جديدة. فهم يحلمون بجزائر مثل التي أرادها مثل فكرة آيت أحمد، وخيضر، وبوضياف، وبن مهيدي وغيرهم. شيء واحدٌ مؤكّد، وهو أن الأمل هو من يُخرجهم كل أسبوع".

 

اقرأ/ي أيضًا:

 المؤسّسة العسكرية والحراك الجزائري.. من استفاد من الآخر؟

تبون يفعّل لقاءات مع شخصيات نادى بها الحراك الشعبي