16-مايو-2024
الجزائر فرنسا

(الصورة: Getty)

بعد أسبوع من تأكيد الرئيس عبد المجيد تبون على استعداد الجزائر للتوجه نحو المستقبل  في علاقاتها مع فرنسا في أجواء ثقة  تتطلب معالجة جدية لملف الذاكرة، جاء أول تفاعل سياسي فرنسي مع هذا الشرط على لسان رئيس بلدية مرسيليا، الذي أشاد بهذه الرؤية المستقبلية، فهل يعني هذا وجود قابلية وسط الطبقة السياسية في باريس لمعالجة ملف فترة احتلال الجزائر معالجة حقيقية وصادقة أم أن تحقيق هذا الهدف ما يزال بعيدا بالنظر إلى  أن الإليزيه يناور بهذا الملف بأوجه مختلفة تظهر عند حصول أي أزمة سياسية بين البلدين.

أستاذ التاريخ المعاصر عبد القادر عزام عوادي لـ"الترا جزائر": من أسباب تأخر معالجة ملف الذاكرة هو استخدامه ورقة سياسية من قبل باريس في حملات انتخابية أو في بعض الأزمات مع السلطة الجزائرية 

وقبل ستة أشهر من الزيارة المرتقبة للرئيس تبون إلى فرنسا، يترقِب المتابعون في البلدين إمكانية تحقيق هذا الموعد الذي أجل في كل مرة تقدمًا في ملف الذاكرة  باعتباره الحجر الأساس  لتحقيق الشراكة والصداقة التي تتكلم عنها الاتفاقات الموقعة، والتي ظلت حتى اليوم حبرًا على ورق في عدة جوانب منها.

شرط أساسي

قال الرئيس تبون في رسالته بمناسبة اليوم الوطني للذاكرة المخلد لمجازر مظاهرات 8 أيار/ماي 1945 إن "ملف الذاكرة لا يتآكل بالتقادم أو التناسي بفعل مرور السنوات، ولا يقبل التنازل والمساومة، وسيبقى في صميم انشغالاتنا حتى تتحقق معالجته معالجة موضوعية، جريئة ومنصفة للحقيقة التاريخية".

وأضاف تبون في فقرة موجهة بالأساس إلى الإدارة الفرنسية حتى وإن لم يُشِر إليها بالاسم "إنني في الوقت الذي أؤكد الاستعداد للتوجه نحو المستقبل في أجواء الثقة، أعتبر أن المصداقية والجدية مطلب أساسي لاستكمال الإجراءات والمساعي المتعلقة بهذا الملف الدقيق والحساس وما يمثله لدى الشعب الجزائري الفخور بنضاله الوطني الطويل، وكفاحه المسلح المرير".

ولم يصدر حتى اليوم تعليق من الحكومة الفرنسية على هذا الخطاب، الذي يُعدُّ بمثابة قاعدة أساسية لتقدم عمل اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ التي عقدت ثالث اجتماعاتها شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بقسنطينة، شرقي الجزائر، لكن عمدة (رئيس بلدية) مدينة مرسيليا، بينوا بايان، الذي يزور الجزائر هذا الأسبوع أشاد بنظرة الرئيس تبون للمستقبل.

وقال بايان عقب استقباله من طرف الرئيس الجزائري إن اللقاء كان "حميميًا" واصفًا تبون بـ"الرجل الفخور والملم بالتاريخ وتفاصيله ويحمل رؤية رائعة لمستقبل بلده".

وبايان المنتمي للحزب الاشتراكي يرأس بلدية مرسيليا، التي  يُقِيم بها أكبر عدد من أفراد الجالية الجزائرية، ويعدُّ من السياسيين الذين التقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عدة مرات، بالنظر لأهمية معالجة مشاكل هذه المدينة في العلاقات الجزائرية الفرنسية.

وقال أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الوادي، عبد القادر عزام عوادي لـ"الترا جزائر" إن "معالجة ملف الذاكرة أمرٌ أساسي  لتعزيز العلاقات الجزائرية الفرنسية. ولا يمكن الاستغناء عنه."

وبرر الأستاذ عوادي ذلك بقوله: "لأن التعامل مع طرف يلغي ذاكرتك أو يحاول نسيانها أو ربما حتى تزويرها أمرٌ صعبٌ، لذلك يؤثر على باقي الملفات الأخرى المتعلقة بالتعاون الثنائي".

وتابع: "الاعتراف بالخطأ أمرٌ أساسي لرسم معالم علاقات متينة ومتطورة تأتي بثمارها على الشعبين. وربما لاحظنا أنه في كثير من الأحيان يتم تجاوز ملف الذاكرة ورسم العلاقات في العديد من الجوانب؛ ولكن في حالة انفجار أي شيء يخص هذا الملف من الطرفين يكون تأثيره مباشرة على العلاقات التي تجمع البلدين".

قيود فرنسية

رغم التفتح الذي يُعبّر عنه الساسة الفرنسيون وفي مقدمتهم الرئيس، إيمانويل ماكرون، لمعالجة ملف الذاكرة مع الجزائر، إلاّ أن الواقع يُشير إلى ما يخالِف ذلك إذ ما تزال تضع (فرنسا) عدة قيود قانونية وسياسية ونظرية للخوض في هذا الملف كما يجب، ولعل صفة السرية والأمنية التي تمنع الوصول إلى كثير من الأرشيف الموجود لديها المتعلق بفترة احتلالها للجزائر أكبر دليل على ذلك.

ويعتقد أستاذ التاريخ المعاصر أن "الدولة الفرنسية ستكون قادرة على معالجة هذا الملف معالجة موضوعية وحقيقية لما تُزيل الكثير من القيود والحواجز المانعة، التي مازالت تعيق هذا الملف وهذا شأن داخلي يخص بالدرجة الأولى ما يحدث داخل النظام الفرنسي."

ويستند الأستاذ عوادي على هذه الرؤية بالعودة لتصريحات سابقة للرئيس تبون التي أشار فيها إلى أن القيادة الفرنسية لديها نية في التعامل مع الملف بطريقة موضوعية، ولكن "هناك أطراف ولوبيات سياسية تحرك بعض القضايا في فرنسا من أجل تعطيل مثل هذه الخطوات."

ويرى محدّثنا أن "هذا التعطيل الذي يقوده جزء من صانع القرار في فرنسا أمر منتظر ومتوقع"، نظرًا لما تضمه النخبة السياسية الفرنسية من تيار سياسي متطرف يعادي كل ما يخص الذاكرة مع الجزائر. ومازال ربما "يعتقد في مخياله أننا مجرد أهالٍ تابعين له، وهذا الأمر أصبح من قبيل الخطاب السياسي الرديء الذي لا يسمن ولا يعني من جوع".

وأشار أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الوادي، إلى أن " الكثير من الدول بالرغم من انتهاء استعمارها لدول أخرى إلّا أنها مازالت في ذاكرة ووجدان الشعوب دولًا محتلة، وذاكرتنا مع فرنسا تدخل ضمن هذا السياق، فبالرغم من مرور 62 سنة على نيل استقلالنا وتعاقب الأجيال سواء في الجزائر أو فرنسا، إلا أن الذاكرة الأليمة التي تركتها فرنسا في حق الجزائريين لا يمكن محوها عن طريق خطاب سياسي".

ورغم طلب الجزائر استعادة لوازم تعود للأمير عبد القادر المحتجزة في فرنسا، إلا أن هذه الأخيرة تتحجج في كل مرة بمبررات صارت لا تقنع الطرف الجزائري الذي يرى في تلك الردود مؤشرًا على عدم الجدية في معالجة ملف الذاكرة رغم التقدم المحقق من قبل اللجنة المشتركة مقارنة بسنوات سابقة.

وبيّن عوادي أن على الجزائر العمل على سياقات متعددة لتجعل فرنسا تعترف بجرائمها، كون الملف متشعب الجوانب سواء القانونية أو السياسية أو التاريخية، بالنظر لما يحمله موضوع الذاكرة من تأثير على عدة جوانب أيضًا في علاقاتنا مع باريس سواءً في شقها الاقتصادي أو السياسي أو بعض الملفات الاجتماعية وغيرها، لذلك على الجزائر تنشيط ملف الذاكرة الوطنية بتذكير الأجيال الحالية بكل ما اقترفه العدو الفرنسي في حق أجداهم وبلادهم، ورسم خطط مستقبلية واستشرافية تخص الاهتمام بتاريخ الجزائر عن طريق تفعيل كل الهيئات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في التعريف بتاريخنا الوطني، والتركيز على الآلام التي عاشها الجزائريون لنيل حريتهم، وما تعرضوا له من مجازر ونكبات وأزمات في مسارهم الطويل في مواجهة الاستدمار الفرنسي.

ورقة سياسية

ويعتقد أستاذ التاريخ المعاصر عبد القادر عزام عوادي أن من أسباب تأخر معالجة ملف الذاكرة هو استخدامه "ورقة سياسية من قبل باريس، فالجهاز السياسي الفرنسي في الكثير من الأحيان يجعل هذا الملف أحد الأوراق المستعملة في حملاته الانتخابية أو في بعض أزماته مع السلطة الجزائرية أو غيرها من المواقف التي تخرج فيها هذا الملف لاستعماله كورقة ضغط على الجزائر".

وبدوره يرى النائب البرلماني سعيد نفيسي أن حل ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا يبقى سياسيًا بالدرجة الأولى، مضيفا أن "مشكلة الذاكرة ستبقى محل نقاش رغم محاولة إبعادها عن طابعها السياسي إلى طابعها التاريخي العلمي، لكن نهايتها ستكون سياسية، وتوجيها سياسيًا".

ويعتقد نفيسي أن "الإرادة السياسية لدى الطرف الفرنسي ما زالت دون المستوى المطلوب، لذلك فالإصرار على الحقوق هو المخرج الوحيد لاسترجاعها والحصول عليها".

النائب البرلماني سعيد نفيسي: ملف الذاكرة سيبقى محل نقاش رغم محاولات إبعاده عن الطابع الساسي إلى التاريخي العلمي

ويلاحظ الدكتور عوادي أن "اليد الجزائرية ممدودة ومفتوحة من أجل معالجة الملف معالجة حقيقية وموضوعية، لذلك يبقى على الطرف الفرنسي مغالبة ما يدور في داخله من ارتدادات تعوق تحقيق هذا الملف".

وفي انتظار تحقيق هذه التنازلات الفرنسية، يظل ملف الذاكرة العامل الأساس الذي سيرسم مستقبل العلاقات بين البلدين، لأن الأمر يتعلق بـ132 سنة من الاحتلال التي لا يمكن التغاضي عنها حتى ولو جرب البعض القفز عليها بتقديم مبادرات تحاول تأجيل الفصل في هذا الملف بحجة التحديات والرهانات التي تفرضها التغيرات الدولية والإقليمية الحالية.