قرّرت الحكومة الجزائرية مباشرة سلسلة من المفاوضات مع عدة أقطاب اقتصادية، لمراجعة مضامين الاتفاقات الموقّعة مع هذه الأقطاب في أوروبا والمنطقة العربية، وسط تساؤلات حول مدى قدرتها على تعديل بنود العقود الموقّعة وتصحيحها لتصبّ في مصلحة الطرفين.
ظلّت الجزائر تطلب تأجيل تنفيذ بنود الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومنطقة التبادل الحرّ العربية
وبسبب فشل نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في إدارة مفاوضات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانضمام إلى منطقة التبادل الحرّ العربية، وكذا إخفاقه في بعث اقتصادي حقيقي للبلاد، ظلّت الجزائر كل عام تطلب تأجيل تنفيذ بنود هذين الاتفاقين اللذين كان تأثيرهما السلبي واضحًا على الاقتصاد الجزائري.
اقرأ/ي أيضًا: جراد: منطقة التجارة الحرة الإفريقية خيار استراتيجي للجزائر
وكان الرئيس تبون قد وجه في شهر آب/أوت الماضي، أثناء اجتماع لمجلي الوزراء، تعليمات لوزير التجارة للشروع في تقييم الاتفاقيات التجارية متعدّدة الأطراف والجهوية والثنائية، وبالخصوص اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
البداية بأوروبا
من جهته، قال الوزير المنتدب المكلّف بالتجارة الخارجية عيسى بكاي، الأسبوع الماضي، في تصريح لوكالة الأنباء الجزائرية، إن الحكومة الجزائرية قرّرت في برنامجها "إعادة تقييم الكثير من الاتفاقيات مع عدة دول عربية و مع الاتحاد الأوروبي"، وكشف بكاي أن"المشاورات في هذا الإطار بدأت في 29 سبتمبر الماضي".
وانعقدت الأسبوع الفائت أشغال الدورة الـ 12 لمجلس الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، والتي كانت مهمّة الوفد الجزائري فيها برئاسة وزير الخارجية صبري بوقدوم الحصول على موافقة من الشريك الأوروبي على مراجعة بعض بنود اتفاق الشراكة الموقع في 2005 خلال حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وقال بوقدوم إن "هناك إرادة للحوار من الجانبين ولم نلمس الرفض من الطرف الأوروبي".
وأضاف وزير الخارجية أن الاتفاق يجب أن يوازن بين مصالح الطرفين، لافتًا إلى أن المفاوضين الجزائريين "واعون بنقائص الاتفاق، خاصّة في جانبه التجاري، ومن الضروري تصحيح الاختلال في حالة وجوده، وأخذ كل التدابير لمراجعة هذا الاتفاق على أساس قاعدة التوازن".
وحسب وزير الخارجية، فإن ممثّلي العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على غرار ألمانيا وإيطاليا والبرتغال والمجر، أقروا بوجود عدم توازن اتفاق الشراكة الذي يبقى في صالح أوروبا".
للعرب نصيب
لا يقتصر التوجّه الجزائري نحو مراجعة بنود اتفاقات الشراكة على الأوروبيين فقط، بل إن الحكومة عبّرت في أكثر من مرة عن رغبتها في تعديل بعض مواد اتفاقية المنطقة العربية للتبادل الحرّ، التي انضمت الجزائر إليها في سنة 2009، إضافة للاتفاق التفاضلي مع تونس التي تجمعها معها علاقات سياسية قوية.
وكان وزير التجارة كمال رزيق قد أعلن شهر شباط/فيفري الماضي فتح استشارات موسعة مع المُتعاملين الاقتصاديين والخبراء ليس لتقييم اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي فقط، إنما أيضًا بشأن المنطقة العربية للتبادل الحرّ والاتفاق التفاضلي مع تونس.
ونظمت وزارة التجارة ورشة في هذا الإطار رفعت توصياتها للحكومة، غير أنه لم يفصح بعد عن التفاصيل الكاملة للخطة التي ستعتمدها الجزائر لمراجعة بنود الاتفاق المتعلقة بمنطقة التبادل العربية، خاصّة وأن تحقيق المبتغى يتطلب كسب معركة قانونية وتفاوضية مع الطرف الآخر.
وأثبتت التجربة الجزائرية أن الانضمام لهذه التكتلات الاقتصادية لم يكن لصالح اقتصاد البلاد الذي يبقى معتمدًا بشكل شبه كامل على عائدات النفط، بالنظر إلى أن الجزائر أصبحت مستهلكة للمنتوجات الخارجية سواء الأوربية أو العربية بفضل التسهيلات الجمركية التي تقدم للسلع المستوردة تنفيذًا للاتفاقات الموقعة.
واشتكى المتعاملون الاقتصاديون الجزائريون من هذا التفكيك الجمركي الذي أضرّ بالمنتوج المحلّي، وجعله غير قادر على الصمود في وجه السلع المستوردة المستفيدة من تسهيلات جمركية محرّرة بنسبة 94 بالمائة، ما يجعلها تُباع بأقلّ الأسعار، في حين أن المُنتج الجزائري ملزم بتسديد التزاماته الضريبية.
وبالنسبة للمنطقة العربية، فعديد السلع التي قد تورّد إلى الجزائر ليست في الحقيقة عربية خالصة، إنّما في أغلبها قادمة من فروع لشركات عالمية يسهل اتفاق منطقة التبادل العربية بدخولها إلى الجزائر، تحت مسمّى الشريك العربي وقد تكون أحيانًا أقل جودة من الأصلية، ورغم ذلك تستفيد من إعفاءات جمركية كانت ستفرض عليها لو أتت من بلد المنشأ الحقيقي.
وقد يفهم البعض أن إلحاح الجزائر على مراجعة مضامين اتفاقات الشراكة مع الأوروبيين والعرب معناه التخلي عن هذين السوقين، إلا أنه حسب تصريحات وزير التجارة كمال رزيق فإن الجزائر "ستعود بقوّة إلى المنطقة العربية والأوروبية"، بعد إعادة تقييم هذه الاتفاقيات.
الامتحان الإفريقي
تراهن الجزائر كثيرًا - حسب خطابات مختلف المسؤولين- على استفادة اقتصادها من دخول اتفاق منطقة التبادل الحر الإفريقية حيز التنفيذ في 2021، على أمل عدم تكرار نكساتها مع اتفاقي الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومنطقة التبادل العربية.
وكان الرئيس عبد المجيد تبون واضحًا في توجيهاته لوزير التجارة لما شدّد في اجتماع مجلس الوزراء آب أوت الماضي على ضرورة الحرص على استكمال دراسة مسألة قواعد بلد المنشأ قبل دخول منطقة التبادل الحرّ الأفريقية، بالاستفادة من دروس الانضمام إلى المنطقة العربية للتبادل الحرّ، أي من خلال عدم تكرار أخطاء الماضي.
من الناحية المبدئية، تظهر الجزائر في موقع قد يمكنها من الاستفادة من فتح المجال التجاري في القارة السمراء، بالنظر لعلاقاتها الجيدة مع معظم الدول، والمشاريع التي أطلقتها وتشارك فيها مثل ميناء الحمدانية بتيبازة الموجه للسوق الأفريقية، والطريق العابر للصحراء الرابط بين عدة دول إفريقية كنيجيريا والجزائر والنيجر، ومشروع الربط بالألياف البصرية، إضافة إلى خط أنبوب الغاز لاقوس الجزائر الموجّه إلى أوروبا.
غير أن الولوج إلى السوق الأفريقية يبقى كغيرها من المناطق التجارية غير مفروش بالورود، بالنظر إلى غزو المنتجات الأجنبية السوق الأفريقية، وبالخصوص الصينية والتركية التي قد لا تستطيع السلع الجزائرية منافسة أسعارها المنخفضة، كما يشكّل الجانب الأمني تحديًا لوصول السلع إلى البلد المستهدف دون تعرّضها لأيّ عوائق.
وبالنظر إلى بعض الإحصاءات الرسمية، فإن ما تم تحقيقه في السنوات الأخيرة أفريقيًا قد يكون مشجعًا حتى ولو يظلّ ضئيلًا، إذا تظهر الأرقام على سبيل المثال أن التبادل الجزائر مع موريتانيا قد ارتفع من مليون دولار عام 2016 إلى 53 مليون دولار العام الماضي، كما أن الميزان التجاري بين الجزائر والدول الأفريقية مجتمعة، انتقل من 78 إلى 830 مليون دولار خلال الفترة ذاتها.
وجب على المفاوض الجزائري أن يأخذ الأمر بجدية ونظرة مستقبلية بعيدًا عن الحسابات السياسية
ولكسب رهان هذه الاتفاقات سواءً الأوروبية أو العربية أو الأفريقية، وجب على المفاوض الجزائري أن يأخذ الأمر بجدية ونظرة مستقبلية بعيدًا عن الحسابات السياسية التي في كثير من الأحيان تقبل بالخسارة الاقتصادية من أجل مكاسب آنية أظهرت السنوات أن من عمل بها كان مفتقدًا لبعد النظر، وهو ما جعل الاقتصاد الجزائري يبقى حتى اليوم شبه عاجز عن فرض مكان له في القطاعات غير النفطية.
اقرأ/ي أيضًا:
الاتحاد الأوروبي أول زبون للجزائر والصين تحتل المرتبة الأولى كممون
الجزائر تسعى لجذب الاستثمارات.. هل آن الأوان للخروج من اقتصاد النفط؟