17-أغسطس-2024
مهاجرون سريون يصلون إلى أوروبا (صورة أرشيفية/الترا جزائر)

مهاجرون سريون عبر البحر (صورة أرشيفية)

في كلّ صائفة تخطط عائلات جزائرية ناجية من قبضة تكاليف طقوس رمضان وكبش العيد، لقضاء أيامٍ هادئةٍ أمام السواحل الماتعة للشريط الجزائري، لكن فئات هشة تبتهل بقدوم الصيف، لا برغبة الإقامة قرب البحر، بل في الفرار عبره إلى شمال المتوسط.

كان يفترض أن تأخذ "الحرقة" دراسات جدية جديرة بحجمها المتعاظم فخلفها تختبئ أصوات استغاثة عميقة

يُمضي هؤلاء رحلة الشتاء، في العمل في الورش، أو في ممارسة مهنٍ يوميةٍ لجمع دراهم تعنيهم على قضاء رحلة الصيف، وسلاحهم "البوطي" و"الجيبي بياس" و"السريع" و"الكالما"، وتعني الأخيرة البحر الهادئ الذي يجعل الوصول للضفة الأخرى أكثر أمنًا وأمانًا مع أن الضامن هو الله وحده.

قبل عقدين تقريبًا كتب روائي جزائري نصًا "تنبؤيًا" عن "الحرقة" وقد دونه بناء على مشاهدات خاصة من خليج الجزائر على ميناء العاصمة، عن أولئك الحالمين بحياة أخرى في أوروبا، حتى لو اقتضى الأمر التسلل لعنبر حقائب الركاب.

لكن تلك الحالات الفردية تطورت منذ تاريخ ميلاد "الحرقة" العام 2004، ثم روايتها سرديًا العام 2007 إلى ظاهرة عامة أصابت بالعدوى شبان شمال أفريقيا برمتها من مصر مرورًا بليبيا وتونس والجزائر وصولًا للمغرب، لتصبح نزيفًا للماء الذي لم يتوقف على مدار ثلاثة عقود طويلة.

لعنة القرب مع أوروبا ونمط المعيشة الرافهة الجاذبة، والتسرب المدرسي وتردي الأوضاع الاجتماعية والمادية، أفرزت طبقة يأس هلامية لم تعد ترى في تجار البشر سوى منقذين ومخلصين من مأزق نفوق الآمال وضيق الأفق.

كان يفترض أن تأخذ الظاهرة دراسات جدية جديرة بحجمها المتعاظم، فخلفها تختبئ أصوات استغاثة عميقة، أعمق من سوط الردع، فليس هينا أن يقامر شاب يافع بزهرة شبابه في عمق البحر، بأن يمتطي قاربًا هو في الحقيقة تابوته العائم وقد يكون الأخير، ملقيًا بحياته في فم الموت، طلبًا لحياة الأغراب في بلاد الناس عوض مجاورة اغتراب داخلي يعايشه في وطن الميلاد.

بعد قرابة 15 عامًا من دخول التجريم والتحريم المؤسّسين بقرار سياسي لا تزال ظاهرة "الحرقة" مستمرة

ولمواجهة ظاهرة قدرت السلطات أن نزيف الماء ذاك، شأن مرتبط بالاتجار في البشر، فسنّت قوانين رادعة، أعوام 2008 و2009، تذهب حدّ حبس المهاجرين السريين بعقوبة شهرين إلى ستة أشهر نافذة، مع غرامة تقع ما بين أثنين وستة ملايين سنتيم، فيما شنت المؤسّسة الدينية عبر أئمة المساجد حملة تحسيس اعتبرت الحرقة انتحارًا، وقد تبدو هذه الاستراتيجية معالجة للوجه الظاهر من الهيّال الجليدي، لكن الوجه الآخر لا يزال بعيدًا عن المنال، حتى لو حولت المنظومة القانونية من يعتبر نفسه "ضحية" أوضاع اقتصادية واجتماعية إلى مقامر بحياته في سبيل تغييرها إلى "مجرمٍ" في نظر أرمادة من النصوص التشريعية والفتاوى الدينية.

والآن، وبعد قرابة 15 عامًا من دخول التجريم والتحريم المؤسّسين بقرار سياسي، لا تزال الظاهرة مستمرة، فخفر السواحل البحرية لا يتورّعون، في كل صائفة، عن إحباط هجرة المئات، فيما ينجح المئات من بلوغ الضفة الأخرى.

وبين هذا وذاك يختفي العشرات في بطون الحوت، أو يلفظ البحر جثتهم المتحللة، ويعني هذا أن " الحرقة" في حاجة إلى حفر أعمق، عبر إنشاء هيئة مكلفة بشؤون الهجرة السرية، يتولاها نفسانيون و علماء اجتماع وأنثروبولجيا، مثلما فعلت دول كثيرة، باتت أشدّ اقتناعًا أن الردع لن يكون سوى جزء من الحل، فيما يكون الحل الآخر عبر البحث عن وسيلة إقناع لشرائح اجتماعية، تعيش خارج الدائرة الاقتصادية، وهي في حاجة لمناخ اقتصادي حيوي في مجتمعات متحركة، عبر فتح أبواب الاستثمار على مصراعيه، وربط التنمية الاقتصادية بتكوينات مهنية ملائمة، و تشجيع المؤسسات المنتجة، وتخفيف القيود الإدارية على المشاريع.

إن المقامرين بحياتهم في عرض البحر دائمًا ما كانوا يائسين من كل شيء

كل هذه الروافد هي من ترغب في الاستقرار بدل البحث عن حلول طوباوية، فكل المسألة هي خلق مناصب أمل قبل إيجاد مناصب عمل.

إن المقامرين بحياتهم في عرض البحر دائمًا ما كانوا يائسين من كل شيء.