20-أغسطس-2024
القمح

(الصورة: فيسبوك)

قبل أقل من شهرين على انطلاق حملة الحرث والبذر منتصف تشرين الأول/أكتوبر المقبل، تسارع الحكومة الجزائرية لاتخاذ مختلف الإجراءات التي من شأنها الرفع من كميات إنتاج الحبوب التي يثقل استيرادها كاهل الخزينة العمومية، حيث باشرت مشاورات مع الفلاحين النشطين في هذه الشعبة الزراعية، وذلك بهدف تحقيق الأمن الغذائي الذي يشكل تحديا للبلاد التي عرف قطاع الفلاحة فيها نموا لافتا في السنوات الأخيرة.

أصبح التقليل من فاتورة استيراد الحبوب يشكل رهانا للحكومة، خاصة بعد الارتفاع المسجل في أسعارها خلال وبعد جائحة كورونا وكذا عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية

وأصبح التقليل من فاتورة استيراد الحبوب يشكل رهانا للحكومة، خاصة بعد الارتفاع المسجل في أسعارها خلال وبعد جائحة كورونا وكذا عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي كادت أن تسبب ندرة في بعض الأغذية العالمية ومنها القمح اللين التي تعد الجزائر من كبار المستوردين له في أفريقيا.

مشاورات

بحثت الأسبوع الماضي لجنة تقنية مختلطة من وزارتي الفلاحة والتنمية الريفية والتعليم العالي والبحث العلمي بولاية تيارت اقتراحات الفلاحين المحليين لتطوير شعبة الحبوب، وفق ما ذكرت صحيفة المساء الحكومية.

ونقلت الصحيفة عن  مدير المصالح الفلاحية بوعلام مخانق قوله إن هذه اللجنة عقدت لقاء الأسبوع الماضي برئاسة المدير العام للمدرسة العليا للفلاحة وأربعة إطارات مركزيين من وزارة الفلاحة والتنمية الريفية للاستماع لانشغالات الفلاحين الناشطين في شعبة الحبوب واقتراحاتهم لتطويرها في ظل التغيرات المناخية المتميزة بالجفاف والصقيع وتساقط البرد.

وتمحورت انشغالات الفلاحين حول البذور والسقي وتطوير الزراعات الإستراتيجية، حيث اقترحوا تطوير بذور مقاومة للجفاف تساعد على توفير مردود جيد مع الاهتمام أكثر بمناطق زراعة القمح وتعميم الزراعات الزيتية على غرار الذرة وعباد الشمس والبقوليات من خلال دعم فلاحي المناطق الجنوبية والغربية للولاية لتوفرها على مياه جوفية تساعد على رفع الإنتاج.

وخلال هذا اللقاء، تم تقديم مجموعة من الاقتراحات التقنية من طرف مديرية المصالح الفلاحية تتلخص في تعزيز الأنشطة مع قطاع التعليم العالي من خلال استعمال التكنولوجيات الحديثة لمراقبة المساحات الزراعية على غرار قياس مخزون المياه في التربة والاكتشاف المبكر للأمراض باستعمال الذكاء الاصطناعي.

ويندرج هذا اللقاء في إطار برنامج اللجنة الوطنية المختلطة لتطوير شعبة الحبوب بولايات تيارت وقسنطينة والبويرة وورقلة وأدرار.

وقال الخبير الدولي في الفلاحة والموارد المائية مصطفى بن ناوي لـ"الترا جزائر" إن إدراج تيارت ضمن الولايات المعنية بتطوير شعبة الحبوب اختيار موفق، بالنظر إلى أنها كانت إلى وقت قريب من أكبر المنتجين للحبوب وطنيا بطاقة إنتاجية وصلت حتى 5 ملايين قنطار سنويا، قبل أن يتراجع هذا المستوى من الإنتاج جراء الجفاف الذي مس المنطقة.

الخبير الدولي في الفلاحة والموارد المائية مصطفى بن ناوي لـ"الترا جزائر": هذه المشاورات إذا كانت جدية ستساهم في التقليل من كميات الحبوب المستوردة

وأشار بن ناوي إلى أن فلاحي مناطق المهدية والحمادية بولاية تيارت قادرين على تقديم الإضافة لتطوير شعبة الحبوب، بالنظر إلى تجربتهم في هذا المجال التي تعود إلى عشرات السنين.

بالتدرج

لا ينكر الخبير الفلاحي بن ناوي أن هذه المشاورات إذا كانت جدية ستساهم في التقليل من كميات الحبوب المستوردة، لافتا إلى أن التخلص من استيراد الحبوب أصبح بفعل التغيرات المناخية التي تسببت في الجفاف أمرا صعبا، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الجزائر تملك هامش المناورة الذي يمكنها من تخفيض فاتورة استيراد الحبوب في مرحلة أولى بالنظر لتوفرها على  أراضٍ شاسعة يمكن استغلالها، إضافة إلى وجود مياه جوفية كبيرة بالمناطق الجنوبية.

وأضاف بن ناوي أن الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في مجال شعبة الحبوب يبقى هدفا أسمى لكن يظل صعبا، وتحقيقه يكون تدريجيا بتخفيض فاتورة الاستيراد أولا.

وقال الرئيس عبد المجيد تبون في اجتماع لمجلس الوزراء عقد نهاية  حزيران جوان الماضي إن "الاكتفاء الذاتي التام أصبح قريب المنال بإنتاجنا لـ 80 بالمائة من القمح الصلب، باعتبار ذلك من تقاليد الإنتاج والاستهلاك الجزائري، وكونه منتوجا قليل الكميات في السوق العالمية مقارنة بالقمح اللين".

وأمر تبون "بإنتاج حب الذرة, وبمنع حصاد هذا المحصول نبتة خضراء، في مرحلة النضج غير التام"، داعيا إلى"إشراك الفلاحين في التوعية والتحسيس, لتحسين مردودية الهكتار الذي يجب ألا يقل في الجنوب عن 55 قنطارا في الهكتار الواحد, لما تملكه هذه المناطق من إمكانيات عملاقة, لا سيما الماء والكهرباء".

وتمكنت الجزائر هذا العام من توفير 1.2 مليار دولار لفائدة خزينة الدولة، عقب الإنتاج الوفير المحقق هذا الموسم من القمح الصلب، والذي جعلها على مقربة من تحقيق الاكتفاء الذاتي التام.

وحسب الخبير الفلاحي مصطفى بن ناوي، فإن ما يساعد الجزائر على تطوير شعبة الحبوب، هو أنها استطاعت منذ 2010 أن تحقق الاكتفاء الذاتي في مجال بذور الحبوب المقدرة سنويا بـ3.2 مليون قنطار مخصصة لـ3 ملايين هكتار من الأراضي الموجهة لزراعة الحبوب.

وأشار بن ناوي إلى أن العمل يجب أن يكون اليوم منصبا على تطوير البذور الجزائرية المتميزة بمقاومتها للجفاف، والتي تحتاج إلى ميزة إضافية تتعلق بتحقيق الإنتاج الوفير، وهو ما يجب العمل عليه من خلال إحداث طفرات جينية في هذه البذور، حيث تحافظ على ميزاتها الأساسية وتمتلك خصائص جديدة أبرزها أن تصبح بذورا ذات كمية إنتاجية مرتفعة، لأن التحدي الأساسي للجزائر اليوم هو تغطية حاجاتها من الحبوب.

وأنشأت الجزائر في 11 أغسطس أوت 2022 بنكا وطنيا للبذور، في إطارسياسة الحكومة الهادفة لتحقيق الأمن الغذائي للبلاد من خلال ترقية الإنتاج الوطني للبذور، وأتبع في 2023 ببنك وطني للجينات.

فتح الاستثمار

ظل القطاع الفلاحي في الجزائر لسنوات محصورا على الاستثمار المحلي، وهو ما جعله حسب البعض بعيدا عن التطور الذي حصل في هذا المجال باستغلال التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي لم يسمح بتطوير شعبة الحبوب بالشكل اللازم، وهو الجانب الذي تحاول الحكومة تداركه عبر الاستثمارات الأجنبية الكبرى الذي فتحتها في هذا المجال بالجنوب من خلال مشاريع فلاحية متكاملة.

ووقعت الجزائر وإيطاليا بداية تموز جويلية الماضي اتفاقا لتنفيذ مشروع ضخم لإنتاج القمح والبقوليات الجافة والبذور بولاية تيميمون، بشراكة  بين وزارة الفلاحة ومجموعة بونيفيكي فيراريزي الإيطالية، باستثمار بلغ 420 مليون يورو.

وينتظر أن ينتج المشروع الذي سينفذ على 36 ألف هكتار في 3 سنوات 170 ألف طن من القمح الصلب و11 ألف طن من الحمص و6 آلاف طن من العدس.

وتراهن الحكومة على دخول مستثمرين آخرين لتنفيذ مشاريع كبرى بالولايات الجنوبية، بالنظر لتوفر الأراضي اللازمة ووجود كميات معتبرة من المياه الجوفية غير المستغلة.

وبالنسبة لخبير الدولي في مجال الفلاحة والموارد المائية مصطفى بن ناوي، فإن أهمية المشروع الإيطالي في تيميمون تكمن في أنه استثمار متكامل ينطلق من الزراعة إلى الصناعة التحويلية وإنتاج العجائن، وهو ما سيسمح للإطارات والعمال الجزائريين من "خطف التكنولوجيا" من الشريك الإيطالي، مبينا في حديثه مع "الترا جزائر" أنه  بقينا لسنوات نتكلم عن نقل التكنولوجيا عبر عدة اتفاقيات وقعت، وهو ما لم يحدث مطلقا، لذا فإن هذه المشاريع هي من تمكن من نقل التقنيات الحديثة لزراعة الحبوب، بالنظر لأن العمال الجزائريين سيشاركون ميدانيا في تنفيذ هذا الاستثمار الضخم.

من المؤكد أن تقليص واردات الجزائر من الحبوب لم يعد اليوم مجرد خيار، إنما أصبح حتمية وجب تنفيذها، بالنظر للتقلبات التي تعرفها سوق هذه المادة الغذائية المهمة، وهو الهدف الذي لن يتم إلا بتكاثف جهود جميع الفاعلين في المجال الزراعي من فلاح وحكومة ومستثمرين.