ينافس التونسيون جيرانهم الجزائريين في الميل إلى الأكلات الحارة حتى إنهم يكادون أن يضعوا الفلفل حتى في الحليب، ما عدا في ثلاث مدن جزائرية إحداها مجاورة لتونس، أين يبلغ الطعم الحار ذروته في أكلة شعبية مقدسة في هذه المدن، حتى إنه لا يتم الاستغناء عنها في شهر رمضان ذي الخصوصية الغذائية.
تعتبر "الدوبارة" أكلة شعبية مقدسة في مدن "بسكرة" و"وادي سوف" و"باتنة" الجزائرية حتى إنه لا يتم الاستغناء عنها في شهر رمضان
هذه المدن هي "بسكرة" و"وادي سوف" و"باتنة"، كلها تبعد عن الجزائر العاصمة ما لا يقل عن 400 كيلومتر جنوبًا وشرقًا، وتسمى هذه الأكلة "الدوبارة" مع إضافة صفة "بسكرية" أو "سوفية" نسبة إلى مدينتي "بسكرة" و"وادي سوف"، اللتين تتنافسان على احتكار ملكية "الدوبارة"، ومن تجليات هذه المنافسة محاولة كل مدينة أن تعطي نكهة خاصة لدوبارتها، بسكرة تميل إلى اعتماد الحمص ووادي سوف تميل إلى الفول.
تتكون "الدوبارة" من حمص أو فول مغلي في ماء فيه توابل وملح وزيت زيتون، يوضع في صحن مع البصل والطماطم وكثير من الفلفل بكل أنواعه، بما يجعل أكلها على غير المتعودين عليها أقربَ إلى العقوبة/العذاب منها إلى المتعة. فقد عاينّا بعضًا من هؤلاء في "باتنة"، ولمسنا سعالهم ودموعهم في ظل ضحك الحاضرين. حدث ذلك مع شابين صينيين، قال أحدهما: "ليس الطعم الحار غريبًا عن المطبخ الصيني، لكن ليس إلى هذه الدرجة.. هذا إرهاب".
اقرأ/ي أيضًا: الجزائريون لسائق الأجرة: "نثق بك"
هنا اعترف المسرحي العراقي جواد الأسدي الذي رافقنا إلى محلات "الدوبارة"، الواقعة خلف مسرح مدينة "باتنة" حيث يُعد تركيبًا شعريًا-مسرحيًا يختتم فعاليات تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية" نهاية هذا الشهر، بأنه لا يستسيغ أكلة بلا فلفل أو هريسة لكن ليس بالجرعة التي تتوفر عليها "الدوبارة". ويقول: "تعودت على أن آكل الدوبارة باكرًا منذ قدومي إلى "باتنة"، فهي تمنحني طاقة كبيرة وتغنيني عن الأكل إلى المساء، غير أنني أحرص على أن تكون بفلفل قليل".
لحظتها قام شاب من أبناء المدينة وطلب من "الحمامصي" -هكذا يسمى بائع "الدوبارة"- أن يجعل الفلفل مضاعفًا وانطلق في احتساء الصحن من غير خبز، وهو ما ضاعف دهشتنا، كنا نتوقع أن يتوقف في أية لحظة لكنه احتسى الصحن كله والتفت إلينا متحديًا: "أقسم إنني مستعد لأن أتناول صحنين آخرين من غير أن أشرب الماء لا أثناء الأكل ولا بعده بخمس ساعات".
تتكون "الدوبارة" من حمص أو فول مغلي في ماء فيه توابل وملح وزيت زيتون، يوضع في صحن مع البصل والطماطم وكثير من الفلفل بكل أنواعه
الشاب قال لـ"الترا صوت" إنه يأكل الدوبارة يوميًا بما في ذلك أيام الصيام في شهر رمضان، "حين يُرفع أذان الإفطار في رمضان يبدأ أفراد أسرتي بالشوربة تمامًا كما يفعل الجزائريون جميعًا، إلاي فإنني أفتتح بالدوبارة". سألنا الحمامصي عن هذا، فقال إن "إقبال الناس على الدوبارة في رمضان لا يختلف عن إقبالهم عليها في الأشهر الأخرى". وأضاف: "تكون جاهزة ثلاث ساعات قبل الإفطار، فيأتي محبوها لأخذها إلى البيوت إما في أكياس خاصة وإما في أواني يُحضرونها معهم".
اقرأ/ي أيضًا: "شاو ربيع".. تظاهرة الجزائر الخضراء
تعمدنا أن نقصد محلات البيتزا المقابلة لشارع "الحمامصية" لنرصد أسباب إقبال الشباب عليها بالمقارنة مع إقبالهم على محلات "الدوبارة"، فقال لنا سفيان، 21 عامًا، إنه "يأكل البيتزا حوالي خمس مرات في الشهر في مقابل اثنتي عشرة مرة للدوبارة". يوضح: "سعر البيتزا هو نفسه سعر الدوبارة، 150 دينارًا ما يساوي دولارًا واحدًا، لكنني أفضل الدوبارة خاصة في المواسم الباردة".
الحاج رابح، الذي ورث محل "الدوبارة" عن أبيه الراحل عام 1989، قال إنه "يشرع في استقبال الزبائن مباشرة بعد انتهاء صلاة الفجر في المساجد، إلى غاية نفاذ الكمية، عادة ما يكون ذلك قبل الساعة الثالثة، ومن النادر أن تجد محلًا مفتوحًا بعد هذا التوقيت".
من النوادر التي صادفتنا في مسعى الطواف على محلات "الدوبارة" في "باتنة" بما فيها تلك التي يشرف عليها طباخون من مدينتي "بسكرة" و"وادي سوف، حديث الشاب عز الدين، 29 عامًا، عن علاقة والده الراحل بالدوبارة. يقول: "كان يشتغل في فرنسا ولا يزورنا إلا مرة واحدة في العام يأكل فيها دوبارة في شارع الحمامصية قبل أن يقصد البيت، وقد أصيب في سنواته الأخيرة بسرطان المعدة، ما جعل الطبيب يحرص على أن نقدم له طعامًا خاليًا من التوابل خاصة الحارة، لكنه غافلنا يومًا وأكل دوبارة فكانت آخرَ ما دخل جوفَه".
اقرأ/ي أيضًا: